انقر هنا لمعرفة الخلفية التاريخية لهذه القصص
1- إيفان ياكوفليفتش
لدانييل خارمس
دخل رجل ملّ من أكل البازليا الى محل كبير لبيع المأكولات الممتازة بحثا عن غذاء بديل من السمك أو المقانق أو حتى الجبنة ومشتقاتها.
في قسم المُقدّدات وجد الكثير من الأشياء الشهية، إلا أن أكثر ما جلب إنتباهه كانت شرائح من فخذ الخنزير المملح، سعرها 18 روبل، وهذا مبلغ مرتفع جدا. أخيرا وقع بصره على نوع من المقانق، بسعر معقول نسبيا، كان لونه أحمر وفيه نقاط سوداء غامقة. إلا أن رائحته كانت شبيهة برائحة الجبنة، لذلك نصحه البائع بألا يشتريه.
في قسم السمك لم يكن هناك أي شيء، إذ أن هذا القسم كان قد نقل مؤقتا الى القسم الذي كانت تباع فيه سابقا المشروبات الروحية، بعد نقله الى قسم المعجنات، أما قسم المعجنات فقد نقل إلى قسم الألبان، حيث يعمل بائع له أنف هائل، ينشر الرعب لدى الزبائن، و يجعلهم يختفون تحت الحاجز الذي يفصل بينهم وبينه دون أن يجرأوا على الحديث معه.
بعد أن تجول الرجل الذي نتحدث عنه هنا في كافة أقسام المحل دون أن يجد ما يبحث عنه، خرج الى الشارع.
هذا الرجل الذي بدأت بالحديث عنه لا يمتلك أي صفات مهمة يمكن التطرق اليها. فهو رجل رشيق الى حد ما وشاحب الى حد ما وكسول الى حد ما. و لا أتذكر حتى ما كان يرتديه. كل ما أتذكر هو أنه كان يرتدي شيئا بنيا، ربما البنطال أو الجاكيت، أو ربطة العنق. أعتقد أن أسمه كان إيفان ياكوفليفتش.
غادر إيفان ياكوفليفتش المخزن متجها الى البيت. في البيت خلع إيفان ياكوفليفتش طاقيته، ولف لنفسه سيكارة من "الماخوركا" *، قبل أن يجلس على الأريكة ، ثم وضع السيكارة في فمه وأشعلها. لف سيكارة ثانية ودخنها، ثم قام من مكانه، وضع الطاقية على رأسه وخرج الى الشارع.
شعر بالقرف من حياته البسيطة الخالية من الخصوصية، فقرر الذهاب الى متحف "الأرميتاج".
بعد وصوله الى شارع فوتانكا توقف عن السير وأراد أن يعود الى البيت. غير أنه شعر بالخجل من المارة الذين قد ينتبهون له ويلاحقونه بنظراتهم، المستغربة من هذا الرجل الذي سار وسار ثم توقف فجأة ليسير في الإتجاه المعاكس. سلوك من هذا النوع يجذب دائما إنتباه المارة.
وقف إيفان ياكوفليفتش عند الزاوية أمام صيدلية. ولكي يبرر وقوفه المفاجيء أمام المارة تصرف كما لو كان بصدد البحث عن بناية معينة. أستمر يحدق في البيانة وسار بضع خطوات في شارع فوتانكا، ثم إستدار بلا مبرر ليدخل الصيدلية، وسط حشد كبير من البشر. حاول أن يشق لنفسه طريقا بينهم ليصل الى المكان الذي يقف وراءه الصيدلي، إلا أنه سرعان ما تخلى عن ذلك بسبب الزحام. نظر الى خزانة زجاجية في داخلها زجاجات مختلفة الشكل تحتوي على العطور والكولونيا.
ليس من المجدي الحديث عن كل ما فعله إيفان ياكوفليفتش، فكل أفعاله صغيرة ولا معنى لها. المهم أنه لم يصل الى الإرميتاج وعاد في حدود الساعة السادسة الى البيت، حيث دخن أربع سكائر ماخوركا واحدة بعد الأخرى ثم أستلقى على الأريكة محاولا النوم وقد أدار وجهه نحو الجدار. لم يتمكن من النوم ربما بسبب التدخين الذي جعل قلبه يدق بشدة.
جلس إيفان ياكوفليفتش على الأريكة، واضعا رجليه على الأرض بإسترخاء، وأستمر جالسا هكذا حتى الساعة الثامنة والنصف.
