توفي مؤخرا واحد من اكبر شعراء مدرسة "الجبل الأسود" الأمريكية: روبرت كريلي عن عمر يناهز الـ76 سنة. ومع ان شهرته بدأت عبر هذه الحركة التي مهدت لحركة شعراء اللغة، إلا أن اسمه ارتبط دائما بجيل البيتنك، وبالأخص بعلاقته الشعرية والأساسية بألن غينزبرغ وجاك كيرواك. نشر ما يقارب ستين عملا شعريا ونثريا. ننشر هنا مقالا له عن الكتابة على أمل أن نعود إليه بملف كامل حول تجربته الشعرية الأساسية في الشعر الأمريكية.
روبرت كريلي: في الكتابة
ترجمة : خالدة حامد
ــ 1 ــ
كنت، قبل سنوات، أحاول شراء بعض السلع في بوسطن، وبعد محادثة قصيرة سألني البائع ان كان بمقدوري تدريسه كي "يحسّن إنكليزيته" حتى يضمن لنفسه وظيفة افضل. اعتقد ان عادة النظر إلى حقيقة التكلم والكتابة والقراءة، بالتساوي، مترسخة في كل شخص يمر بنظام تعلمنا المعتاد. ثمة إحساس حاضر بقوة يقول بوجود طريقة "صائبة" وطريقة "خاطئة" وان ما يحاول المرء تعلميه / أو تعلمه هو النهج الصحيح. لكن قدر تعلق الأمر بي، فان الكتابة معادية تماماً لمثل هذا الافتراض. ومن الواضح هناك أمثلة؛ حقائق كتابة يستجيب لها المرء ويحترمها، وتصبح معياراً لممارسته. وتعد مثل هذه المعايير شخصية ولا ريب، بغض النظر عما تبدو عليه بصفة حالات تمثل الاهتمام العام أو الشخصي، قد يكون ملايين الناس مهتمين بما يقوله بوب ديلان، لكن المسألة الأهم بالنسبة إلي هي أن كل شخص يستمع له بوصفه حالة فردية.
إنها، في الحقيقة، إحدى ملذات الكتابة، بمعنى إنها علاقة متبادلة. وأنا أرى أن أكثر إمكانياتها فاعلية تكمن في تلك الحقيقة. أعلم أن الكثير من الناس قد يصلون إلى الكلية وهم يُبدون مقاومة ملحوظة للكتابة، لكن تارة أخرى أقول أن افتراض أنهم خضعوا لمسألة الصواب والخطأ يبدو جليا تماماً عندما نعلم أنه تم استعمال الكتابة بوصفها انضباطاً ضدهم بالدرجة الأساس. وحتى عندما ينجزوا ذلك بصورة صحيحة، غالباً ما تكون النتيجة هي التعميم التام لاهتماماتهم، وان ما انطلقوا به من حقيقة واضحة وعلاقتهم بها قد تحوّل إلى "استعمال صحيح"، فقط.
لا شك في أن اللغة، أية لغة، هي نسق، وان الاعتياد مع طبيعة ذلك الشرط مفيد للغاية. لكن ما الفرق بين نص نحوي معتاد في الكلية، وكتاب من قبيل "الخاصية الصينية المكتوبة بوصفها وسيلة للشعر" لمؤلفه ايرنست فيتولوسا ـ أو كتاب جيرترود شتين "الشعر والنحو" الذي يتناول أقسام الكلام ـ أو كتاب "اللغة" لادوارد سابير. يتضح ان اهتمامي منصب على مثل هذه الأمور، ولا يمكن ان افترض صلتها بأمر آخر. لكن ارغب بالقول ان المسألة هي اني عند التدريس اعتمد تماما على نصوص ترتبط بوضوح باللغة بوصفها نسقاً بدلا من ارتباطها "بكتاب القواعد" المعمّم على الدوام.
لكن هذا يقلب الوضع رأساً على عقب لأنه عند تدريس الكتاب، أو أي احتمال آخر، يبدأ المرء بالطلاب أنفسهم، فإذا كنت أتكلم الفرنسية وهم يتكلمون الصينية، لن يحدث أي اتصال. ليس الانغمار هو ما يحث على فائدة التعرف على تفصيلات ومحتوى ما يقترح المرء تدريسه.
إذن، "لماذا نكتب؟" ـ وهل نجد هنا أية إمكانية يقيّمها هؤلاء [الطلاب]؟ ماذا يقرأون، إن كانوا يقرأون؟ ما المنافع التي يجنوها من الكتابة، إن وجدت؟ هل الكتابة نشاط تتطلبه مقرراتهم الدراسية الأخرى؛ التقارير، التحليلات، الشروح،… الخ؟.
