ثمة كتب رغم أهميتها ومقدار الجهد المبذول فيها، إلاّ انها تمرّ بما يُشبه الصمت، لأنّ أصحابها لا يُحسنون أعمالَ الدعاية والتطبيل لأنفسهم أو بمعنىً أصحّ يترفعون عن القيام بذلك. وكتاب الشاعر اللبناني إسكندر حبش "مديح اللامرئي" الصادر عن ـ دار الأنوارـ في بيروت، العام الماضي، لا شكّ انه واحد من هذه الكتب الجميلة المهمة، ففيه من شغف المتابعة والكشف والسعي لتقديم الجديد، مواكبةً لما استجدّ وحدث على صعيد الرواية، عالمياً، هذا الحقل السحري المدهش. لا أقول فيه الكثير، حسْب، بل انّ ذلك كان عَصب الكتاب برمته.
يتناول اسكندر حبش في قراءاته هذه أربعة وعشرين روائياً من مختلف أنحاء العالم يتقصاهم بشغف كبير. انّ الكثير من هذه الأمكنة التي مسحتها القراءات مجهول وناءٍ عن ذاكرة القارئ العربي، أمكنة لم يعتدها من قبل كموئل للرواية والروائيين مثل اقليم الباسك ـ الحاضر سياسياً دوماً ـ أو بلغاريا أو كورسيكا وحتى تتارستان.
أسماء ـ في معظمها غريبة الوقع على اذن القارئ، فلم تكن "الأسماء الكبيرة" ـ الشهيرة ـ هي ما يشد اسكندر. إذ غالباً ما يجد عند أولئك "المجهولين" ما يروي رغبته للقراءة، تلك التي تبدأ بالإكتشاف لتنتهي بالدهشه. كما يقول في مقدمة الكتاب. عدا عن ذلك فإن خارطة قراءاته الروائية تمتد وتتسع باتساع العالم فمن اليابان إلى فرنسا ومن إيطاليا إلى الأورغواي... إيران، تركيا، مصر، إسبانيا، فيتنام، نيجيريا، النمسا، الأرجنتين، الولايات المتحدة، كوريا، روسيا، البيرو، جمهورية التشيك. انها جغرافية إبداعية حقيقية، تتداخل مع ما هو تاريخي وسياسي، بفعل إضاءات الكاتب حين يجد جملته منساقة إلى التعريف بخلفية المكان الذي يتحدر منه الروائي ـ الروائية أو الصراعات الدائرة، ثمةَ التي لها علاقة بأحداث الكتاب أو مجمل اعمال الكاتبــ(ة) موضوع البحث. والحال هذه لا يغدو الكتاب أدبياً محضاً، بل أكثر من ذلك فهو يقدم في الوقت عينه أفقاً آخر ومعرفة تتخطى الى السياسي والتاريخي والجغرافي، ومن المهم الإشارة الى ان ذلك يتم دون قسر أو تكلف، بل هو ما يفرضه "واقع" ومجرى الكتاب، ما يجعل القارئ يحرز متعة أخرى إضافية.
يُستهَل " مديح اللامرئي" بالكاتب الإيراني صادق هدايت المولود في طهران العام 1903 والمنتحر في باريس العام 1951. وهدايت الذي هو أهم كاتب فارسي في هذا العصر ـ على حد تعبير الكاتب ـ جاءت شهرته مع روايته " البومة العمياء"، المترجمة الى الفرنسية العام 1953 وقد" أثارت يومها حماسة هنري ميللر وروجيه كايوا واندريه بروتون، الذي أسماها ـ إشارة مهتاجة في الليل ـ ".
ومما يجدر ذكره ان هذه الرواية قد تُرجمت الى العربية أوائل السبعينات وصدرت ضمن كتاب "من الأدب الفارسي المعاصر " الصادر في مصر كما ان ترجمة اخرى لها قد نشرتها مجلة "مواقف" أوائل التسعينات، كما أتذكر قصته الرائعة"الكلب" التي نشرتها جريدة ـ الفكر الجديد ـ العراقية، أواسط السبعينات وربما أشياء أخرى لم يُتح لي الإطلاع عليها. وليس الأمر كما يذهب الصديق إسكندر من انّ لا أحد قد سمع بـ "هدايت" أو عرفه مثلما أفصحت عن ذلك أسئلته وهو يتحدث عن هذا الكاتب. ان اسئلته هذه تتناسب تماماً مع كتاب وكاتبات أُخر سنعرض لهم لاحقاً.