قال إيفان ياكوفليفتش:"كم أود أن أقع في حب امرأة شابة."
وأغلق فمه بيده، فاتحا عينيه على سعتهما.
"فتاة سمراء كتلك التي رأيتها اليوم في الشارع."
قال ذلك بعد أن رفع يده عن فمه.
ثم لف سيكارة ودخنها. دق جرس الباب ثلاث دقات متتالية.
قال إيفان ياكوفليفتش: "هناك من يريد أن يزورني."
غير انه بقي جالسا على الأريكة مواصلا التدخين.
* تبغ غير مصنع كان يدخنه الفلاحون في روسيا.
***
وزتي الأولى
لإيساك بابل
نهض سافيتزكي، قائد الفرقة السادسة من مكانه، حالما وقع بصره علي، فنظرت اليه معجبا بقوامه المعتدل. وقف أمامي وكان اللون القرمزي لسروال الخيالة الذي يرتديه وطاقيته الحمراء والأوسمة التي يحملها على صدره تشع في الكوخ مثلما تشع الرايات في الفضاء. فاحت منه رائحة العطر والصابون. وكانت سيقانه الطويلة مثل صبايا جرى حشرهن في جزمة الخيالة اللامعة.
أبتسم لي ودق بسوطه على المائدة، ثم مد يده ليستلم الأوامرالتي أملاها قبل لحظات على السكرتير، يطلب فيها من إيفان تشيسنوكوف أن يتوجه مع كتيبته نحو تشوغونوف-دوبريفودكا وأن يدمر العدو في حالة لقائه.
وورد في أوامر القائد ما يلي: "سأحملك مسؤولية تدمير العدو بشكل كامل فيما عدا ذلك ستتعرض لأقسى عقوبة ممكنة وسأنفذها بك حالا، هذا أمر تعرفه يا رفيق تشيسنوكوف، حيث أننا نعمل منذ فترة طويلة سوية على الجبهة." بعد أن وقع على الأمر وسلمه للمراسل نظر نحوي بعينيه البنيتين، نظرة تشي بالفرح. أعطيته الورقة التي ورد فيها بأني قد اُلْحقت بكتيبته. "إطلعه على الأوامر اليومية. وضعه في قائمة التموين لإشباع كافة متطلباته الحياتية، إلا ما يتعلق بالصف المتقدم. هل تجيد القراءة والكتابة؟"
أجبته وأنا مازلت مسحورا بشبابه وصلابته: "نعم أجيد القراءة والكتابة، وأدرس القانون في جامعة بيترسبورغ."
قال ضاحكا: "بزر حليب! فوق ذلك اراك تحمل نظارة على أنفك. يا للبؤس! لماذا يرسلون لنا أمثالك دون أن يسألنا أحد؟ لا أحد هنا يحب حاملي النظارات. هل تريد مع هذا البقاء هنا؟ ها؟"
قلت " بكل سرور"، وذهبت مع المسؤول عن السكن الى القرية للبحث عن مكان أنام فيه.
حمل مسؤول السكن حقيبتي الخشبية على كتفه، وأمتد شارع القرية أمامنا أصفرا ومكورا مثل البطيخ، وفي السماء نفقت الشمس في بحيرة من الدم.
وصلنا الى كوخ لُوّنت شبابيكه بألوان صارخة. توقف مسؤول السكن وقال لي وقد أرتسمت على وجهه إبتسامة تكشف شعوره بالذنب: "هذا المكان كارثة لمن يحمل نظارة، حيث لا يتركه الناس بسلام. يبعثون لنا بالمتعلمين فنقابلهم بالأذى والشر. لكن الجنود سيحبونك لو قمت بإغتصاب سيدة محترمة."
توقف بعض الوقت وهو يحمل حقيبتي، أقترب مني، ثم حسم أمره أخيرا ودخل الحوش الأول، حيث جلس قوزاق على الكلأ وراح يحلق أحدهم الآخر. قال مسؤول السكن موجها كلامه لهم: "أيها الجنود! بناء على أمر من الرفيق سافتزكي سيقاسمكم هذا الرجل السكن. بلا حماقات. فهو رجل أجهد نفسه من أجل المعرفة."
أثناء حديثه راح وجهه يزداد إحمرارا، ثم تركني هناك دون ان يدير بصره نحوي. وضعت يدي على طاقيتي وحييت القوزاق.