لا تتملكك الخيبة إن لم يحدث، في البداية، أي شيء على الإطلاق. كنت مرة في صف للكتابة يقوم بتدريسه ديلمور شوارتز الذي ابتدأ بافتراض عقلاني مفاده ضرورة وجود كاتب واحد نشترك جميعنا في احترامه. وللأسف لم يكن هناك مثل هذا الكاتب ؛ وانغمر الصف في تلك المعضلة للجزء الأعظم من الفصل الدراسي. لم يكن الأمر في انه كان مخطئا أو مصيبا، بل لأن أي افتراض يتعلق بما يمكن ان يحدث، أو بما ينبغي أن يحدث، لابد من ان يوصل المرء إلى الموقف الواقعي. غالباً ما يعتاد الأشخاص الذين يقوم المرء بتدريسهم على الشعور بأن القراءة والكتابة نشاطان هدفهما الأساس هو الحصول على معلومات تعليمية، وفي الصف الذي يأمل بعدم التركيز على " الموضوع " أو التعريف بمضمون محدد له هذا النظام يبدي عدد كبير من الطلاب سخطهم وسيشعرون بان هذا المقرر الدراسي هو مضيعة للوقت. أما الآخرون، الذين يبدو اهتماماً متعاطفاً، فيطالبون فوراً بمعرفة طرق الكتابة التي ستكون الأنفع لمقاصدهم وسيتوقعون ان يتم تدريسها لهم بطريقة حرفية نوعاً ما ـ أي بإعطاء ملاحظات ملائمة عن " الأداء " الوافي وغير الوافي ـ ولعلّي اقترح التوقف فوراً عن هذين التوجهين ؛ إذ ليس ثمة طريق هنا يمكن للمرء ان يسلكه، ولا شيء هنا يمكن للمرء ان يقوله ما يبدو مهماً لهم في تلك اللحظة، وان لم يكن لأي شخص مثل هذا الاهتمام، فسيكونون هم، وأنت أيضاً، على حق.
إن ظهرت مثل هذه البداية رخوة بشدة ـ إذا علمنا أن الكتابة في بعض أوجهها حقل معرفي ينطوي على خصوصية بالغة التعقيد والواقعية ـ عليك ان تتذكر ان اهتماماتك والتزاماتك لا تشتمل، بأي حال من الأحوال، على إمكانية الآخرين ما لم يعمد هؤلاء الآخرون إلى إدخال حالتهم. ابتهاجي سيكون محض هياج على أي شخص يجد نفسه لا يشاطرني موقف تجربتي ولا التزامي بتفصيلات النشاط المعني. كيف يتسنى لنا، إذن، التوصل إلى ظرف يحقق الأرضية المشتركة ؟
عليك أولاً، أن تبدأ بما هو أمامك، واعني بذلك، حقيقة الناس، تحديداً بإمكانك ان تسألهم " ما الذي يريدون فعله ؟" وربما تحصل على جواب :" لا شي " ـ لكن هذا يكفي، أي عليك ان تكدح بنفسك، " ما حالة النشاط تلك ؟ "، أو حرفياً، لا تفعل شيئا، ان تم اختيار هذه العبارة لتكون حالة الإمكانية وفي مثل هذا الموقف يبدو أزعج شيء لي هو الإصرار على أن هذا الكتاب أو ذاك هو كتاب " عظيم " أو هذه الطريقة في الكتابة أو تلك هي " الأقوى " مما يقودك إلى مناقشة جميع التبريرات الممكنة، مع نفسك فقط.
قد تختار ان تفرض عليهم ضرورة كتابة شيء ما ـ ولا يوجد سبب يمنع ذلك ـ لكن لا تضّيق عليهم في دائرة التعليم وتقصر الموقف على " موضوع " معين، ولا تبحث عن ما تعتقد انه ينبغي ان يقال. أما العادة المؤلمة المتمثلة بالترديد [ الببغائي ] الذي يسود في التعليم المعاصر فتتولد عن مثل هذا الإصرار ولا تخدم أحد مطلقاً. خذ ما يقال كسياق واستعمله كوسيلة للتبادل. لن تستطيع تطبيقه على أي شيء آخر أو على أية قاعدة تحترمها لم يجربها الكاتب نفسه. بمعنى آخر، لم يعلم ان ما يقوله له احتمال ان يتوسع بهذا الاتجاه أو ذاك ـ وليس ان ما لا يعلمه هو حد ثابت ومحبط.
مرة سنحت لي فرصة تدريس الصف الأول. بمقدوري ان أتذكر تلك التجربة الرائعة التي اشهد شخصاً فيها ينال إمكانية القراءة والكتابة وبذا تتوسع واقعة الكلام الحرفية زمكانياً ضمن معانٍ لا حصر لها. إنها لذة إنسانية بالتأكيد، وإذا نسي الناس ذلك فقد يرجع ذلك إلى حقيقة ان هذه القابلية المذهلة قد إعاقها فرض الغرض والمعنى الضروري وكل أساليب الإصرار التعليمي كما لو ان الهدف الوحيد من تعلم كيفية السباحة هو الخروج من النقطة (أ) إلى النقطة ( ب ) … لقد أطلقت على الشعراء مرة تسمية " الصُنّاع " وجاءت كلمة " شعر " من الجذر " يصنع ". إلا أن ما يمكن صنعه ـ على الرغم من كل أشكال الإصرار على العكس ـ هو قابل للنمو بقدر ما توضحه اللغة والشرط الإنساني.
قلّما يتم السماح بطلب إعادة شيء من تلك الإمكانية إلى معاني التدريس والتعليم.
والحق ان هذا يبدو الهدف في النهاية ـ أي ما لم تتحول الكتابة إلى لذة فإنها تبقى عملاً شاقاً ومحض مناسبة تستدعي النقد ـ والمزيد من " ارتكاب الأخطاء " كيف تجعلها لذة كهذه، هذا أمر لا يمكن ان يخبرك إياه أي شخص بسهولة، ولا يمكن لآي فرد ان يفترض ان الناس كلهم سيشتركون بلذاتهم بالتساوي. لكن لا ينبغي عليك التخلي عن ذلك تماماً. لا عليك أن تذل وتتجاهل وتزدري ما قد يكون الإمكانية التي التزمت بتنميتها. لقد قرفت بالمرة من " الذوق " الذي يريد تحويل التجربة كلها إلى تفصيلات الموضة والعرف الاجتماعي. بل أنا احترم [ قصيدة ] باوند " اللعنة على ذوقك ! أريد، إن أمكن، أن أشحذ إدراكاتك الحسية، وبعدها سيعتني ذوقك بنفسه " [إدراكاتك ] معنية هنا ومعها [ إدراكات ] طلابك.
