بيت القصيد: الديمقراطية في العراق مشروع فاشل!



الديمقراطية: مصطلح يوناني الاصل يتألف من كلمتين هما (الديموز- demos) وتعني الشعب، و(كراتوز- kratos) وتعني الحكم. لذلك فان المعنى الاصلي والحقيقي لكلمة الديمقراطية يعني "حكم الشعب لنفسه- the rule of the people"! ففي حال الحكومة فان الكلمة تعني "حكم التعددية- the rule of the many" وفي حال الحكم الدستوري فانها تعني "حكم الاغلبية - the rule of the majority "!
هذه اولى الاساسيات التي يجب ان يفهمها كل من ينادي بتطبيق الديمقراطية ويسعى لتحقيقها، ومن دون ادراك هذا الفهم الواقعي والحقيقي للمفردة يجدر به تبني طريقة مخالفة للمناداة بتطبيق الديمقراطية وطريقة اخرى للحكم في العراق، خصوصا لو علمنا ان الديمقراطية هي ممارسة ليست حديثة لدولة حديثة حيث تحكّم باظهارها بشكلها الذي نراه اليوم عليه ركائز ثلاث هي:
1.النظام البرلماني الانجليزي
2.الثورة الفرنسية العظمى عام 1789 بشعارها المعروف (سيادة الشعب)، الحرية، المساواة والاخاء
3.الثورة الصناعية التي بدأت في انجلترا في القرن التاسع عشر وانتشارها فيما بعد في عموم اوربا

