أجمل مركز سياحي في القاهرة، بعد الأهرام طبعاً، هو قلعة البطل العربي الخالد صلاح الدين الأيّوبي.. تلك التي تتعملق فوق القاهرة، تشرف عليها، تسأل عن أحوالها، وتطمئن على أبنائها. كل شيء فيها جميل ورحب: الساحات، الطرقات، الشرفات والجوامع.. ما عدا السجن. سجنها.. أقرب ما يكون إلى زريبة للحيوانات. غرفه ضيقة، منتنة، رطبة، مغبّرة، باردة، وخالية من كل ما يمت إلى البشرية بصلة.
عندما وصلت إلى باب السجن، قرأت ورقة كتب عليها (ممنوع الدخول، السجن مقفل)، فطلبت من الحارس السماح لي بالدخول لدقيقة واحدة كي ألتقط بعض الصور التذكارية، ولكنه رفض وأشاح بوجهه عني، فسحبت من محفظتي عشرين دولاراً، ودسستها في جيبه، فتطلع بي وهمس، وهو يلتفت يمنة ويسرة: أدخل.. معك ربع ساعة فقط.
زريبة الحيوانات هذه، استقبلت العديد من شرفاء الأمة العربية ومفكّريها وأحرارها، أولئك الذين رفضوا تدجين الحاكم لهم.. فحاججوه وقاوموه وفضحوه.. فما كان منه، وهو الضعيف أمامهم، إلاّ أن (زربهم) في سجنه الزريبة كي يتخلّص من صوتهم الفاضح.
من أولئك الشرفاء كان الصديق الدكتور رفعت السعيد.. ولقد كانت (زريبته)، كي لا أقول زنزانته، حيث يجلس تمثال السجين الذي يقرأ في كتاب (العدالة)، فعن أية عدالة يقرأ؟ وبأي حاكم عادل يفكر؟.. ولقد أخبرني الدكتور رفعت أنه كتب أجمل كتبه في هذا السجن، منها ما حفظه في ذهنه من كثرة الترداد، ومنها ما دفع، كما دفعت تماماً، بغية تهريبها مخطوطة على وريقات هرّبت إليه أصلاً.
الآن، تحوّل السجن، والحمد للـه، إلى متحف، وكان آخر من دخله أولئك الذين اغتالوا الرئيس المصري أنور السادات.. مع العلم أن غرفه لـم تتسع لكل المشاركين في عملية الاغتيال.. نظراً لكثرتهم وقلّة عدد غرفه!!
السجناء، اليوم، تماثيل من جفصين، ولكنها، رغم صمتها، تخبرنا حكايات التعذيب والألم اللذين كان يتعرض لهما السجين العربي، الذي شاءه قدره أن يفتح فمه ويحتج على فساد الحاكم، أو أن يطالبه بلقمة عيشه، أو برفع الغبن عن شعبه، وهذه من المحرمات في شرقنا التعيس، من نطق بها نطق كفراً، وأجازوا قطع لسانه في بداية التحقيق كي لا يسمعوا صوته، وجزّ عنقه في ختامه كي لا يروا وجهه مرة ثانية.
التماثيل تظهر بعض السجناء من عصر المماليك، حيث كانوا يعلّقون للسجين ثلاث طابات حديدية، واحدة في رقبته، وواحدة في رجله، وواحدة في يده، بغية قطع أنفاسه، وشل حركته، ومنعه عن الكتابة. مروراً بعصر محمد علي، حيث كانوا يعلّقون طابة حديدية واحدة في رجل السجين كي لا يشمّع خيطه ويهرب. إنتهاء بعصرنا هذا حيث كانوا يخضعون السجين لكل أنواع التعذيب، التي تجعلنا نترحم على طابات المماليك ومحمد علي الحديدية.. وما عليكم إلاّ الحكم والترّحم على الحريّة والديموقراطية والانسانية والعدل.. إلى آخر المعزوفة العربية المضجرة.
- آخر تحديث :
التعليقات