"منافي" لتوني غاتليف: إطلالة على مأساة "الغجر الجدد" من المهاجرين


صلاح هاشم من باريس: من اجمل الافلام التي خرجت للعرض حديثا في فرنسا، فيلم " منافي " للفرنسي من اصل غجري جزائري توني غاتليف ( من مواليد الجزائر في 10 سبتمبر 1948 ) الذي حصل علي جائزة الاخراج في مهرجان " كان " 57، والذي كرس مخرجه بافلامه مثل فيلم " لاتشو دروم " و" موندو " و" انا ابن بجعة " لما يمكن ان نطلق عليه ب"سينما الغجر"،التي تحكي في افلامها عن حياتهم وعذاباتهم وغربتهم وبؤسهم في فرنسا وكل وطن، وتحيلك افلامه عند مشاهدتها الي افلام المخرج اليوغوسلافي الراحل غوري يوزائيفتش صاحب " قابلت غجرا سعداء" الذي اسس بفيلمه ذاك لهذا " النوع " في المشهد السينمائي العالمي وعن جدارة، وقدم من خلال افلامه، قدم نقيضا للصورة النمطية الغرائبية التي كانت هوليوود تروج لها بشأنهم في افلامها، وتصورهم علي انهم لصوص وقطاع طرق مجرمين ومشبوهين، كما نلاحظ ايضا امتدادات لاسلوبه السينمائي عند الصربي أمير كوستوريكا الذي اتحفنا في مهرجان " كان " 57 برائعة جديدة من روائعه السينمائية، ونعني بها فيلمه الاثير " الحياة معجزة " ونذكر له " زمن الغجر " وغيره من افلام ناقشت مشاكلهم،وينضم توني غاتليف بافلامه الي " سينما الغجر" هذه ان صح التعبير،وكان فيلمه " لاتشو دروم " عام 1993 اطلق شهرته في العالم، كأحد أبرزالمخرجين المتخصصين في هذا النوع..
يقول توني غاتليف : " كانت بداية معرفتي بالسينما في الجزائر في نهاية الستينيات عندما حضر مدرس الفصل الي المدرسة وهو يحمل جهاز عرض 16 مم وراح يعرض علينا افلاما للفرنسي جان فيجو والبريطاني شارلي شابلن والامريكي جون فورد وعلي اساس ان نناقشها مرة كل اسبوع في المدرسة، وهكذا دخلت الافلام الي ارضي الخراب المهملة، وعرفت ماهي السينما، وتعلقت بافلامها الساحرة .. "

" أمراء" غاتليف ليسوا خونة

وعندما حضر غاتليف الغجري إلي فرنسا أصبح مشردا وعاطلا عن العمل بلا مأوي ينام علي الرصيف، وانضم بسبب ارتكابه لبعض جرائم السرقة الصغيرة الي العديد من أصلاحيات الأحداث، وكان يذهب أثناء النهار لينام داخل صالات السينما الباريسية الضخمة في الميادين الكبري، ويبحث في الليل عن عمل، ثم درس فن التمثيل، وتعرف الي الممثل السويسري العملاق ميشيل سيمون بطل عدة افلام لجان رونوار، ومن ضمنها فيلمه الاثير " بودو الذي انقذ من الغرق " الذي توسط له عند وكيله الفني، واخيرا استطاع غاتليف ان يحقق فيلما روائيا قصيرا يحكي عن صبي مشرد في اصلاحية احداث بعنوان " الرأس المدمر" وبعدها بثلاث سنوات اخرج عام 1987 اول افلامه الروائية الطويلة بعنوان " الارض في البطن " ويحكي عن فرنسية جزائرية تعيش مع بناتها الاربعة اثناء ثورة التحرير الجزائرية، ثم انتقل عام 1981 الي اسبانيا، وصور فيلمه " كور جيتانو" CORRE GITANO الذي يعرض لحال الغجر من غرناطة واشبيلية واوضاعهم، وكان كما يقول غاتليف " أول فيلم يعرض لظروف العيش القاسية المدمرة واوضاع البطالة التي يعيشونها، ومنع عرض الفيلم في فرنسا ".. ثم اخرج فيلم " الأمراء " LES PRINCES الذي يحكي عن مجموعة من الغجر قررت الإقامة والاستقرار في ضواحي باريس، وتحدي اوامر سلطات