تقدم مني شاب أشقر وسيم، حمل حقيبتي ورماها الى الشارع، ثم أدار لي ظهره وراح يطلق أصواتا مخجلة من مؤخرته. ناداه أحد القوزاق الأكبر في السن قائلا: "مدفع صفر صفر! إطلاقات سريعة!"
وبعد أن انهى الشاب إستعراضه أبتعد عني، بينما رحت أجمع مسوداتي وملابسي الداخلية الممزقة التي سقطت من الحقيبة وأنا أجلس على الأرض. حملت حقيبتى ومضيت الى الجانب الثاني من الحوش. الى جانب الكوخ كان ثمة قدر موضوع على النار تفوح منه رائحة لحم الخنزير مع البخار مما ذكرني ببيت أبي في قريتنا النائية. ومع أزدياد الجوع راودني شعور عميق بالوحدة. غطيت الحقيبة بالكلأ لكي أستخدمها كوسادة وأستلقيت على الأرض تحت أشعة الشمس المشرقة وراء سلسلة الجبال، ثم أنصرفت لقراءة خطاب لينين في المؤتمر الثاني للكومنترن المنشور في صحيفة الـ "برافدا". بين وقت وآخر كان يمر بي أحد القوزاق ساخرا مني، دون أن أبدي أي إهتمام بذلك. أخيرا وضعت الصحيفة جانبا وتوجهت نحو إمرأة عجوز منصرفة للحياكة تجلس عند مدخل الكوخ. قلت لها "أيتها الفلاحةأريد أن آكل!"
نظرت العجوز نحوي بعينيها المتعكرة البياض بسبب قصر النظر، ثم سرعان ما أشاحت بصرها عني. بعد فترة من الصمت قالت: "بسبب كل هذه المشاكل يا رفيق أود أن أشنق نفسي."
"عليك اللعنة"، قلت بغضب وضربت العجوز بقبضة يدي على صدرها "لن أشغل نفسي معك طويلا."
أدرت ظهري لها، فرأيت سيفا مرميا على الأرض، ووقع نظري على وزة تسير وسط الحوش بزهو وتنظف ريشها بين وقت وآخر. أمسكت بها ووضعت رأسها على الأرض، ساحقا رقبتها بجزمتي، حتى سال دمها ورأيت رقبتها البيضاء على الأرض، بينما راحت أجنحتها ترفرف فوق جسدها الميت. قلت: "اللعنة!" ثم غرزت شفرة السيف في الوزة "إشويها لي ياعجوز."" ألتمعت عينا العجوز الباهتتان من وراء زجاج النظارة وهي ترفع الوزة عن الأرض وتتجه نحو المطبخ قائلة: "يارفيق أريد أن أشنق نفسي."، ثم أغلقت الباب. في هذه الأثناء أجتمع القوزاق حول القدر، وجلسوا هناك بأجساد مستقيمة و بلا حراك كما لو كانوا كهنة يحيطون بضحية، لا يهمهم مصير الوزة. قال أحدهم: "هذا الشاب ملائم لنا." وغمز لي بعينه وهو يغطس ملعقته في صحن الحساء.
تناول القوزاق طعامهم على طريقة فلاحين يعتز أحدهم بالآخر بتواضع. اما انا فقد نظفت السيف بالرمل وغادرت الحوش. وبعد فترة من الزمن عدت متعبا ومرهقا. بدا القمر معلقا في السماء فوق الحوش مثل قرط أذن رخيص.
قال لي سوروفكوف، وهو أكبر القوزاق في السن: "اجلس معنا يا أخ وكل معنا حتى تكون الوزة جاهزة."
ثم أخرج ملعقة من جزمته وأعطاها لي. تناولنا الحساء ولحم الخنزير.
قال الشاب الأصفر الشعر: "ماذا يقولون في الجريدة؟"
قلت له وأنا أقرأ الجريدة: "يقول لينين بأننا نفتقد لكل شيء."
قرأت على القوزاق خطاب لينين بصوت مرتفع كما لو كنت مصابا بالصمم. وغطاني المساء برطوبة أغطيته المظلمة ووضع يده على جبيني الملتهب حرارة مثل أم حنون.
رحت أقرأ متشفيا ومتابعا بفرح الزوايا المبهمة في الخطوط المستقيمة لخطاب لينين.
