في وطنك حيث شاء حظك العاثر أن تولد لأبوين فقيرين أو حتى متوسطي الحال لن ينظر إليك أحد بعين

الاحترام، سيمارس الجميع حقه في اضطهادك وما دمت لم تخالف القانون، فإن أقصى ما تتمناه هو تركك و شأنك. و بما أن الموظفين يشكلون جزءاً من هذا الوطن فلهم كل الحق بممارسة دورهم في قهرك.

تذهب إلى أية دائرة حكومية، وبعد أن تقف في طابور طويل لا يلتزم به طبعاً من يعرف موظفاً في تلك الدائرة أو حتى من يعرف أحدا" يعرف ذلك الموظف، ستصل إلى ذلك الموظف لتسلم عليه فلا يرد عليك لكنه يرمقك بنظرة يفهم معناها كلاكما، فهو يسألك بعينيه هل أنت ممن يدفعون؟ وتجيبه عيناك نيابةً عنك بمساعدة ابتسامتك الخجولة: لو كان لدي المال لما انتظرت كل هذا الوقت! يزداد حاجباه تقطيباً و تموت ابتسامتك بين شفتيك.

لو حالفك الحظ و كنت من سكان الغرب الكافر الذي انحرف عن إيمانٍ نشكر الله كل لحظة على منحنا نعمة الحفاظ عليه، واحتجت أن تزور أية دائرة حكومية فيها، ستدخل دون أن يعترضك سيل معقبي المعاملات الذين سيقتسمون ما يسلبونه منك ( برغبتك أو بدونها ) مع الموظفين. ستحمل رقما" وستنتظر مع الآخرين وعيناك مسمرتان على اللوحة الالكترونية التي يظهر عليها الرقم الذي حان دوره، وبعد فترة تطول أو تقصر حسب طول الرتل الذي أمامك ( ليس من الضروري أن تقف قهناك على الأغلب مقاعد كافية للجلوس ).

سيأتي دورك لتفتح الباب فتجد موظفا" يبتسم لك وهو يرد تحيتك و يدعوك إلى الجلوس، فتجلس متهيبا" و تعود بك الذاكرة إلى مشاهد من وطنك الحبيب، كم مرة تجاسرت على الجلوس أمام أي موظف من بلدك، رغم أن هناك كرسي أو اثنين أمام مكتبه؟ يعيدك إلى الواقع صوت الموظف ليخبرك أن هناك ورقة ناقصة بين الأوراق التي تحملها، فتتمتم بارتباك محاولا" اختراع عذر قبل أن يطردك الموظف لانك ضيعت من وقته الثمين و تفكر بالثمن الذي يجب أن تدفعه نظير هذه الغلطة، ليس رشوة، فالرشوة يعاقب عليها القانون في بلدك لذلك قل إكرامية نظير تيسير أمورك فالموظف يغامر بمستقبله الوظيفي حرصا" منه على مساعدتك. لكن لدهشتك مرة أخرى لا يطردك الموظف ولا يلمح لا من بعيد ولا من قريب للاكرامية (الرشوة). إنما يشرح لك أهمية الورقة للحصول على الموافقة المطلوبة، لذلك لا مناص من القدوم غدا" مرة أخرى لإكمال معاملتك.

وأثناء محادثتك يخاطبك بسيد... تباغتك الكلمة توقظ الشعور بوجودك الانساني الذي نام داخلك منذ دهور، متى كانت آخر مرة ناداك أحدهم سيد؟

على أية حال لم يصدف أبدا" أن أخطأ موظف في بلدك و ناداك بسيد، فأنت من الشعب الكادح و سواء كنت ممن ينتظر دوره أو يزاحم للوصول إلى النافذة المقدسة والباب الأقدس، فإن الموظف عندما يتفضل عليك بأن يأخذ أوراقك سيناديك باسمك المجرد رغم أنك من جهتك تناديه بسيد أو أستاذ، و ربما بعد التطور الذي طال كل شبر من مؤسسات بلدك ستنادي بآنسة أو سيدة، لكن سيصر الجميع على مناداتك باسمك المجرد.

و رغم أنك لم تنجز ما صرفت يومك من أجله (تماماً كما كان يحدث في بلدك )، تخرج مذهولا" بعد هذه المعاملة الراقية، تمشي في شوارع المدينة النظيفة التي تذكرك بشوارع بلدك. إنك غريب في هذه الأرض، وبشرتك السمراء و اللغة المكسرة التي تنطق بها تكشف أنك من تلك البلاد التي تصدر شعبها إلى كل أنحاء العالم، و من المعروف أنك آتٍ إلى هنا لتسرق فرصة عمل هي من حق أهل البلاد الأصليين، أو لتتسول مبلغ الضمان الاجتماعي؛ لكنهم يعاملونك باحترام ولايحق لأحد التعرض لك ما دمت لا تخالف القانون.

تعتصرك الغربة فتسرق منك كل فرح، ومهما أطلت التفكير بحثا" عن الحل الثالث لن تجد إلا حلين أحلاهما مر: أن تبقى في الغربة فتنجح بجهودك وتشعر بكرامتك كإنسان أيا" كان عملك، أو أن تعود إلى بلدك لترى نتائج نجاحك بعيون من حولك، لكن لا تحلم بأن يحترمك أحد قبل أن يعرف من أنت، فالتقدير في بلدك مشروط لا يناله إلاأصحاب مهن معينة أو ذوو الأموال مهما كانت مهنهم.