يريدون أن يلصقوا التهمة بنا، نحن الأستراليين، دون أن يعلموا أن الحكومة الأسترالية لا يمكن بلفها، أو جرّها إلى اعتقال ابنائها لمجرد الشبهة فقط، فالـ (تي أن تي) الذي وجد على بعض المقاعد في مطار بيروت، كما ادعوا، قد تبخّر كلياً في الطائرة، ولم يعد له أثر البتة، لأن الأستراليين اللبنانيين المتهمين بجريمة تفجير موكب الرئيس الحريري أبرياء.. من رؤوسهم حتى أخامص أقدامهم، وليخيّطوا بغير هذه المسلّة وليفتّشوا عن متهم آخر، لا يكون أسترالياً لأننا لن نغفر لهم ذلك.

صحيح أن البوليس الفيدرالي أخضع بعض أبنائنا للتحقيق إثر وصولهم إلى أستراليا، ولكنه أطلق سراحهم دون أن يرشقهم بوردة، أو يعتقلهم اعتقالاً اعتباطياً، كما يحصل في معظم أوطاننا العربية التعيسة، لا بل اعتذر منهم على تأخرهم بالخروج من المطار.. فتصوّروا!
منذ شهرين أو أكثر، كتبت مقالاً في (إيلاف) أخبرت به قرائي أنني سأغيب عنهم شهرين، ولكنني عاودت الكتابة بعد أسبوعين دون أن يعرفوا السبب، فلقد ذهبت إلى لبنان لأقضي إجازتي السنوية به، ولكن كابوساً مزعجاً راح يقلق راحتي إثر وصولي إلى مطار بيروت، فلقد بدأت أتصوّر أن انفجاراً هائلاً سيهز لبنان، لذلك رحت أتطلع بداخل كل سيارة متوقفة على جانب الطريق التي أسير عليها، وألتفت، كالمجنون، يمنة ويسرة، ولم يتوقف الكابوس عن ملاحقتي دقيقة واحدة، فأطلعت زوجتي عليه، وأخبرتها أنني سأعود إلى سيدني حالاً، لأن انفجاراً هائلاً سيحدث، وحاستي السادسة لا تكذب أبداً، فتطلعت بي مستغربة وقالت: إذا كانت حاستك السادسة تلهمك ذلك، فلنسافر.
وزوجتي تعلم كم من المرات صدقت حاستي السادسة، لدرجة بدأت تخيفني، وأحاول قدر المستطاع أن لا أخبر أحداً بما يعتريني من شعور، كي لا يتهمني بالجنون، ومن حقّكم أن تصدقوني أو أن تسخروا مني، ولكنني على يقين من أن البعض منكم يتعرّض لما أتعرّض إليه، دون أن يعرف مصدره، وها هي المرة الأولى التي أتطرق بها إلى حاستي السادسة في مقال، لأن الجريمة التي وقعت أوقعتنا في ذهول مميت، وإليكم بعض قصصي معها، وجميع الشهود أحياء يرزقون:
مرّة، كنت أقدم إحدى الحفلات الخيرية، وكان بصحبتي أخي جوزاف، فاقترب مني المرحوم الياس الترس، وراح يقبلني ويعبّر عن اشتياقه لي، كان هو فرحاً، وكنت أنا حزيناً، لأنني تخيّلته ميتاً، وعندما غادر المكان، همست بأذن أخي جوزاف: مسكين الياس.. سيموت الليلة. وبعد ثلاث ساعات توفاه الله، فأصبت بخوفٍ شديد، ورحت أتساءل عن سر ما اعتراني من شعور، حتى أن أخي راح يصرخ على الهاتف: كيف عرفت أنه سيموت؟!
ومرة، وصل السيّد حنّا الخوري إلى النزاع الأخير، فدبّت عائلته الصوت، ورحنا نتراكض نحو المستشفى لإلقاء نظرة أخيرة عليه، وما أن وقفت فوق سريره حتى تخيّلته خارجاً من المستشفى.. وهكذا صار.
ومرة، التقيت بالأستاذة الجامعية (مارينا بابك) بعد عطلة مدرسية طويلة، وما أن اقتربت مني لترحب بي، حتى قلت لها:
ـ كيف حال كريستوفر؟
ـ من هو كريستوفر؟
ـ الجنين الذي في بطنك..
فكاد يغمى عليها، لأنها أخفت حملها عن الجميع، كما أنها اختارت اسم (كريستوفر) لتطلقه على طفلها حين ولادته.
ومرة، خضع العميد محمد ياسر الأيوبي لجراحة قلبية، فحدثت له بعض الإشكالات الصحية، فطلبوا من أخيه العم عصمت في أستراليا أن يأتي حالاً إلى لبنان لوداع شقيقه، فراح يبكي هو وأبناؤه، فتطلعت بهم وقلت: لماذا تندبونه، سيغادر المستشفى حال وصولكم إلى لبنان، وهكذا صار، والله يشهد على ذلك.
ومرة، كنت أقود سيارتي وبقربي ابن عمتي جوزاف، فتوقفت على الشارة الحمراء، وفجأة أضيئت الشارة الخضراء، فصاح بي: تحرّك.. ما بك لا تتحرّك؟ وبدأت السيارات التي خلفي تطلق زمامير الاحتجاج، فقلت له: سيقع حادث سير مروع، ولا أريد أن نكون من ضحاياه. وبدلاً من أن يسخر مني، راح يقبلني ويبسمل ويصلي، لأن حادثاً مروعاً وقع بالفعل بين السيارة التي انطلقت عن يساري وسيارة مسرعة لم تتوقف على الضوء الأحمر.
قد تطول المرات التي أخبركم بها عن إزعاج حاستي السادسة لي، ولكنني سأكتفي بهذا القدر، لتتأكدوا من صحة ما حدث لي في لبنان، وكم كنت أتمنى أن تخونني حاستي هذه، في المرة الأخيرة، كي أستمتع بعطلتي السنوية، وكي لا يحزن وطني لبنان على خيرة شهدائه.. وما أكثرهم.. وما أكثر عويلنا عليهم.
الأستراليون المتحدرون من أصل لبناني قدموا للبنان، خلال حربه الطويلة المؤلمة، خدمات إنسانية لا ينكرها إلا جاحد، كما أنهم، ورغم الحرب الطائفية التي حصدت أهلهم، تمسكوا بوحدتهم الوطنية بشكل يحسدون عليه، لأن حبهم للبنان، لا يضاهيه سوى حبّهم لله تعالى، لذلك لا ولن يساهموا بقتله وتفجيره، كي لا يقتلوا حلم الرجوع إليه، والإرتماء بأحضانه.. وكي لا يعود كما يريده أعداؤه أن يعود وطناً طائفياً ممزقاً.. تعشش فيه المخابرات، وتنحره التفجيرات الخبيثة المشبوهة.. فليتركونا بحزننا وليتسلوا بغيرنا.

[email protected]