كيف تريد ما تريده يبقى إمكانية خاصة بك، وابتكار منك. قد يتضمن ذلك، وقد لا يتضمن، كتب وصحف وأفلام وتلفزيون … أو أي نشاط ممكن في حياتك وحياة طلابك. الكتابة نشاط، لا موضوع. لا يمكنك ان تقترح لها منطقة معزولة. وفيما يأتي مثال على تورطي بالتدريس والتعليم وبالشعر على وجه الخصوص ـ على الرغم من اني ارى الكتابة كل ما يمكن صنعه بالكلمات وتدوينه.
ــ 2 ــ
سياقات الشعر
ما اقترحه آلن، وما اعتقده أنا فكرة صائبة، هو البدء بمعنى معين للكتابة في اكثر السياقات الممكنة حرفية. والآن يبدو الافتراض ـ أنا افترض ـ من جانب بعضكم، هو أننا نكتب الشعر، بمعنى آخر : هذا ما نفعله. ونحن في الحقيقة، مِنحنا تعريفاً علناً، بصفة شعراء. نشرنا كتبا و. …الخ. الآن أجد أن هذا النوع من المؤهلات هو شي لا أرغب بالاستمرار به في هذا السياق، أو غيره. ولهذا أرغب بتناول قضية الكتابة بوصفها فعلاً فيزيائياً [مادياً]. ما سأحدثكم عنه هو كيف اكتب أنا وآلن وانتم تفعلون الشيء نفسه. بعبارة أخرى، أرغب بالحديث عن ما تتضمنه الكتابة بالنسبة لي.
حينما التقيت ويليام كارولس ويليام للمرة الأولى، مثلاً، أذكر انه أخذني للطابق العلوي ليريني الحمّام، وحينما مررنا بغرفة النوم ـ على ما أظن ـ أراني المنضدة التي كانت مكتباً له حينما كان يقوم بممارسة فاعلة، وأراني آلته الكاتبة التي كانت آلة مكتبية قديمة كبيرة، وكيف لاءمها تحت المنضدة، وأراني وسائد الإملاء التي اعتاد استعمالها. ومرة أخرى كنت وآلن نفكر بالكيفية التي سيكون فيها لحجم الورق، مثلاً، تأثيراً على ما نكتبه، أو سواء أكنت تستعمل قلم رصاص أو قلم حبر، أو لا تستعمله. عادات من هذا النوع دائماً ما يتم وصفها بأنها غير مهمة أو ثانوية. ومع ذلك، لمستُ في واقعي أنا صلة كبرى بين ما افعله فيزيائياً، بوصفي كاتباً ضمن هذا المعنى، وما يتمخض عن ذلك. ولهذا أرغب بوصفه بإيجاز. كنت اشعر بالفضول إزاء معرفة كيف افعل ذلك بنفسي، بمعنى ما افعله أنا حقا. حسنا، فلنقل أولاً أني اكتب دائما بالآلة الكاتبة اشعر بتوتر شديد حيال استعمال قلم حبر لأن أقلام الحبر ينفذ حبرها بطريقة ما … ولعلي استعمل أقلام الجاف حينما اكتب بتلك الطريقة، اما أقلام الرصاص فينبغي بريها، واندمج أنا كلياً في بَري قلم الرصاص.
اعتقد أيضاً ان للأمر صلة بشعور أحسسته حينما كنت شاباً وهو ان الآلات الكاتبة، والطباعة بالآلة الكاتبة، توحي بسياق " مهني ". فإذا كنت ستكون جاداً، أو ستزعم الجدية لنفسك، فان الأداة التي تستعملها في الكتابة تكون خاصة لماهية فعل الكتابة. ولهذا اعتقد انه كان لدي إحساس ساذج، من هذا النوع، أردت ان أكون قادراً على فعل ذلك بالآلة الكاتبة. والآن، فاني لم اتعلم الطباعة مطلقاً. ولهذا أعي أني طورت عادة الطباعة بإصبعين. لم أدخل مطلقاً صفاً في المدرسة الثانوية أو في أي مكان آخر يعلمني كيفية استعمال أصابعي كلها عند الطباعة. وعند التفكير مجدداً اجد انه بدأ كمعيار لمدى سرعتي في الكتابة " بعبارة أخرى، وجدت ان سرعتي في الكتابة مرتبطة بسرعتي في الطباعة، وأستطيع الآن ان اطبع بالسرعة التي أستطيع التحدث بها، وبإصبعين، وجدت،مثلا انه ان كان عليّ العمل على الآلة الكاتبة الخاصة بشخص آخر. شعرت بالاغتراب لأن هناك ربما تباين طفيف في المسافة بين الحروف. وجدت اني أستطيع الآن استعمال الآلة الكاتبة التي استعملها من دون النظر اليها، ولهذا فان بمقدوري التفكير بشيء آخر من دون التساؤل عن موضع أصابعي بالضبط، وجدت اني أريد الاستمرار قليلاً حول معنى ماهية الظروف الفيزيائية لأني، مجدداً، بدأت الكتابة في سياق كنت متحيراً فيه. لم اكن ارغب بإزعاج أي شخص لم اكن ارغب في تقديم أية اعتذارات، بل فقط المضي قدماً بعملي الجاد، بانشغالي الجاد. كان هذا بالدرجة الأساس في زواج سابق، وما تبعه من مشكلات …. لم اكن أريد لفت الأنظار إلي لأن هذا الفعل قد يجبرني على تعريف ما كنت أقوم به ـ وهو مستحيل تماما. ولهذا ربما كان الشيء الذي قد أقوم به هو إيجاد سياق آخر أعثر فيه على بقايا ضجيج ؛ ضجيج حاضر باستمرار، حتى لا يتطفل عليّ ضجيجي الخاص. وهكذا وجدت اني كنت دائما أدير الراديو. وعند العودة بتأملاتي إلى نيو هامبشير حيث أفكر اني جلست حقاً للتفكير في كيف اكتب وماذا اكتب، أجد اني اعتدت تدوير الاسطوانات طوال الوقت. وأذكر انه كان لدينا آنذاك واحدة من حاكيات جنسن العملاقة ومكبر صوت وكنت أضع الاسطوانات التي أقدرها كثيراً مثل اسطوانة شارلي باركر، لكني اعتقد انه بسبب ذلك الإصرار الايقاعي الذي واصل حثه لي، واصلت أنا سماع هذه الاسطوانة. في وقت. متأخر من السنة، مثلا، أنهيت عملاً نثرياً مطولاً ـ رواية ـ ووجدت ان ما كنت اكتبه قد تحفز فعلاً من عزف أنواع معينة من الموسيقى. بمعنى آخر، لا اعرف.. لست محللاً نفسانياً أو حتى مهتم في هذا الجانب. ما أنا …
