عندما قدم محمود درويش إلى غزة، عام 1996، في زيارته الوحيدة للمدينة، كتبتُ مقالاً عاطفياً احتفالياً، مرحباً به على أرض وطنه، ورافعاً إياه، إلى عنان المحبة الصافية، قبل عنان السماء! صرنا نتململ نحن مثقفي الوطن الجريح، بعد أن طال انتظارنا لكلمة محمود، التي لم يقلها حتى ليل الناس هذا!
ومع أنه كان لا يبعد عن مقر عملي سوى أمتار، إلا أنني، ولدافع الحياء، لم أذهب للقائه في فندق فلسطين القريب، مثلما فعل عشرات المثقفين، ومئات الناس، في حينها.
كان محمود آنذاك، أيقونة هذا الشعب الصابر المناضل. ودائماً، ما تبرق الأيقونة عن بعد، بأكثر مما تفعل عن قرب.
أخذ أحمد دحبور المقال، وأعطاه لمحمود، طالباً منه، على لساني، أن يزورنا في وزارة الثقافة، حيث أعمل، لكي يجتمع بالبعض منا، نحن شعراء ومثقفي هذه المدينة.
لم يتقاعس محمود، وبالفعل، زارنا، بعد يومين، لمدة ساعتين ونصف أو ثلاث ساعات، وقد حضر اللقاء لفيف من شعراء وكتّاب قصة ورواية وفنانين تشكيليين إلخ.
تكلمت مع محمود طويلاً، وسألني عن الشعر في غزة، وعن قصيدة النثر، وعديد من القضايا الثقافية والأدبية، فأجبته، بتوسع، وبذكر أسماء، ثم قام الرجل واستأذن، تاركاً في الحضور، سعادةً ورضى كبيرين، بأنهم، أخيراً، رأوا وسمعوا، شاعرهم الفلسطيني الأول والأكبر.
مرّت أيام قليلة، بعد ذلك، وانتقل محمود للإقامة في رام الله. متنقلاً بينها وبين عمان، كما هو دأبه حتى هذه اللحظة.
أعاد إصدار الكرمل في ثوبها الجديد، من هناك، وصرنا نتابعه ونتابعها، بما يليق به وبها، من محبة واهتمام.
ومرّت الشهور، وأخذت علائم فساد السلطة تستشري، وتصبح مادة الألسن. كنت آنذاك، أكتب عموداً يومياً، في الصفحة الأخيرة من صحيفة الحياة الجديدة، وشرعت أكتب عن هذا الفساد، الذي أدهشنا وصدمنا، نحن سكان وكتّاب الأرض المحتلة، الذين لا خبرة لنا بمسلكيات منتسبي منظمة التحرير من قبل.
بدأ الناس يهمهمون ويتكلمون، وصار حديث فساد واستبداد السلطة، على كل لسان - حتى، ويا للمهزلة، على لسان بعض عتاة الفاسدين!
كنا، في ذلك الوقت، ننتظر من محمود، كلمة في هذا الشأن الداخلي الخطير جداً، على سلامة الروحية الفلسطينية المناضلة. فالاحتلال، بكل همجيته وفاشيته، لم يستطع كسر أرواحنا من الداخل، طوال كل سنوات حضوره البغيض. لكن هذا الفساد المقترن بالاستبداد، في قران أبدي غير مقدس، بل بالأحرى: مدنس، من الممكن أن يكسر أرواحنا، نحن مجموع هذا الشعب الطيب، الكريم المرابط. وما يحدث على الأرض من شيوع واستفحال هذا الداء، شيء خطير جداً، ولا بد لكل أصحاب القلم والموقف، أن يقولوا كلمتهم، عاليةً نبيلةً، فيه. فذلك هو دورهم التاريخي، والاجتماعي، وإلا ما هو دورهم إذاً؟
لكننا، لم نفقد الأمل، وصرنا ننتحل له أعذاراً، فليس من المعقول، أن يصمت قلم كبير مثل قلمه، في أمر حساس ومصيري وجوهري، مثل هذا.
