مرجعيّات يهوديّة عديدة متشددة، كالتي تقف حجر عثرة بوجه السلام، وتمنع الحكومة الإسرائلية من الإنسحاب من مستوطنات تعرف أنها ليست لها، وتصم آذانها عن نداءات ملايين اليهود الذين يحلمون بالأمن والعيش المشترك، وتهدد حياة كل زعيم يهودي معتدل، إذا فكّر، ولو للحظة، بإطلاق حمائم السلام في سماء شرقنا التعيس، وإنهاء حالة مرضية جعلت إمعاء الله تعالى تتقيأ، وجعلتنا نقبر كل ثمرات بطوننا، وبطونها طبعاً، على مدى صفحات تاريخ دامٍ ومقيّح.
هذه المرجعيات ما زالت تطلب من الفاتيكان اعتذاراً رسمياً عن أخطاء المسيحيين الكاثوليك حيال عمليات الإبادة التي تعرّض لها اليهود على يد رودولف هتلر وأتباعه النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وكأن البابا بيوس الثاني عشر هو الذي أصدر أوامره بإبادة ستة ملايين يهودي بريء، وكأن هتلر، الذي دمّر أوروبا، بحاجة إلى (بابا) ليحثّه على القتل، وهو الذي أنكر الله، يوم تنكّر لإنسانيته.
فرنسا.. كانت وما زالت الأم الحنون لجميع المسيحيين، ومع ذلك لم يرحمها هتلر، ولم يرحم شعبها، ولولا بطولة الجنرال ديغول ورفاقه لما أنقذت فرنسا الكاثوليكية من براثن النازية. فلماذا لم يتمكن البابا بيوس الثاني عشر من إنقاذ الكاثوليكي الفرنسي من الموت؟ وهل بإمكان العاجز عن إنقاذ أتباعه أن ينقذ اليهود؟! أعتقد أن الجواب واضح للجميع.
إذا كان اعتذار بابا روما يريح اليهود، ويخفف هول المحرقة، فإن اعتذارهم عن صلب المسيح واضطهاد أتباعه وزرع الملل المختلفة في جسم كنيسته الواحدة، قد يخفف أيضاً من ألم المسيحيين المتراكم على مر العصور.
الفاتيكان لم يقتل يهودياً واحداً، ولكن اليهود الأوائل شتموا وصلبوا وقتلوا من يركع بابوات الفاتيكان له ولهم، أي السيّد المسيح وأتباعه الأوائل. ومع ذلك أصدر الفاتيكان وثيقة من عشر صفحات أبدى فيها أسفه للأخطاء التي ارتكبها مسيحيون كاثوليك لأنهم لم يقدموا المساعدة لليهود خلال إبادتهم على يد النازية في الحرب العالمية الثانية وقال: (إن المحرقة كانت صنيعة نظام عنصري وثني جديد تجد معاداة السامية فيه جذورها خارج المسيحية، ولم يتردد في المضي قدماً وراء أهدافه في معارضة الكنيسة واضطهاد أعضائها).
إذن، وكما ورد في الوثيقة، فإن هتلر كان يعارض الكنيسة الكاثوليكية ويضطهد أعضاءها، فأين هو الذب الذي اقترفه البابا بيوس الثاني عشر بحق اليهود، طالما أنه كان مضطهداً وأعضاء كنيسته من قبل النازية؟!
الوثيقة تشيد بحكمة البابا ودبلوماسيته خلال الحرب العالمية الثانية، وان جهات يهودية عديدة أثنت على دوره في إنقاذ مئات الآلاف من اليهود، فلماذا الإعتذار إذن؟
الحاخام (مائير لاو) أحد الناجين من معسكرات النازيين رفض الوثيقة جملة وتفصيلاً (لأنها تتجاهل الموقف الشائن للبابا خلال المحرقة، وتكتفي بعموميات عن العلاقات بين المسيحيين واليهود).
الباحث اليهودي (أفراييم زوروف) قال: ( كنت أود لو اعترف الفاتيكان بأن اللاسامية المسيحية أدت إلى المحرقة.. المهم أن يكون الفاتيكان واعياً لحجم الجرائم النازية، ولكن الوثيقة التي أصدرها تثبت أنه لا يريد تحمل مسؤولياته، ولا يستطيع أن يفهم مداخل المذبحة ومخارجها).
الوثيقة تقول أن البابا أنقذ مئات الآلاف من اليهود، وأن الكنيسة الكاثوليكية كانت مضطهدة من النازيين كاليهود تماماً، ومع ذلك يريدون إلصاق (المحرقة) بالفاتيكان!.. (ومن غير الواقعي أن نتوقّع من الوثيقة انتقاد بيوس) على حد تعبير الحاخام دايفيد روزين.
لقد انتقد الفاتيكان تصرفات باباوات كثر، دون أن يخاف أحداً سوى الله تعالى، وما اعتذاره عن الحروب الصليبية التي شوّهت تاريخه إلا انتقادات لاذعة ومؤلمة لباباوات شاءهم قدرهم السيىء أن يسيروا تحت راياتها السوداء المذلة. وأعتقد أن من تجرأ على الإعتذار من حروب حملت اسم الصليب زوراً وبهتاناً لن يتوانى للحظة واحدة من الإعتذار لليهود الذين حصدهم حقد هتلر القاتل، وحصد الآلاف من المسيحيين وغيرهم، لو كان له أي علم، ولو طفيف، بذلك.
إسرائيل تحتل مزارع شبعا اللبنانية، ومرتفعات الجولان السورية، وفلسطين الحبيبة، فهل قدم اليهود اعتذاراً بذلك؟
إسرائيل ارتكبت المئات من المجازر بحق الشعب الفلسطيني، والشعب اللبناني، كمجزرة (قانا) التي لم تنته آثارها بعد، فهل قدّم اليهود اعتذاراً بسيطاً بذلك؟
لليهود الحق في أن يفكروا كما يشاؤون، وأن يطلبوا اعتذارات كما يريدون، ولكن لنا الحق أيضاً أن نقول: ما فعله هتلر بحقهم جريمة لا تغتفر، وما فعلته وتفعله حكوماتهم بحق شعوبنا العربية جريمة بشعة لا تغتفر أيضاًً.. فتعالوا نتخطى التاريخ لنعانق المستقبل.
- آخر تحديث :
التعليقات