بعد أن أنتهيت من القراءة قال سوروفكوف: "الحقيقة تنخر الأنف. ولكن كيف يمكننا أن نخرجها من الركام؟ أما هو فأنه يحفر في الركام وينقر فيه مثل الدجاجة حتى يعثر عليها."
هذا ما قاله سوروفكوف، وهو قائد فصيلة تابعة للفرقة السادسة عن لينين. ثم أستلقينا جميعا على العشب لننام. كنا ستة أشخاص.رحنا ندفء بسيقاننا بعضنا البعض تحت السقف المليء بالثقوب التي تتسلل منها النجوم. أثناء نومي حلمت بنساء عديدات، غير أن قلبي المتسخ راح ينزف ويطلق الحسرات حُزنا على الضحية
***
هنا تُباع الطماطم
(مقطع من رواية "السنة العارية" لبوريس بلنياك)
في المدينة، مَدَني، مِثْل أهل المدينة.
المدينة القديمة تضطجع ميتة. عمرها ألف سنة.
سماء تلتهب حرارة ترش ضبابا مرتجفا يلتهب حرارة.
والمساء يَعِد بغروب أصفر وطويل.
فوق السماء الحارة الملتهبة تمتد زرقة لا نهاية لها، الكنائس وممرات الأديرة، البيوت والحقول تشتعل. حلم يقظة. الإيقاع الزجاجي لأجراس الكاتدرائية يمزق الهدوء الممل: دونغ، دونغ، دونغ! كل خمس دقائق. هذه الأيام تشبه حلم يقظة.
على بوابة الدير قطعة مزينة بنجمة حمراء كتب عليها:
"الميليشيا الشعبية لمجلس السوفييت في أوردينين."
عند بوابة الدير يقف حارس. من القليّات البعيدة تأتي أصوات عزف بالكلارينيت، فرئيس الميليشيا الشعبية، الرفيق يان لايتيس يتعلم العزف على الكلارينيت. دير "تضحية ماريا على الجبل" قديم جدا؛ يتنقل المرء من قليّة الى أخرى؛ من كنيسة الى أخرى من خلال ممرات تحيط بها غرف ضيقة أحاطها الزمن بالظلام وسط جدران بيضاء. أثناء الليل يشبه الدير، مثله مثل كاتدرائية موسكو، ديكور مسرح. تضحية ماريا على الجبل: نعم، في أزمنة سابقة كانت روسيا تريد أن تغادر موسكو من خلال البوابات بإتجاه الشرق والشمال، من دير الى دير، حاملة معها العداء للكنيسة. تقع أوردينين في الجهة الأخرى من الكاما، في الجنوب برية بلا حدود، وفي الشمال غابات ومستنقعات وفي الشرق سلسة جبال. اوردينين مدينة قائمة على تل يشرف على الفولغا، تحيطها الغابات، مدينة من حجر. ولا أحد يعرف من سُمّي بإسم من: عائلة النبلاء أوردينين بإسم المدينة ام العكس. *
قبل سبعين سنة ظهرت على المدينة مظاهر الحياة للمرة الأخيرة. في زمن ما – لا يعرف إسمه سوى الشيطان- أختفت روسيا عن الوجود، وبرزت بدلا عنها أرض واسعة أصابها الجفاف بسبب الحرارة الشديدة ، تظهر فيها بين وقت وآخرمراكز بريد يمر بها موظفون في طريقهم الى بيترسبورغ، ليقدموا للقيصر أوراقا تحمل تواقيعهم الجريئة ليُصدّق عليها، ولم يكن لهؤلاء الموظفين وجوها، بل حلّ مكان الوجه شئٌ لا حياة فيه مكون من قطعة قماش زرقاء من مخزن الملابس العسكرية. ولم يكن صدفةً أن الموظفين كانوا يجولون البلاد وهم يرتدون معاطف سميكة من الفرو في حر تموز، كما ورد في كتابات غوغول، وذلك لغرض الحصول على جوازات مرور من محطات البريد يتنقلون بها من مدينة الى أخرى ترافقهم أصوات النواقيس الصغيرة التي يحملونها معهم. كان وجه روسيا في ذلك الوقت شاحبا مثل وجوه الموظفين، وكانت كل أشهر السنة مثل تموز الذي يحرق كل شيء جالبا معه الجوع والجفاف، لهذا فأنه ليس من المستغرب أن مدينة سيواستوبول قد نشأت خلال تلك الفترة. من ذلك الزمن بقي قرب قلعة المدينة، قرب نقطة الحراسة مقابل بوابة الدير بيت وحيد بني وفق أسلوب معماري مضخّم يدل على إنعدام الذوق، قرب هذه البناية توجد نقطة تفتيش، ذات لون قرمزي وأعمدة بيضاء وسط شبابيك محاطة باللون الأزرق. أما عائلة أوردينين النبيلة فقد أنقسمت الى فخذين مازال أحدهما يحمل أسمه القديم، بينما حمل الفخذ الآخر إسم فولكوفيتش، وكان مصيره الإنقراض، وهكذا أضطر أندريه الذي كان آخر من يحمل هذا اللقب لأن يقيم في غرفة صغيرة تقع في زاوية البيت، وفي القبو سكن الإسكافي سيميون ماتوييف سيلوتوف، أما الغرف الواقعة في الطابق الثاني فقد تم تأجيرهما للآنسة السوفيتية أولينكا كونز وللمواطن سيرغي سيرغييفتش. اما عائلة أوردينين فقد أستقرت في الجانب الثاني من الحديقة قرب المدخل القريب من الكاتدرائية القديمة، في بيت عادي، حصلت عليه الأم أوردينين كمهر.