أي نوع من الموسيقى ؟
حسنا، على سبيل المثال، كتبت الجزء الأول بأكمله ملهماً بشريط Bud Pweell القديم، اسطوانته، حيث تحصل فيها على تلك الأنواع العظيمة من الأسلوب الملموس تقريباً … فلنقل مفهوم الجمال عند رجل مسكين ؛ تحصل على تلك التصعيدات الصوتية العظيمة، وحيث تحصل على لحن بسيط تماما مثل " I Got Rhythm "، أو أي شيء آخر، عند الطباعة وسط هذه الموسيقى، ومن ثم تحصل على هذه المشاركة التي تعيدك للتصريح البسيط لأنها محرجة حقاً بأملها الخاص. وهكذا فقد كتبت الجزء الأول من الرواية ضمن هذا المعنى. ثم كتبت الجزء الأوسط بأكمله استلهاماً بألحان " John Coltrane " حيث يحصل المرء على تنافر الأصوات ويحصل على التشظي ـ لم اكن أعي ذلك ـ ثم كتبت الجزء الأخير استلهاماً بنوع من ألحان Nancy Wilson حيث تسمع " أين ذهب الحب ؟ احفر ؟ " وتحصل أيضاً على ذلك التظاهر البارع. بعبارة أخرى، أين تغني [هذه المغنية] ؛ لذكرى أصالة ما عادت تعرفها حتى …. ما عادت تعنيها. شاهدتُها على التلفزيون وكانت أبرع من أي محترف، لكنها كانت تغني بطريقة لم تكن مُبتكِرة، مثلما كانت Sarah Vaughan أو بدقة اكبر Billie Holiday. ومرة أخرى أقول ان الجزء الأوسط تضمن Billie Holiday لكن ما أحاول قوله هنا هو : هذا شرط فيزيائي بالنسبة لي. أجده مفيد جداً…
حتى في الموسيقى ؟
حتى في ممارسة أي شيء هذا يمنحني شيئاً للتركيز أو الاسترخاء في مكان اشعر فيه بالأمان. عموماً هي : الآلة الكاتبة، وإصرار الموسيقى، والإيقاع، شيء فيه طابع إيقاعي قوي ـ على ان لا يكون مرتفع جدا ًـ بل ماكر كفاية كي يعيدني له دائماً…. وكذلك الورق، وأنا افضل عادة الورق ( 8 ×11). والمفضل عندي هو ورق الاستنساخ الاصفر الذي لا يكون إسفنجياً بل يحمل رقة في داخله ولهذا فانك حين تطبع ينساب الحرف، وينغمر شيء منه. اكره الورق الصلب، اذ عندما تمحو شيئا من عليه تنزاح طبقة منه. وأذكر مجدداً ـ والآن هذا هو السبب وراء اشارتي لذلك، وهذا ليس سخيفاً ـ لأني أذكر مرة حينما كنا نعيش في إسبانيا، لم يكن هناك أي من ورق الاستنساخ هذا بحجمه المفضل لدي. ولهذا أخذت ورقاً بالحجم المعتاد. وفجأة صار الأمر رعباً لاني حينما انتهيت من الورقة بحسب عادتي في التعامل معها ادركت اني تركت حوالي ستة إنشات فارغة في اسفل الورقة. وهذا منحني شعوراً مختلفاً بالمرة. أذكر اني كتبت قصة استعملت فيها هذا الورق، وبدا لي ان الامور تسلك طريقاً مريعاً في وقت طويل. بعبارة أخرى، تغيرت موازيني أو نمطي في العمل مع الشيء. ولهذا فالورق له دلالته. ومرة أخرى كنا نتحدث أنا وآلن عن طريقة Jack Kerouac ؛ عن مؤهلاته في الكتابة التي تتجلى حينما يكتب في دفاتر ملاحظات صغيرة. أو هل يمكن لي ان أقول الشيء نفسه عن روبرت دنكان، مثلاً، الذي يستعمل دفتر ملاحظات ويكتب بالحبر، وينجز كتبه وهو يكتب. وهناك، مثلا، مثال واقعي على كتاب من هذا النوع أنجزه هو اسمه " شظايا إخلاص مبعثر " وقد أعاد إنتاجه من نسخة فعلية، أو بالحقيقة كتبه كنسخة عن طريقته الخاصة. انه محاكاة لطريقته قام بها هو نفسه، ولهذا السبب حمل هذا الطابع …
لكنك تدرك ان كل شيء يحدث بصرياً وفكرياً أو ذهنياً أيضاً. أولسون، في رسائله … بدأتَ تُدرك خطوات اولسون، وترتيب الأشياء في فكره. انه يبدأ رسالته بعبارته " عزيزي فلان " ومن ثم يبدأ بالمعلومات وقبل ان يصل إلى منتصف الصفحة ستجد هذه الأشياء تقفز من حولك … الحركة، تتحرك، تحاول التموقع مثل، لنضع هذه هناك …، لا، لا تفعل، والآن هذه تأتي هنا، اوه لكنك لا تستطيع نسيان ذلك، عليك ان … انه يحاول، في الحقيقة، ان يمنحنا ترتيب الفكر ـ بلا تظاهر ـ والآلة الكاتبة بالنسبة له، مثلا، هي شيء يعِّرف عاداته في الكتابة، مثلما ذكر لنفسه ذلك مرة في [مقال] " الشعر الاسقاطي ". لكنه أيضاً سريع في الكتابة بيده، بل له في الحقيقة أسلوب في الكتاب سريع جداً.