لكنّ درويش، المتعالي في وهم إبداعه الصافي، فاجأنا، وبدل أن يتكلم عن أخطاء وخطايا السلطة، وهو الرمز الكبير، والقامة الأعلى ثقافياً، تكلم عن افتتانه بعرفات، وبنهج عرفات، في نثر فصيح، كما فعل سابقاً في شعره الأفصح!
لفت نظري هذا الأمر، مبكراً، ربما في 1997، وأفضيتُ به لبعض المقربين منه، قائلاً إن هذا لا يليق أبداً بشاعر خلق للفلسطينيين كلهم، وبالذات من هم في الدياسبورا، فلسطيناً أخرى رمزية ومعنوية. فكيف يصمت أذن عن جرائم تُرتكب بحق ما تبقى لنا من فلسطين الواقعية؟ وكيف له أن يمتدح، رجلاً، هو أقرب لمهرج أو بهلوان، وأبعد الناس عن أن يحكم، هو ورجاله، مجتمعاً مدنياً ومشروع دولة، ويقودهما إلى بر الأمان والنجاح؟
في ذلك الوقت، تم بذر كل بذور الفساد، التي أثمرت علقماً الآن. وفي ذلك الوقت، وقت التأسيس، كان كل خطأ بمثابة خطيئة. كتبنا وصرخنا، ولكن، وكما قال لي أحدهم، و كان وزيراً حينها، [قل أنت ما تشاء، ونحن نفعل ما نشاء]! فلا وزن للكلمة، غالباً، عند اللصوص، ومحترفي سرقة الثورات.
أخذ المثقفون، مثلما أخذ رجل الشارع العادي، يتكلمون، وزكمت رائحة الفساد الأنوف، فلم يبق أحد، لا في الداخل ولا في الخارج، إلا تكلم عن هذا الموضوع، باستثناء قلة قليلة من المستفيدين، والبلهاء، وللأسف، لم ينطق محمود، رغم كل هذا، بموقف أو حرف!
فأين هو دور المثقف التاريخي؟ المثقف العضوي؟ المثقف الثوري؟ المثقف المقاوم؟ المثقف النبيل.. إلخ إلخ؟
لم ينبس محمود ببنت شفة، بل على العكس، زاد مديحه لصانع الفساد الأول والأكبر، وكل ذلك، تحت حجج ومسميات وتوصيفات، كنا نقرأ عنها، ونضحك ساخرين مقهورين، وفي الآن ذاته، مشفقين على هشاشة وعدم نبالة موقف شاعرنا الكبير!
فمحمود، لم يطعن ذات يوم في المؤسسة الفلسطينية، بجميع مسمياتها وتجلياتها.بل كان دائماً صديقاً وحليفاً لها، بل أخشى القول إنه كان غالباً على يمينها، مسلحاً بعدة كاملة من التبريرات والمداورات!
كتب بعضنا، رغم عدم انتمائنا لفصيل أو جماعة، تحمينا عند الضرورة، وغامرنا، فأقذعنا لهم، فقط لأننا نرى دوراً واجباً للمثقف وعلى المثقف. دوراً يفضي، إن لم يكن، إلى مواجهة الفساد في أم عينه، فعلى الأقل، لا يكون شاهد عصره الزور!
وانتظرنا وطال انتظارنا، أن تأتي كلمة حق من درويش، لكن واأسفاه، فقد خذلنا الشاعر المتمتع بنجومية سينمائية، منذ البداية. ثم فهمنا لمَ يأتي هذه المواقف في النهاية. فزالت هالته في عيوننا، ولم نعد نثق فيه، بعد أن ضاعت مصداقيته، للأبد!
سلاماً أيها الرجل، الذي، ما زال كثيرون من مثقفي العرب، موهومين بك، لأسفنا الشديد!
- آخر تحديث :
التعليقات