الشرطة والبلدية المعنية، التي كانت تسعي بشتي الوسائل القمعية لطردهم، وتهجيرهم من تلك المناطق التي نزلوا، ونصبوا خيامهم ومركباتهم فيها، غير عابئين بإنذارت وتهديدات الحكومة، وحاز الفيلم اعجاب النقاد وتقديرهم، وتحمس له كثيرا الفيلسوف الفرنسي الثوري الراحل جي ديبور، فراح يطوف شوارع باريس، وهو يحمل يافطة تقول : "أمراء" غاتليف، يقصد الغجر الذي يحكي عنهم في فيلمه، ورميهم من قبل السلطات بأقذع الشتائم، ليسوا خونة " . وفي عام 1992 حقق غاتليف فيلما رائعا حقق له شهرته بعد أن طاف في مهرجانات العالم، هو فيلم " لاتشو دروم " LATCHO DROM وتعني " رحلة آمنة" الذي يحكي فيه عن رحلة موسيقي الغجر في العالم، وصوره مع مجموعة فنية صغيرة، انتقل معها لتصوير الفيلم الي راجستان في الهند والاندلس في اسبانيا، ومصر وتركيا ورومانيا وهنغاريا، وعرض الفيلم في قسم " نظرة خاصة " في مهرجان " كان " واستقبل بحفاوة كبيرة، وسافر بعدها الي مهرجانات وشاشات العالم.ثم اخرج فيلما بعنوان " موندو " عن رواية للكاتب الفرنسي لوكلوزيو، وتحكي عن طفل يتيم في العاشرة من عمره يحط ذات يوم في مدينة نيس الفرنسية، ومنح دور البطولة في فيلمه " فنجو" لنجم الفلامنكو الاسباني انطونيو كاناليس، وكانت اول مرة يظهر فيها علي الشاشة، ويعتبر هذا الفيلم الذي اخرجه توني غاتليف عام 2000 بمثابة تحية الي الاندلس في اسبانيا، وتحية الي الموسيقي الفلامنكية، واغنية في مدح المتوسط، وكان فيلم " منافي " الذي خرج حديثا للعرض في فرنسا وشاهدناه في " كان " في ظروف خاصة جدا، هو فيلم غاتليف الروائي الطويل الرابع عشر، علي سكة الإمساك بتوهج حياة وذاكرة وموسيقي الغجر، واضافاته الفنية القيمة الرائدة لسينما الغجر في العالم.فقد شاهدنا الفيلم في مهرجان " كان " مع رئيس لجنة التحكيم المخرج كوينتن ترانتينو، وكان يجلس في الصالة، ومن فرط اعجابه وحماسه البالغ للفيلم الذي كان مرشحا مع " فهرنهايت11-9" لمايكل مور للفوز بجائزة السعفة الذهبية، قام يرقص مع آخر مشهد في الفيلم الذي ينتهي بحفل زار يقوم فيه بطل الفيلم بالرقص، كي يطرد الارواح الخبيثة من جسده، ويتطهر بموسيقي الزار الافريقية وايقاعاتها المجلجلة من ادران واوساخ عالمنا، وكنا تحمسنا ايضا للفيلم، بسبب موضوعه وأسلوبه، وقيمته كاضافة باهرة الي سينما الغجر، اذ يحكي غاتليف في فيلمه عن شاب يدعي زانو، يلعب دوره الممثل الفرنسي رومان دوريس، وهو زانو ابن اسرة فرنسية كانت تعيش في الجزائر ثم غادرتها بعد الاستقلال عام 1962، كما يحكي عن علاقته بصديقته نعيمة ابنة احد المهاجرين الجزائرين الي فرنسا، وتلعب دورها بتميز آسر الممثلة المغربية لبني ازبال ويبدا الفيلم بلقطة داخل غرفة من غرف بنايات الضواحي الفرنسية الكئيبة، حيث نتعرف علي زانو وهو يستمع الي اسطوانة موسيقية بايقاعات صاخبة ثم يجرع آخرشفطة من زجاجة شراب، وتظهر نعيمة تحت تاثير الشراب وهي مازالت تتقلب في الفراش بعد ان مارسا الحب سويا، ومن شباك الغرفة يطوح زانو بزجاجة الشراب، التي تهبط من حالق وتتهشم علي الارض ويكون لارتطامها بالارض صوت مدوي، ثم يسحب زانو نعيمة من الفراش ويهبطا سويا الي الشارع العام وبعد ان يدفنا مسدسا