هذه المقدمة البسيطة حول اصل اليدموقراطية وظروف نشأتها تعطينا فهم عام غير قابل للبس هو ان النظام برمته مستورد من بلاد غير العرب، فالاصل يوناني والممارسة والتطبيق والتحديث اوروبيا مائة بالمائة! بمعنى ان المجتمع الاوروبي قد مر بتجارب حكم عديدة اغلبها كان ملكي الطابع استبدادي الممارسة، الامر الذي فرض عليه الرجوع قليلا الى الوراء والى تاريخ الشعوب اليونانية ليستلهم منها مايناسبه وقد نجح! والنجاح الذي حققته الامة الاوربية رغم اختلاف اعراقها القى بظلاله على عموم العالم لدرجة ان اعظم الديكتاتوريات وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية قد اخذت هي الاخرى تتأقلم بشكل او باخر مع المفاهيم الديمقراطية وثورتها التي اتسعت بينها كالنار في الهشيم!
المنطقة العربية بحكم وصول هذا المفهوم اليها متأخرا وبالتزامن مع مفاهيم ديكتاتورية سائدة واتفاقيات تقيّد حركتها جعلت منها بالتالي اخر من يعلم ويفهم ويعي مدى مصداقية هذا المفهوم على ارض الواقع ومردوده الاجتماعي والاقتصادي والسيادي للدولة ورفاهية الشعب. ففي الوقت الذي كانت فيه اوروبا تعيش انقلابا على الذات الملكية وحكم الفرد المطلق كانت الشوارع العربية تضج من محيطها الى الخليج بدعوات حكم الفرد، بمعنى ان العرب قد بدأو من حيث قد انتهت اوروبا؟! وما ممارسة جمال عبد الناصر في مصر الا دليل ليس وحيدا على بعض تلك الممارسات. بالمناسبة ان المناداة بحكم "العرق" هو نوع من انواع الديكتاتورية خصوصا لو علمنا ان عبد الناصر والناصرية عموما تتبنى مشروع "القومية"! فالديكتاتورية على انواع ثلاثة اولها الشيوعية وثانيها الفاشية وثالثها القومية! وللامانة التأريخية فان جمال عبد الناصر لم يكن اول من نادى بالحكم القومي فقد سبقه الى ذلك كمال اتاتورك في تركيا عام 1921 وقد نجح مما شجع عبد الناصر فيما على المضي قدما في مشروع قد اثبت نجاحه في المنطقة نفسها! لكن بعد فترة من الزمن وعلى خطى اوروربا ليس على ارض الواقع من وجود لمشروع اتاتورك الذي كان نسخة معدلة من حكم النازية في المانيا بقيادة الفهرو (العرق الالماني السيد)، ولا لمشروع عبد الناصر الذي كان اعادة لتجربة اتاتورك بعد ان اثبتت نجاحها لفترة وجيزة!
المنطقة العربية كما غيرها على ارض المعمورة قد مرت بكل تجارب اوروبا وهذا مايثبت لدعاة التاريخ البشري الواحد والتجربة الواحدة صدق نظريتهم. الفرق الوحيد بين المنطقتين هو الحكم الاسلامي الذي لم تستسلم له اوربا باجمعها بينما وقعت كل البلاد العربية تحت حكمه، والذي كان سببا حقيقيا يجب الاعتراف به في تهذيب وتشذيب الكثير من الافكار العربية المتحجرة والخرافات والخزعبلات. وعلى هذا المنوال يصل اليوم وبعد حكم الفرد والقبيلة وسلطان القوة والنظريات المستوردة الجاهزة الى المنطقة العربية مفهوما يبدو انه سيفرض نفسه على اجندة الحكام العرب كما على الشعوب العربية من دون مشيئة او ارادة، كما انه قد دخل عنوة وعن طريق يراه الكثيرون غير شرعي وتدخل سافر في حياة الشعوب وحقها في اختيار شكل الحكم الذي تريده والذي تصونه كل القوانين الالهية والوضعية واولها المفهوم الديمقراطي. لكن للاسف الشديد فقد تناسى هؤلاء ان هذا التدخل "اللاشرعي" في نهاية المطاف هو تدخل حسن خصوصا لو علمنا ان التضحيات هي نفسها في الحالتين ان لم يكن اكثر مع موجود حكم القبيلة والديكتاتورية وحكم العسكر! فطالما ان الشعوب غير قادرة على النهوض بذاتها وبحاجة الى من يسندها فهل من ضير في طلب العون من امة غير امة العرب؟! واذا كانت الثروات العربية تذهب الى غير العرب في نهاية المطاف فما الداعي لان يطأطا المواطن العربي رأسه للحكام العرب المستبدين ولاصدقائهم من غير العرب؟! واذا كانت الارض العربية مستباحة باساطيل غير العرب وتموج الارض باقدام الغزاة فما الضرورة لتبني شعارات قد اكل عليها الدهر وشرب؟!
يبدو ان العراقيين انفسهم مجبرون على خيارات ليس لهم فيها رأي ولامشورة خصوصا مبدأ فرض الديمقراطية عليهم في وقت قد استعدوا هم فيه لنوع جديد من الديمقراطية قد سبقهم اليه "لبنان الطائف" من قبل فيما هو "مبدأ التوافق" وفقا للقومية والطائفة! فامريكا لم تحسب حساب الحقل والبيدر في عراق مابعد صدام واوروبا المتمدنة يحكمها قانون وضعي صارم ليس فيه ميزة لقومية على اخرى ولالطائفة دينية على ثانية ولا لتقديم عرق على اخر. اوروبا لاتحكمها قبائل ولاوجود لشيخ العشيرة فيها البتة كما لاسلطة لرجال الدين خارج الكنيسة وبالتالي فهي دولة يحكمها نظام وضعي علماني غير قابل للطعن فيه طالما ان الجميع فيه متساوون في الحقوق والواجبات والحكم لرأي الاغلبية ولاجور فيه على الاقلية!
اذا مافهم العراقيون خاصة والعرب عموما اصول اللعبة الديمقراطية صحيحة خصوصا لو علمنا انها ترتكز على مفاهيم اساسية ثلاثة هي:
1.السياسية: حيث السيادة الكاملة وما يتخللها من مفاهيم اخرى من قبيل التحرر وحقوق الانسان وسيادة القانون
2.الاقتصادية: حيث لاتمييز طبقي والتوزيع العادل للثروة الوطنية ومايليها من حقوق العمالة لجميع المواطنين
3.الديمقراطية الاجتماعية: حيث العدالة الاجتماعية في الحقوق والواجبات وسط غياب للتمييز القومي والقبلي او المذهبي والعرقي.
فهم بالف خير والا فان فرض الديمقراطية بالقوة على العراقيين من دون المرور بمخاض الولادة والحبو ثم المشي والركض فهو مشروع فاشل وسيجلب الدمار الى المنطقة العربية برمتها، خصوصا لو تأكد لنا ان البوابة الشرقية للوطن العربي لازالت تجلب للعرب مايرغبون فيه ومالايرغبون تماما على حد قول الشاعر:
كالريح آتية بماتمر به نتن من النتن وطيب من الطيب

كاتب وسياسي عراقي مقيم في كندا
www.alhusaini.4t.com