كثيرون هم الذين سمعوا بفوز قصة الأديب اللبناني أمين معلوف (صخرة طانيوس) بجائزة (غونكور) الفرنسية.. وقليلون هم الذين يعرفون ماهي؟ وكيف وجدت؟ وها أنا أسلط الضوء عليها وأبرز خلفياتها وفق ما قرأت في بعض المصادر، ليعرف القارىء كم من المصاعب والمشقات ترافق إيجاد جائزة تقديرية، تحرّك المواهب وتصقلها، وكيف أن الجوائز العالمية الكبيرة ما كانت لتكون لولا طموح أشخاص عاديين أرادوا خلق عامل تشجيعي راق في مجتمعاتهم، تماماً كما فعل الأخوان ادمون وجول غونكور الفرنسيان، إذ أن الأول ولد في مدينة (نانسي) الفرنسية عام 1822، والثاني في العاصمة (باريس) عام 1830.إدمون غونكور المحامي، الذي لـم يمارس مهنة المحاماة سوى ساعات قليلة في مكتب أحد المحامين، لأن الله شاءه أن يسخّر قواه مع أخيه (جول) لخدمة الفكر والأدب، فأوجدا فناً أدبياً جديداً جعل شهرتهما تطير في الآفاق، وجعلهما يخططان لعالم أدبي رحب، لا تقيّده حدود، ولا تحدّه لغات، ولكن القدر كان لهما بالمرصاد، فتوفّى اللـه الأخ الأصغر (جول) وهو في الأربعين من عمره، أي في ريعان شبابه وقمّة عطائه، فأقسم (ادمون) أن يحمل الرسالة وحده وطيف أخيه لا يفارق مخيّلته.
وكان للأخوين (غونكور) مدخول جيد من المال ساعدهما على مزاولة الكتابة، دون اللجوء إلى العمل.. وحتى يظهرا شكرهما للـه تعالى على نعمه، قرّرا، بعد وفاتهما، تأسيس مجمع أدبي يضمّ عشرة أدباء، يمنحون إيراداً سنوياً يوفّر عليهم عناء البحث عن عمل، ليخصصوا كل وقتهم للعمل المبدع، شرط أن لا يضمّ هذا المجمع سياسيين أو أعضاء من المجمع العلمي الفرنسي، على أن يخصص قسم من ثروتهما لمنح مكافآت في كافة مجالات التأليف والإبداع. وأعتقد أنهما أدركا مسبقاً أن دخول السياسيين مجمعهما الإبداعي سيحوله من نعمة إلى نقمة، ومن حلم إلى كابوس، ومن الشفافية إلى الكذب والتدليس والإحتيال والمراوغة، وهذا ما سينطبق على أعضاء المجمع العلمي الفرنسي أيضاً، الذين لن يروا سوى أنفسهم، ولن يشجعوا سوى أنفسهم، ولن يكافئوا سوى أنفسهم. تماماً كما يحدث في معظم أنديتنا الفكرية والعلمية في الوطن العربي.
ومما جاء في يوميّات (ادمون غونكور) التي كتبها في نيسان 1884: (بودي إيجاد مجمع يكفل العيش الكريم لعشرة أدباء، أجبرهم فقرهم على إضاعة مواهبهم الأدبية والعمل في مكاتب الوزارات والمهــن الصحفية التافهة..) فلقد كان يعتقد أن العمل في مكاتب الوزارات، وفي المهن الصحفية المختلفة تافه للغاية، كونه يلجم الكاتب ويحد من إبداعه، ويخضعه للمناقشة الدائمة، وللمسايرة والدجل بغية كسب لقمة عيشه. ولكنه سرعان ما تخلّى عن هذه الوصيّة، ليكتب وصيّة أخرى يهب بها جميع أمواله وعقاراته ومقتنياته (لألفونس دوده و ليون هانيك) شرط أن يؤسسا مجمعاً أدبياً اسمه (مؤسسة غونكور)، وأن ينفّذا الخطة التي رسمها لهما في وصيته الثانية. وبعد وفاته اجتمع أقرباؤه المشتتون في فرنسا وأفريقيا وباقي الدول، وما أقلهم قبل الوفاة وأكثرهم بعدها، خاصة ساعة توزيع الإرث، وقرروا نقض الوصية أمام المحاكـم، فأوكلوا المحامي القدير (شينو) للدفاع عنهــم، كما أوكل (دوده وهانيك) المحامي (بوانكاريه).
(شينو) محامي الورثة قال انه لا يجوز التوصية بمال وبمقتنيات لمجمع أدبي لـم يظهر بعد، لأنه لا يجوز أن تمر فترة من الوقت، لا أحد يدري مدتها، وأملاك المتوفي بدون وريث شرعي، خاصة وأن القانون الفرنسي يدعو إلى أن يكون لكل ملك مالك، واتهم محامي الورثـة المتوفي (ادمون غونكور) بالغرور والكبرياء لتخليد اسمه وحرمان ورثته بالدم.. هكذا والله!
أما (بوانكاريه) فقد هزأ من ادعاءات زميله، مثبتاً أن ثروة الأخوين (غونكور) لـم تصل إليهما عن طريق الوراثة، ليكون للأقرباء الحق بها، مظهراً بالوثائق الرسمية أن ثروتهما بلغت مليون وثلاثـمئة وخمسين ألف فرنك فرنسي، جمعها الأخوان بكدهما ونشاطهما، ومن العار أن تحرم البشرية، وخاصة الأدباء، من التنعم بها. ولـم تشأ العدالة الفرنسيّة أن تحرم الكون من الإستفادة من وصيّة (غونكور)، فاعطت حكمها لصالح تنفيذها، وأنشأت الحكومة الفرنسية أكاديمية تحمل اسمه. صحيح أن المحامي (شينو) قد اتهم (ادمون غونكور) بالأنانية لتخليد اسمه، ولكن هذه الأنانية كانت أقرب الى القداسة منها إلى العمل البشري، ولهذا بقيت مؤسسته خالدة إلى يومنا هذا، تزرع النور في كل بقعة من بقاع الأرض، وقد زرعته منذ سنوات في (عين القبو ـ المتن الشمالي ـ لبنان) قرية المؤلف اللبناني (الغونكوري) أمين معلوف.
التعليقات