داخل لفافة في حفرة بجوار جدار كبيرملاصق للبناية، يحملا بعض امتعتهما وينطلقا سويا علي الطريق، في رحلتهما من فرنسا الي الجزائر بطريقة الاوتوستوب، لاستكشاف الأرض التي وهبتهما الحياة، واضطرت أسرتيهما لمغادرتها منذ عقود مضت،ارض الجزائر، وخلال تلك الرحلة التي يقطعانها سويا لعبور تلك الطرق العالية المخصصة للسيارات، ومروا بجنوب فرنسا، ثم الاندلس في اسبانيا، وعبور المتوسط الي المغرب، والتسلل منه عبر الحدود الي الجزائر العاصمة، تتكشف لنا وقائع الهجرة العربية، ونتعرف علي اوضاع المهاجرين الجزائرين في الجنوب الفرنسي الذين يحلمون بالسفر الي باريس العاصمة، ونتعرف علي نماذج انسانية رائعة في الطريق، والظروف التي اجبرتها علي مغادرة الوطن، ومن خلال مصاحبة زانو ونعيمة في رحلتهما، تتكشف لنا شخصيتهما، وحيرتهما وعذاباتهما، ونتعرف الي تلك المنافي التي نحملها جميعا داخلنا،تحت جلودنا، حين تلفظننا اوطاننا الاصلية، ونحرم فيها من العيش الكريم، فنصبح غرباء في كل مكان، ونتعاطف في الفيلم مع شخصية نعيمة، فهي لاتعرف من هي نعيمة، انهاليست فرنسية تماما وليست عربية تماما، وتبحث في الفيلم عن ذات وهوية، وتردد " أنا دائما غريبة وسأكون دائما غريبة في كل مكان " ويقول توني غاتليف ان فيلمه لم يعتمد علي صياغة لفكرة ولم يكن تجسيدا، لمفهوم ما، بل نبع من اشتياق محموم لاعادة النظر والتحديق في جروحه المفتوحة، والعودة الي وطنه الجزائر من خلال رحلة تصوير الفيلم، بعد مضي اكثر من 43 عاما علي هجرته الي فرنسا، ومغادرته مرتع طفولته، وكان عليه ان يقطع 4500 ميلا علي سكة العودة، بوسائل السفر المختلفة من مركبات وبواخر وسيارات او سيرا علي الاقدام، وهو علي يقين من ان هؤلاء الذين تركونا، يعودون دوما الينا، وسوف نلتقيهم علي سكة الحياة، كما كانت شخصية زانو في الفيلم الذي يروح حين يصل الي شقة اسرته في الماضي وتسكنها عائلة جزائرية الآن في الجزائر، يروح يتذكر ذكرياته مع جده، معادلا موضوعيا لشخصية توني غاتليف، واراد من خلالها ومن خلال حديث زانو عن ذكرياته مع جده، ان يقدم تحية الي ذلك المدرس الذي حمل جهاز العرض الي الفصل ذات يوم في الجزائر وراح يعرض عليهم افلام شابلن وجون فورد وجان فيجو ويدلف بهؤلاء الصغارفي الفصل، ومن ضمنهم توني غاتليف، يدلف بهم الي عوالم السينما السحرية التي تقربنا اكثر من انسانيتنا..

الموسيقي تحضر كشخصية في" منافي" غاتليف
ان القيمة الاساسية في هذا الفيلم الانساني الرائع EXILSالذي جعلنا نقف بعد نهاية عرضه في مهرجان " كان " – كلا لم نرقص مع ترانتينو في الفيلم- جعلنا نقف ونصفق لمدة 15 دقيقة مع المتفرجين في الصالة وترانتينو رئيس لجنة التحكيم، تكمن في قدرته من خلال مغامرة تلك الرحلة المشوقة الحافلة بالمفاجآت والاحداث، رحلة الامير زانو مع الاميرة نعيمة الي الجزائر، علي بسط حقائق الهجرة العربية الي فرنسا، والامساك ايضا بواقع الجزائر من خلال النماذج الانسانية الرائعة التي يحكي عنها الفيلم هناك، وماتزال رغم كل الدمار والمشقات والعذابات التي تلاقيها في الوطن، ماتزال متشبثة بجذورها وهويتها وأصلها، حيث تسود قيم التراحم والتعاطف،وتشمخ رغم شظف العيش علي ارض الجزائر..