غادر "هدايت" إيران عام 1936 إلى الهند حيث أصدر للمرة الأولى كتابيه "يوف ـ إيكور" و "البومة العمياء"(على طريقة الرونيو) وكتابه الأخير هذا هو رائعته الكبرى، ففي هذا الكتاب المهلوس، الذي يعتبره البعض نابعاً من أدب جيرار دونيرفال وكافكا، يتحدث عن مدمن أفيون، يفكر ويهذي على مرّ الكتاب. ص:8
ورداً على سؤال صميمي من نوع، أين تكمن أهمية "صادق هدايت" في الأدب الإيراني في القرن العشرين؟ يجيب الكاتب الإيراني علي عرفان، المقيم في فرنسا ـ في حوار مع صحيفة ليبراسيون ـ ..أنه قبل هدايت "لم يكن النثر موجوداً في إيران، فالأدب الإيراني لم يكن إلاّ الشعر، وما عدا عمر الخيام فإنّ هذا الشعر كان مرتبطاً بالدين..."10.
إشارة اخيرة إلى هذا الكاتب الذي يتماهى في نقاط كثيرة مع "كافكا"، هو انه كان اكثر "عمليةً" منه حين قام بنفسه ـ قبل انتحاره في غرفته بالفندق ـ بحرق مخطوطاته بدل أن يعهد بذلك إلى أحدٍ ما، إذ لا شيء يضمن أن لا يكون "ماكس برود"، آخر.

كاتبٌ ثانٍ لا تقلّ سيرته إثارةً وغرابة عن حياة صادق هدايت العاصفة، هو "خوان كارلوس اونيتي" المولود في"مونتفيديو" والذي أجبر على مغادرة وطنه الأورغواي من قبل النظام الديكتاتوري في العام 1974 ليختار مدريد منفىً له حتى موته عام 1994 عن 85 عاماً. لقد عاش هذا الكاتب منفىً آخر داخل منفاه، فقد ـ صمم على أن لا يغادر سريره مطلقاً، إذ عاش فوقه ليل نهار، ممدداً وهو يرتدي بيجامته البيضاء" و "كانت طاولته تعج بالصحف وبعلب الدخان وقناني النبيذ والويسكي. كان مهووساً بالخوف من ألاّ يعود الى الكتابة مطلقاً". هذه الكتابة التي تحكمها "رؤية تشاؤمية جذرية للعالم، رؤية ترفض الحلول العقائدية وتغلق الأبواب أمام أي أمل بالخلاص... لذلك يخترع ذاكرة غير فردية، وأحلاماً مختارة كما لو أنها أحلام عبثية"22.
أنجز أونيتي ما يقارب الست روايات، وآخر رواية له حملت اسم "حين لا يعود لأي شيء أهمية" كما لو كانت وصيته الأخيرة، كما يقول المؤلف الذي يصف هذا الروائي بأنه أحد أساتذة الغموض والإبهام.

بعض صانعي القصص والروايات هؤلاء الذين يتفاوتون بأساليبهم واتجاهاتهم والذين يُدهشون القرّاء بـ "حكاياتهم" وأخيلتهم المتوقدة لا تحتاج "قصصهم الشخصية" إلى أي درجة من الخيال، إذ يكفي أن تُروى كماهي لنلامس الفانتازيا في صورتها القاسية، ونتساءل.. هل يمكن أن يحدث مثل هذا؟
قصة حياة "فاسيلي أكسيونوف" تصلح أن تكون نموذجاً لهذه الحكايات المريرة. لقد ولد هذا الكاتب في "كازان" ـ عاصمة تتارستان ـ وكان في الخامسة حين اختفى والداه. كتب في ما بعد في روايته الفخمة"قصة مسكوبية" ـ بلغت صفحاتها أكثر من ألف ـ: " في البداية، اهتمت الدولة بنا فأرسلتنا إلى ميتم للحضانة. في ما بعد جاء عمي لاستعادتي. وكان هذا الأمر جيداً، إذ كانت هناك إشاعات تفيد بأن اطفال "أعداء الشعب" يختفون، لا يقتلونهم، لكنهم يطلقون عليهم أسماء جديدة، وتبدل هوياتهم، فلا يعودون عندها يعرفون من كان آباؤهم". حُكم على والدته لمدة عشر سنوات في سجن انفرادي دون أن تعرف السبب، على الرغم من انها كانت شيوعية مؤمنة واستاذة مادة الماركسية ـ اللينينية في جامعة كازان. اما والده، سكرتير اللجنة المحلية في الحزب الشيوعي في تاتاري وعمدة كازان فقد أمضى خمسة عشر عاماً في السجن. الأبن البكر "أليوشا" مات من الجوع خلال الحرب في ليننغراد. في العام 1949 يطلق سراح الأم لتوضع تحت الإقامة الجبرية في "ماغادان" ـ يوتوبيا مقلوبة ـ .."كانت ماغادان مدينة غريبة، غالبية سكانها من المحتجزين، اما من تبقى منهم فهو ينتمي إلى الكي جي بي. كان هناك أيضاً بعض المساجين اليابانيين الذين بلغ عددهم عدة الوف. كان المحتجزون في كل مكان وقد أدهشتني أعدادهم".هكذا عبر أكسيونوف عن صدمته عقب لقائه بوالدته وقد ذهب ليتعرف عليها وهو في سن السادسة عشرة في تلك المدينة العجيبة. هذه قصة فاسيلي أكسيونوف مكثفة وقد تجاوزت بعض التفاصيل، وإن كانت مهمة، لأن المجال لا يتسع لسردها.