لكن تراتيب وانسجة الورق والأغلفة وغيرها … أجد مجدداً إنه لكي أعمل بجد عليّ ان أعيد خلق سياق أستطيع فيه إظهار احترافي. أذكر صديق لي، مثلا، قال انه كان دائما يغسل يديه قبل البدء بالكتابة لأنه أراد ان يكون نظيفاً، لم يكن بريد جعل أي شيء وسخاً بمقدوري ان أتذكر أيضاً حينما نفد ورقي … ظروف العيش في مكان ناءٍ … كنت بحاجة ماسة … بحاجة مريعة له. ومن ثم عليك البدء بإخراج الورق من الأغلفة، لكن عليك ان تطويها بعناية شديدة وتسويها باحتراس حتى تحصل على الشعور المطلوب، ما أحاول قوله من كل هذا السرد هو ان عادة في الكتابة يبدأ المرء بتنميتها سيكون لها عظيم الأثر في ما يكتب. إن ظننت اني أحمق، بإمكانك، مثلاً، أن تحاول رؤية ما يحدث إذا كتبت بوسيلة مختلفة عنك. بعبارة أخرى، حاول الكتابة بأقلام تلوين طويلة. أتمنى لو أتيح لنا الوصول لذلك. سيكون من المثير رؤية ما يحدث إذا حاولت الكتابة على شيء بحجم السبورة. لقد قمت بتدريس الصف الأول أيضاً.. أذكر ذلك … أين تكتب الأشياء مثل [ خطوات على السبورة ] …. بمقدوري القيام عند تدريس خط اليد … والآن، لا أستطيع الكتابة بمثل ذلك ؛ سوف اشعر بالاستغراق، وانغمر بشهوانية، بحسية … أنها تشتتني لأن ما أقوم به، وإن كنت ناجحاً، هو اني لا استبق ما أفكر به، أنا لا استبق أي شيء قبل حدوثه. وأحاول في الوقت نفسه ان أتعرف، أو بدلا من ذلك اشعر بحيرة فظيعة بسبب خلطي بين تفصيلات معينة ( حالات الوعي، مثلاً ) الفرق بين التعرف والفهم والإدراك والمعرفة. أنا أحاول ان اصف الحالة التي يشعر فيها المرء، بالدرجة الأساس، بما يحدث كما لو انه ميزان مضبوط. إذا كنت تمارس التزلج مثلا ، أو السباحة أو الغوص فانك تعرف مثل هذا الشعور حينما تنطلق السيارة بانسيابية، حينما يتوازن المقود وتتزامن حركة السيارة مع قصدك، ويعقبه الإحساس بالنعمة ؛ بالامتلاك.
كل شيء في الحقيقة، يسقط في مكانه. انت لا تتقصد وضعه هناك، لكنك تعرف الشعور بحدوثه هناك. ولهذا عندما اكتب بنفسي، وعندما يصبح شيء غير منسجم أو متنافر، أتوقف على الفور، اعتباطاً. وهناك شيء آخر ينبغي لي ملاحظته، يتعلق أيضاً بإحساسي بفعل الكتابة الفيزيائي، وهو عادة طلب ان يكون " كاملا" في مظهره، بمعنى اني حينما اكتب وارتكب خطأ ما، أخرج الورقة وأعيد كتابة النسخة من جديد وصولاً عند ذاك الموضع وأصحح الخطأ، ومن ثم ألق الورقة بعيداً. بعبارة أخرى، أجد مشقة كبيرة في الكتابة على الورق. فمثلا، لا أستطيع الكتابة مطلقا في كتب، بل اشعر بانزعاج فظيع إذا ما كتب آخرون في كتابي …. الكتابة في كتابي …. أرى أيدي قذرة في نواحي كتابي كلها … لأني لا اعتقد حقاً بان بمقدوري امتلاك كتاب ما.. لا اعتقد ان لديّ الحق بالكتابة.
