أطلقوها نكتة، ولـم يدركوا كم هي عميقة بمعناها، بعيدة بدلالاتها، وبريئة ببياض كذبتها التي إن دلّت على شيء، فإنها تدل على ذكاء لبناني خارق، يأبى صاحبه أن يعيش عالة على مجتمع احتضنه، وأناس أخلص في حبّه لهم، فأخلصوا في حبّهم له أيضاً، لولا حفنة من الرعاع احترفت التمييز العنصري، وراحت تعرضه على أبواب معاملها بشكل يافطات كتب عليها: (لا عمل للبنانيين)، جاهلة تماماً أن اللبناني أذكى منها وأدهى، لأن الدهاء في ظرف كهذا فضيلة. وإليكم القصة التي يقال إنها حدثت مع أحد أبناء قرية مرياطة في أوائل سبعينات القرن الماضي .
ضاقت سبل الحياة بوجه أحد العاطلين عن العمل من أبناء قرية مرياطة الشامخة في شمالي لبنان، فشد رحاله وهمّ بالتفتيش عن عمل ما، بغية القيام بواجباته الأبويّة تجاه ثلاثة أطفال صغار.. وزوجة .
تعب أخونا من اللفّ والدوران طوال ساعات النهار، من معمل إلى معمل، دون جدوى، سوى قراءة تلك اليافطات اللعينة أينما وصل (لا عمل للبنانيين).. فيعود أدراجه إلى البيت، وعرق الخيبة يتصبب من جبينه، وفـم زوجته لا يكفّ عن السؤال :
ـ ماذا فعلت اليوم.. هل وجدت عملاً؟
ـ لقد دخت من كثرة التفتيش .
ـ وهل وفّقت في ذلك؟
ـ يا امرأة.. المصانع لا ترغب بتشغيل اللبنانيين .
ـ ولماذا لا ترغب بتشغيلنا.. إنّها حجّة فقط؟
ـ لأن وجع الظهر أصاب معظم أبناء الجالية اللبنانية، حتى أن شركات التأمين أصبحت عاجزة عن الدفع ..
ـ وماذا عن باقي الجوالي.. ألا يصيبها وجع في الظهر؟
ـ للأسف لا.. فاللبنانيون يقعون في الفبارك أكثر من غيرهم.. ولهذا يخافونهم.. حتى أن القواميس العالميّة أصبحت تطلق على وجع الظهر إسم (الظهر اللبناني ) !..
ـ هذه الأشياء لا تعنيني.. أولادك بحاجة إلى طعام.. وما عليك إلاّ أن تتصرّف ..
ـ غداً.. إن شاء اللـه .
وهكذا دواليك، إلى أن حظي بمعمل كبير لـم يقرأ على بابه يافطة التحذير تلك، فدخله وعقله يشتغل أكثر من عقول جميع علماء الفضاء .
ـ ماذا أقول لهم؟ هل أكذب عليهم؟ أجل.. أجل.. سأكذب من أجل أطفالي فقط ..
وفجأة ناداه مسؤول التوظيف في الشركة قائلاً :
ـ من أي بلاد أنت؟
وبدون تفكير أجاب :
ـ من مرياطة ..
ـ أيّة لغة تتكلّمون هناك؟
ـ لغة المرياطيان !
ـ أين تقع دولة مرياطة؟
ـ قرب جزيرة مالطا .
ـ تعال دلّني على الخريطة؟
وبعد تفتيش دام نصف ساعة، تطلّع بوجه الموظف المسؤول وقال :
ـ يظهر أنهم لـم يرسموها على هذه الخريطة !
ـ هل أنت متأكد؟
ـ ولو يا خواجة.. مرياطة بلادي ولا أحد يعرف أين تقع أكثر منّي؟
ـ طيّب.. طيّب.. غداً ستبدأ العمل، ولكننا نأسف لعدم وجود عمال مرياطيين تقدر أن تتكلّم معهم بلغتك الأم .
فخرج من باب المصنع وهو يرقص فرحاً، ويغنّي بصوته العذب :
ع الأَرض اللبنانيِه
خلقت مرياطه هديه
بدولة مالطَا قل الشعب
سكنوها المرياطِيِّي
[email protected]
التعليقات