يعيش أكسيونوف في واشنطن منذ العام 1980، بعد منْعه من النشر ومن ثمّ طرده من اتحاد الكتاب وترحيله خارج البلاد.
ثمة قصص مختلفة اخرى يعجّ بها كتاب "مديح اللامرئي"، أعني "قصص" نجاح وتميّز وتفوق هؤلاء الكتاب، حيث يبيع معظمهم ملايين النسخ من كتبه، لقد كانوا يحوزون سراً بسيطاً لكنه أساسي، وهو تمتعهم بالمواهب التي أهلتهم لأن يحرزوا هذا التقدير والتبجيل الذي يكنه لهم كل من اطلع على أدبهم. وقد كان إسكندر حبش واحداً من أولئك الشغوفين المبجلين للتميز والبراعة الأدبية وهو ماحداه إلى البحث والتنقيب ومراجعة أعمال الكثير منهم بالفرنسية حين لا تتوفر كتبهم أو تكون غير مترجمة. لكن بالمقابل ثمة أيضاً أعمال متميزة قد نقلت الى العربية كأعمال التركي أورهان باموق واليابانية "بنانا يوشيموتو" والإسبانيَين "مانويل ريفاس" و"ميجيل ديليبيس". و هنا يجدر ان نشير مع ـ المؤلف ـ إلى أسماء بعض هؤلاء المترجمين الذين بادروا إلى تقديم أدب متميز وثمة من قدم كتّابا لأول مرة بالعربية، كصالح علماني والشاعر بسام حجار ورفعت عطفة وفاضل جتكر وعبد القادر عبد اللي وعبد السلام باشا.
. وحقيقةً ان كل كاتب من هؤلاء الكتّاب الذين واكبهم هذا "المديح.." يستحق ان تفرد له مساحة للتعريف به أو الإشارة له، على الأقل، فكيف يمكن التغافل، مثلاً، عن النيجري ـ المستوحى منه اسم الكتاب ـ "بن أوكري" الحائز على جائزة ـ البوكرـ وهي أهم جائزة أدبية بريطانية، وهو في الثانية والعشرين عن روايته "طريق الجوع". أو البلغارية التي تكتب بالفرنسية " روجا لازاروفا " التي جعلت من ـ نهدين ـ شخصيتين روائيتين بكل أحاسيسهما في عملها "قلوب متقاطعة".
كما ثمة البير قصيري، ماريو فارغاس يوسا، بيتر هندكة وغيرهم بحكاياتهم وتفاصيلهم. ولا يمكن بأي حال تقديم الجميع غير ان أفضل حل لمثل هذا الإشكال هو الإطلاع على الكتاب كاملاً ليكون القارئ قريباً أن لم يكن في صميم عوالم مدهشة بتنوعها وغناها لكتّاب يتميزون بعبقرياتهم وجنونهم، أيضاً. والشاعر إسكندر حبش الذي كان متميزأً هو الآخر في قراءاته وأحكامه مدعو إلى الإستمرار في رفد القارىء بكل جديد في ميدان الرواية العالمية. انّ مجموعة أخرى مماثلة من الكتّاب كالتي تضمنها "مديح اللامرئي" كفيلة بصنع ماهو أكثر حتى من "موسوعة"، إذ ان الموسوعة عادة تعتمد التكثيف إلا ان القراءات هنا قد امتازت بإحاطتها بجوانب عديدة في الوقت ذاته. اننا ننتظر عوالمَ جديدة لروائيين قادمين يطاردهم المؤلف بشغف في مختلف الأصقاع


[email protected]