والآن لنعد إلى الموضوع الذي كنا عنده ؛ ففي الكلية ذاتها كنت في سياق شباب اصغر سناً في ذلك الزمن ارادوا ان يكونوا من الكتاب أيضاً. دونالد هول ـ مثلا ـ كان في هارفارد في 1946، وهي جماعة كانت ترتكز حول WAKE، أما سيمور لورنس ـ الذي يشغل الآن منصب محرر صحيفة اتلانتك مونثلي، وكينيث كوتش، أذكر ان كينيث كوتش دعاني مرة لغرفته، وأذكر انه من أجل تناول خمر الشري [ الإسباني]، وللاستماع إلى اسطوانات باخ وغيره، وليقرأ لي شيئا من قصائده. أذكر أيضاً اننا صعدنا إلى غرفته وكانت مريحة جداً. انحدر كينيث من عائلة ثرية ويتجلى ذلك في غرفته. فيها لمسات تنم عن ذوق، فيها أثاث اشتراه هو …. لم يكن بمقدوري فعل ذلك. في ذلك الوقت لم اكن اكتب أي شيء اشعر بان له أهمية. اعني بذلك اني كنت ألح في فهم ما يمكن ان يكون قصيدة حقاً. ومرة أخرى، بينما كنا أنا وآلن نتحدث يوم أمس ـوقد جئتم أصلا في وقت مناسب !ــ لأني اعتقد ان كلا منا، وبظروفه الخاصة، قد وصل لتلك النقطة التي لا يملك فيها التوصل إلى تعريف القصيدة بوصفها إمكانية، وليس كإمكانية ربما، بل كبناء واقعي، بعبارة أخرى، لا أستطيع تعريف القصيدة. انها حالة للذهن يثير الوصول إليها الفضول. لا يمكنني ان أخبركم عن ما اعتقده بالقصيدة، اعتقد ان لذلك علاقة بحقيقة ان اشتراطات الوعي كلها تخضع، في تلك اللحظة، إلى اشتراطات تغير هائلة. كنا نتحدث تارة أخرى، نفكر في السياق السائد في الولايات المتحدة الآن. ثمة تبدل في النظام العميق الساري في اندفاع أو تيار الوعي، وأعني به حرفياً: الوعي الزنجي، الذي ظل ولسنوات مقيداً بنوع من التهميش أو الدونية. ومثلما يقول دنكان " أرى دائما انعطافة مهمشة …". حسنا، فلننظر إلى الشخصية الزنجية في الولايات المتحدة التي أجبرت على العيش في هذا العالم المهمش، ماعدا في السياقات التي تستطيع السيطرة فيها. له روي جونز، مثلا، ترعرع في عائلة علمانية من الطبقة الوسطى كانت تتمتع بضمانات تلك المنزلة الاجتماعية. لكنك تجد دائما ان ثمة قيد مفروض هنا.
بمقدورك دائما ان تخطو خطوة إلى وراء سيطرة الحي لتجد نفسك فجأة في عالم لا يستجيب تماما لواقعك. والآن اقول ان هذا الواقع، الذي صار الواقع الزنجي، لا الواقع الأبيض، لا، بل الواقع الزنجي. قد ترغب بتفسير نشاطات آل كندي عموماً، وتصريحاته الليبرالية التي فات اوانها منذ زمن طويل، لكني اعتقد ان القيام بذلك هو السذاجة بعينها. اعتقد ان آل كندي قد تم اكتساحهم في تغيير لا يحدث سوى في الولايات المتحدة ـ لكن آلن يستطيع ان يخبرني الآن بالكثير عن تلك الظروف ـ لكنه قادم من تحول كلي في السيطرة والاتصال التي تتمركز اصلا في افريقيا واسيا.
لا أريد الذهاب إلى ابعد من القصد، لكني اعني ان البديهة التي يعمل عليها الوعي تخضع لتعديلات لا يستطيع أي منا، كما اعتقد،ان يقوم بتعريفها حالياً. بل نحن لا نستطيع سوى التعرف عليها. فلنقل انه اذا كان باوند يقول ان الفنانين هم جهاز الاستشعار بالنسبة للبشر، فاعتقد ان ايا منا ليس في موقع يؤهله ليكون مستجيباً لهذا الشعور الغامر جداً، والواضح جداً، والملح جداً. لا لأننا لا نستطيع فعل أي شيء حياله، بل ببساطة، لأنه تغيير كبير ؛ انه تغيير كبير في الوعي، وأنا اشعر بالفضول إزاء رؤية ما سيحدث ـ ولهذه طريقة لطيفة لتناوله حقاً !.
لكنك يا آلن عندك قصيدة تقول فيها " اين ستختفي كل مانهاتن التي رأيتها ". هذا بالنسبة لي ما يحدث في الولايات المتحدة في علاقة مختلفة، في سياق مختلف ؛ حيث تترعرع اشتراطات الوعي كلها ثم تختفي، تمارس اختفاءها آنيا. يومياً تتغير تفصيلات الواقع، حتى تفصيلات هذا المقرر الدراسي تتغير … وأعني بذلك، ان هذا المقرر الدراسي كان سيكون مستحيلاً قبل عشر سنوات، عند تعريفه. كان من المستحيل ان تكون معاني الكتابة حاضرة بهذه الطريقة قبل عشر سنوات كنا منغمرين، وبسعادة، في التعرف على البديهة التي منحتنا فرصتنا الخاصة. ربما ستكون فرصتك محض فوضى. أعني أني اعتقد ان التغير الجاري الآن له دلالة تفوق ما للحرب العالمية الثانية من دلالة لأنه تركة تلك الحرب (إشارة إلى القنبلة الذرية) وكذلك التحول الذي طرأ على تفصيلات العلاقة الإنسانية كلها التي صارت معتادة منذ ـ يا الهي ـ آلاف السنين ـ وهذا يعيدنا إلى تصحيح ـ لا لتصحيح ـ بل للاعتراف بالبديهة القائلة بوجودنا منذ آلاف السنين.