مقابل البيت كانت تقع بوابة الدير والى اليمين منه ساحة الكاتدرائية بأحجارها التي تآكلت وتراخت بسبب حرارة الصيف، في الجهة الأخرى من الساحة يقع بيت أوردينين الضخم الذي يدل كذلك على إنعدام الذوق (كان هذا البيت في الماضي ملكا لعائلة التاجر بوبكوف)، ويوجد خلف البيت منحدر نمت عليه أشجار الصنوبر ذات الجذوع البيضاء. من بوابة المدينة الواقعة على التل يمكن رؤية نهر الفولغا ثم ينتقل البصر عبر البرك التي بقيت بسبب الفيضان الأخير ليستقر على أبراج الكنائس البيضاء ومن بينها تلك التابعة لدير ريدينيف. وخلف الغابة أرتفعت مداخن سوداء نحو السماء: المصنع، عالم آخر.
سماء ملتهبة تصب ضبابا ساخنا، مرتجفا والمساء يعد بغروب أصفر وطويل – عند هذا المساء هناك شعلة من النار: الجياع الذين يقطعون البادية بحثا عن الخبز يطبخون حساءا، ويرددن أغان حزينة. لقد حل النوم على المدينة التي شاخت بسبب الحرب المستمرة. ليلا يأتي الضباب من البرك. ليلا تدور في المدينة فرق عسكرية مسلحة بالبنادق. ليلا- في هذه الليلة يهبط المواطن سيرجي سيرجييف وهو لا يرتدي سوى ملابسه الداخلية الى السرداب، حيث يسكن سيميون ماتوييف سيلوتوف، ويجلس على طريقة العزاب قرب الشباك، ساحبا ساقيه المصابين بالورم وهو يتحدث بأنبهار عن وجبة تتكون من حساء البطاطس وكريات اللحم.
"دونغ، دونغ، دونغ!" تدق أجراس الكاتدرائية. زمن آخر. قرننا الحالي.
تنقبض أسارير سيميون ماتوييف سيلوتوف، ويغمض عينه المصابة بالحول وهو يقول: " نحن الآن في سنة ثمانية آلاف وأربعمئة وسبعة وعشرين. أقسم، اللعنة على الشيطان، بالنجمة الخماسية!"
على مقربة من نافذة السرداب توجد قطعة من الكارتون رُسم عليها رمزا يدل على مهنة الإسكافي. مقابلها وُضعت لوحة كُتب عليها:
"الميليشيا الشعبية لمجلس السوفييت في أوردينين."
والى جانب هذه اللوحة ألصقت ورقة كٌتب عليها:
"هنا تباع الطماطم."
وقد رسمت عليها قطعة طماطم حمراء.
الأرض تلتهب. في قلعة المدينة هدوء قاتل. أزمنة أخرى. حلم يقظة. بعد الظهر تعود أولينكا كونز من العمل لدى الميليشيا الشعبية، تُتمتم أغانيها المحببة وتذهب مساء مع صديقاتها الى سينما "البندقية"
"دونغ، دونغ، دونغ" تدق النواقيس.
"هنا تباع الطماطم."
* بالمناسبة تحول أفراد هذه العائلة النبيلة الى مرابين (ملاحظة من الكاتب)
التعليقات