كما تكمن في انفتاحه علي سينما الواقع من خلال الارتجال اثناء الرحلة وتصوير بعض وقائعها الحية وتقديم نماذج من المهاجرين علي سكة السفر الطويلة في الفيلم من فرنسا الي الجزائر، ولهذا يقترب الفيلم من روح السينما التسجيلية ويتميز بعفويته وتلقائيته، كمل يبرز في الفيلم ذلك الحضور الموسيقي الباهر حتي تصبح الموسيقي رفيقا لرحلة زانو ونعيمة وتعطشهما الي الخلاص والحرية، وبحثهما عن جذورهما وهويتهما، تصبح الموسيقي شخصية في الفيلم وكما يقول زانو في بعض مشاهده ويردد اكثر من مرةعندما يسأله البعض ان كان مسلما او متدينا باي دين، فيرد أن لست مسلما ولست مسيحيا وانما ديني هو الموسيقي، ومن خلال الفيلم تصبح هذه الموسيقي بكل انواعها وايقاعاتها واصواتها التي يمر عليها ويعرض لها الفيلم ومنذ اول مشهد كما ذكرنا، تصبح ايضا دينا وعبادة وسكة للخلاص، ووطنا بلاحدود لكل الغرباء في منافي العالم السحيقة، الوطن الآخر، وحتي القطب الشمالي، وآخر بلاد المسلمين. وحين يصل الفيلم الي ذروته، تتوهج هذه الموسيقي العربية الروحانية بايقاعاتها الصوفية الافريقية في المشهد الختامي في الفيلم، الذي يصور فيه توني غاتليف حفل زار حقيقي في الجزائر، بحضور زانو ونعيمة،ويستغرق عرضه اكثر من عشر دقائق، وتكون الموسيقي التي تزلزل كياننا بمثابة دعوة الي الانخراط في الرقص، فتقوم نعيمة كي ترقص وتتخلص بالرقص من خوفها وعذاباتها واحباطات كل يوم، ويتبعها زانو المذهول مما يحدث، وهو يري نعيمة تقفز في الغرفة كمن يطرد عنه عفاريت جهنم، ويروح يرقص هو الآخر، وترعد موسيقي الزار في انحاء صالة العرض، وتتسامي تدريجيا بأرواحنا، وينسي الجميع الفيلم، ويدخلون في حالة من الترانسTRANCE وينهض ترانتينو ليشارك ايضا في الرقص، والمشهد الختامي ذاك في الفيلم كما بدا لنا، يعبر به غاتليف عن احترامه العميق لروحانية الارض العربية في الجزائر، وتواصلها الروحاني مع معتقداتنا، كعنصر من عناصرثقافتنا وهويتنا، وكذلك تأصل هذه الثقافة الموسيقية العربية الصوفية من الاندلس والجزائر وشمال افريقيا في وجدانه وجريانها في دمه. يحول غاتليف ذاك المشهد الختامي الي طقس روحاني، تتطهر به الروح العليلة من عذاباتها ومخاوفها، فتتخلص من تلك الجاذبية الارضية التي تشدنا الي مجتمعاتنا المادية، وتنطلق من قمقم الحبس، وحين تغدر القاعة تكون تلك الموسيقي قد استولت علي روحك.تحية الي توني غاتليف علي فيلمه الرائع، الذي صار بعد مشاهدته في التو اكبر منا، ونعتبره بمثابة تحية وتقدير لحضارة الجزائر وثقافة الاندلس وموسيقي الغجر ومزاج المتوسط وحضورتلك الموسيقي الصوفية الافريقة في ارواحنا، تحية الي كل المعذبين المغتربين والضائعين المشردين، مازالوا في الوطن الاصلي، وكل هؤلاء "الغجر الجدد" من المهاجرين، في كل المنافيEXILS في الوطن الآخر..