… المرة الأخيرة التي كتبت فيها كانت على متن قطار متوجه إلى كيوتو وطوكيو. استوليت فجأة على إدراكي، وعلى مختلف المستويات كنت أفكر في مشكلة شعرية لا تتوافق مع الأبيات … انها مسألة أخرى. وفكرت أيضاً في مشكلة عاطفية حلّت نفسها بنفسها للتو. وانتابني فجأة شعور، وللمرة الأولى، أنواع معينة من الشعور للمرة الأولى في حوالي نصف السنة. شعرت بشيء كان ينمو وينمو وينمو وظهر لي فجأة على القطار. ولهذا توجب عليّ ان أُدخله لأني عرفت انه خلال ساعة، حينما انتقلت إلى طوكيو، بأني سأبقى في طوكيو؛ ابحث عن غرفة في طوكيو ـ كان سينتابني شعور آخر، أو أعود إلى مشكلات مادية تخص ترتيب الأشياء. لكن هنا كانت أمامي تلك اللحظة و …. وهذا ما لا افهمه حيال كتابتي أنا ؛ ما الذي يحدث لك اذا ما ادركت شيئا فجأة ـ هل ينبغي عليك ترتيب ورقتك ؟ ما الذي تفعله حينذاك ـ تضيعها ؟
أنت محق ! لا كنت فقط أفكر، وأنت تقول ذلك، بأن حدود قدرتي على الكتابة، في تلك اللحظة وخلال السنتين الماضيتين، هي ان عليّ ان اضمن لنفسي سياقاً فيزيائيا أستطيع " العمل " خلاله. لا ينبغي وصفه فقط من خلال امتلاك الورقة وبقية الاستعداد، بل لابد من وصفه اجتماعيا أذكر اني كنت أتوقف عن العمل تماما حينما يكون بقربي أصدقاء يمشون، مثلا ولهذا أحسدك. أذكر … مرة أخرى تجربة معرفتك أنت وجاك في سان فرانسيسكو، وكيف كان جاك يمشي دائما ومعه دفتر ملاحظات ويكتب عليه. أو روبرت دنكان، مجددا، ولهذا السبب افترض اني انتهي دائما إلى العيش في تلك الظروف شديدة العزلة، بعبارة أخرى حيث لا يزعجني أحد. ومع ذلك لا اعتقد ان في الأمر تظاهر. انها بصراحة حاجة …
يبدو ان هذا يخلق سياق تحدث فيه مثل هذه المشاعر ؛ الأمر هو إني شديد الخجل ـ ليس بالمعنى المخادع أو الغبي ـ بل أنا شديد القلق إزاء حفظ رباطة جأشي حينما أكون مع الناس، ان جاز لي القول، حتى الآن. أنا أعني ان عادات التكلم هي بالحقيقة العادات التي اكتسبتها من التدريس. لكن عندما اكتب، يحصل معي ما قاله اولسون :
" تركهُ عارياً
قال الرجل
والعري
هو ما يعنيه المرء … ".
ولكي أكون في حالة العري تلك، عليّ ان أكون في مكان ما ـ ولا يكفي ان يكون ذهولاً ـ بل حيث أستطيع فتح هذا الشيء الصغير وان اشعر به بكل كثافة الإدراك الحسي الذي لدي ؛ بما تستطيع الأنا إدراكه، ومن ثم تدمير الأنا من خلال إصرارها الخاص. إنه خجل بعبارة أخرى …
متموقعاً حيث لا تهديد
حسنا، كان ليتملكني الإحراج لسنوات أذكر حينما انتقلت إلى ساوث دست، وكيف ان الناس هناك له عادة بسيطة جداً ولطيفة تتمثل بمعانقة بعضهم الآخر حينما يلتقون؛ أقرباء أو أصدقاء. استغرق الأمر مني سنوات ! كنت، بصراحة، حينما أشاهدك، مثلاً، اشعر بسرور كبير حدّ اني أطوقك بذراعيّ وأنت، صديقي الحميم، تأخذني بأحضانك. استغرق الأمر مني سنوات كي أتمكن من فعل ذلك، ويوماً ما سأتمكن ربما من فعل ذلك أيضاً. لست راضيا عن عادات التقييد التي أوجدتها لنفسي لا لأني قدمت لنفسي ملايين الاعتذارات عن عدم فعل أي شيء في تسعة أعشار الوقت، بلا لأني أوجدت سياقا، أدرك الآن، انه لا تصله سوى مشاعر من نوع معين. بعبارة أخرى، أنت محرج؛ تسمع شخصاً ما يتحرك في المطبخ، تفكر مع نفسك يا إلهي إنهم قادمون … لا عجب ان تكون القصائد قصيرة ! أنا منذهل من وجود أي منها أصلاً ! وفي الوقت نفسه، يكون المرء عالقاً في واقعيته، وهي في الوقت نفسه النقطة الوحيدة التي يمكن لي البدء بها، هذا هو المكان الذي غالبا ما تكون مشاعري حاضرة فيه. اعني ذلك بمعنى اني اخضع لتدريب فظيع … يتكلم اولسون عن تدربه على الكلام. قال انه حينما كان شابا ـ وهو رجل ضخم جداً ـ وكان، بالتأكيد، أخرق ووجوده يعدّ مشكلة. كان يسير مثل البطة، ولعل الناس كانوا يستجيبون له بطرق لا تتماشى ومشاعره تلك اللحظة. أنا أيضاً راودني الشي نفسه تقريبا. وجدت ان مشاعري لها وقع مزعج جداً على الناس الذين أردت الوصول اليهم. يا الهي، ارغب بفعل أي شيء يسرهم، ووجدت اني لم اسطع. أعني اني لم استطع فعل ذلك بطريقة يمكنني الاعتماد عليها. ولهذا بدأت القصائد كطريقة للتعامل مع الأشياء التي كنت، لولا ذلك، ممنوعاً من امتلاكها. حسنا، ذاك نوع من الشعور بالأمان … ولا أعني الأمان بمعنى الأمن أو عدم الخوف، بل أفكر في تلك اللحظات داخل تلك اللحظات داخل تلك الغرفة التي يندلع منها الجحيم كله، مثلما تعلم جيدا، بمعنى ان كل شيء ممكن هناك بطريقة ما … إذا استمريت بالمشي، إذا جلست في القطار ومعي دفتر الملاحظات، أنا واعي تماما لذلك ومرة أخرى أقول إنها عادة تخص بيئتي. اعتقد ان ما نحاول القيام به هو الإصرار على إن هذه الجوانب التي نتحدث عنها هي ذات أهمية. بعبارة أخرى، لا أعني إنها بلا أهمية أو لا أريد وصفها بهذه الطريقة أصلا، ما أحاول قوله هو لا تبدأ التفكير بالكتابة بوصفها نشاط خاص يقودك إلى تأثير خاص لغرض خاص. بل إن أهمية حجم الورق تماثل أهمية تفكيرك بأنك تكتب سونيتة، بل انها اكثر أهمية في الحقيقة.وهذا الجانب من نشاطك ينبغي ان يكون، ينبغي ان تكون واعياً به. ببساطة، عليك ان تبدأ بالشعور بدقة كل ما يصدر عنك بوصفه إمكانية وبوصفه معياراً لتلك الإمكانية. بعبارة أخرى، إذا أردت ان تكتب بورق مثل هذا، رجاءً افعل ذلك ! إذا وجدت نفسك متمسكاً بعادات تلفظ معينة، حاول القيام بشيء آخر، حاول تغيير سياقك الفيزيائي …
حاشية أخيرة
الانشغالات المتجلية هنا كانت، في الحقيقة، حاسمة اكثر مما أدركت. كنت أثق كثيراً بالتفكير، واكتسبت لنفسي إحساساً عنيداً بما يمكن ان تكونه القصيدة بالنسبة لي، وهنا لابد من انني كنت اوحي لنفسي بالتحذير وبالامل ببديل، معاً.
وبعد مضي مدة ليس بالطويلة بدأت محاولتي القصدية للتخلص من العادات الموصوفة. كتبت في مختلف حالات ما يسمى بالوعي، مثلا، في اوقات الكآبة، وكنت اكتب بالقلم الحبر أو الرصاص، عكس عادتي، وحاولت أيضاً تفادي أي قرار فوري يتساءل عما اذا كانت نتائج مثل هذه الكتابة " جيدة " ام لا. بعض القصائد التي كتبتها يمكن إيجادها في مجموعة " كلمات "، ومن بينها "قطعة" و"الصندوق "، و"هم" و"الحقل". وكانت هذه القصائد ما تزال مكتوبة على ورق ( 8×11) المعتاد وفي أمان بيتي المعتاد. لكنها مع ذلك بدأت تمنحني إمكانية الخربشة، إمكانية الكتابة لآنية اللذة ومن دون الالتفاف إلى شفرة دلالة نهائية.
حينما نشرت مجموعة " كلمات " كنت متلهفاً لمعرفة ان اكثر القصائد التي أثارت هياج النقاد كانت قصيدة "قطعة" لكنها كانت بالنسبة لي محور إمكانيات التصريح كلها. قد يفكر المرء بـ " عَد الخراف " ـ وأذكر هنا قصيدة ويليامز التي اختار باوند تضمينها في [ قصيدة ] "كونفوشيوس إلى كونفوشيوس"، وعنوانها "الجسر المرتفع فوق نهر تاغوس في طليطلة" :
في كهولتهما سارا في أحلام الرجل العجوز
وسيظلان يسيران في أحلام الرجل العجوز
ويستمران في شعره إلى الأبد.
ويبدو لي ان الفرصة هي في العد أو التفسير، في الإخبار أو التعداد باستمرار لكني، مجدداً وجدت نفسي مُحدّداً ًبطبيعة آلة الجَمعِ التي فرضت على حياتي من دون قصد مني. وببطء، أتيت للكتابة، لاحقاً، من دون الآلة الكاتبة. كما بدأت، أيضاً، استعمل دفاتر الملاحظات وكانت الخطوة الأولى بالدفاتر الصغيرة جداً ومن ثم الاكبر ـ ووجدت معانٍ كثيرة في إمكانية الكتابة بدأت تتاح لي تباعاً. وبالنسبة للبعض، كانت مثل هذه الدفاتر تؤدي إلى تراكم الكتابة، ولم يتخذوا قراراً بشأنها. كان كل شيء هناك، في أية حالة كانت ؛ كل شيء من العنوان إلى النصح الذاتي الأخلاقي، وصولا إلى ملاحظات من قبيل ما أجده الآن في اصغر واحدة منها.
لم تكن ثمة حاجة لمناقشة فضيلة أية إمكانية على الفور، ولا فعل أي شيء عدا الكتابة التي مثلما يصر ريمي دي غورمونت في اقتباس باوند له، تصر على انها " لذة الكاتب الوحيدة ".
كم استلزم الأمر لأدراك ذلك في حياتي كلها.
سيكون مستحيلا أن أشكر آلن غنسبيرغ كفاية على ما كان بمقدوره طمأنتي، أو أن اشكر الأصدقاء الذين كانت طريقتهم في الكتابة مثل نظام : روبرت دنكان، تشارلز اولسون، دنيس ليفرتوف وغيرهم الكثير الذين كانوا على حكمة سبقوني لها قبل وقت طويل. من الرائع ان تنجز شيئا بيديك العاريتين وبذهنك في لحظة الإمكان. وأخيراً، عرفت ذلك.
التعليقات