من أغرب ما واجهني من أسئلة، كان سؤالاً من الإذاعة التونسية ضمن برنامج ثقافي، اذكر أسماء خمسة كتب تختارها إذا ما حكم عليك بالسجن الانفرادي. ولأنني كنت متحمساً في تلك الأيام لرواية فرغت من قراءتها للمرة الثانية، فقد أجبت المذيعة، بأنني سأصطحب معي إذا ما سجنت خمس نسخ من رواية واحدة، وذلك على سبيل الاحتياط، فإذا احترقت نسخة وغرقت أخرى في الماء، وسرقت الثالثة، واستخدمت الرابعة وسادة، واستعار مني السجان الخامسة قد أندم، وأتمنى لو أنني اصطحبت منها ست نسخ وليس خمساً فقط.
وبمرور الأيام أدركت أن الإنسان يتحمس أحياناً لكتاب معيّن، لأسباب وقرائن أخرى قد تكون من خارج محتواه، وصورة الغلاف ولونه ورائحة الورق القديم، والخطوط الشاحبة بقلم الرصاص تحت بعض العبارات.. كلها قرائن تستدعي زمناً ولّى، وتستثير نوستالجيا تصعب مقاومتها.
عندما قرأت تلك الرواية للمرة الأولى، كنت طالباً في جامعة القاهرة، وما إن قرأت الصفحات الآسرة التي تصف المرآة ذات الإطار الفضي في فندق سيسيل، والصّمت المنبعث منها، لأنها تعكس صورة لاعبي شطرنج في صالة الفندق حتى وجدت نفسي محشوراً في القطار باتجاه الاسكندرية، وأحسست فور وصولي أنني أقتسم فنجان الكابتشينو مع جوستين بطلة الرواية في مقهى أوستيريا، وأشم رائحة النّعاس الحريري في شراشف السرير الذي كان قد نام عليه لورنس داريل.
ومنذ تلك الرواية.. وتلك التجربة، بدأت أعتقد بأن الإنسان لا يتحرر من الماضي حتى لو ظن أنه قد غادره الى الأبد، فالأمكنة التي عاش فيها نسي فيها ما لا يمكن وضعه في الحقيبة عندما تأزف لحظة السفر، فالبصمات على قبضات الأبواب، والسعال في الصرير أو في حفيف شجرة عجوز قرب النافذة.
تكرر الأمر بالنسبة لي بعد مشاهدة فيلم “ميرامار” المأخوذ عن واحدة من أهم روايات نجيب محفوظ، فقد وجدت نفسي الساكن التاسع في ذلك البانسيون الذي لخص به محفوظ مصر بكل نماذجها من الاقطاعي الى الانتهازي والصحافي المتقاعد والخادمة، اضافة الى المرأة الاغريقية التي تدير البانسيون.
نادمتهم جميعاً، واقتسمت معهم مساءات شجية وثرثرنا طويلاً حول سعد زغلول الذي ينتصب تمثاله قبالة البانسيون، ولم أفق من تلك النوستالجيا إلا بعد أن غادر نجيب محفوظ نفسه تلك الأيام، واستضاف قراءه الى عوالم أقل دفئاً وأكثر إدانة ونقداً.
ولو سئلت الآن عن اسم الكتاب أو الكتب الخمسة التي اختارها إذا ما حكم عليّ بالسجن الانفرادي، فلن أختار رباعية داريل، ولا ميرامار نجيب محفوظ، ولا حتى البحث عن الزمن الضائع لبروست، سأختار خمسة دفاتر ورقها كله أبيض، لأقرأ فيها ما أتخيله أو أكتب عليها ما يعانيه السجناء إذا وجدوا أنفسهم خارج الزمان والمكان.
وإني لأعجب من العقوق الذي نبديه تجاه من علمونا، إذ نادراً ما نلهج بالعرفان لهم، وغياب هذا التقليد عن ثقافتنا له أسباب عدة منها، بل في مقدمتها تورطنا بعادات ذهنية تجعل من الاعتراف نيلاً من الذات، ومن العرفان انتقاصاً منها.
كما أننا أيضاً نتهرب من استخدام ضمير المتكلم لأن هناك فكرة شائعة تدين من لا يتخفى وراء الفاعل ويبني أفعاله للمجهول، هذا بالرغم من أن الكتابة هي النشاط الوحيد الذي يفقد دلالاته وجدواه ومعناه إذا حذفت منه الذات، والأمر ليس وقفاً على الأدب، والإبداع، فالمقالة السياسية في أيامنا ممهورة من ألفها الى يائها بضمير المتكلم، ولو أخذنا على سبيل المثال مقالات لفريدمان، وزكريا، ومن قبلهما ادوارد سعيد وآخرون، لوجدنا أن ما يثيرنا بالفعل هو ضمير المتكلم، سواء كان واصفاً أو متذكراً، أو محللاً، وفلسفة حذف الذات من أجل إنكارها استبعاداً للاثرة والنرجسية وسائر النعوت المعروفة في هذا السياق، هي وليدة ثقافة أصابها الانحسار وهيمنت عليها سايكولوجيا المقهور والمغلوب.
لقد وصف كاتب عربي، قامة أسلافنا الجاهليين قائلاً إنها كانت تعادل قاماتهم كبشر، بعكسنا نحن الأعلم منهم، والأحدث والأكثر زعماً بالمعرفة، فثمة بون أو هوة تفصل بين قاماتنا كعرب وقاماتنا كبشر، نحاول ترميمها بالمحاكاة، أو النسج بمنوال الآخر وعلى غراره.
والكتابة ليست طاقية إخفاء، أو حفلة تنكرية يرتدي فيها الغزال قناع الذئب، أو ترتدي فيها النعجة قناع الخنفساء، إنها على اختلاف مجالاتها توفر مدى ومساحة للبوح، فالسياسة ليست وجبة من ملح الطعام الصافي، أو من السّكر المحض، وكذلك الاقتصاد إذا لم يكن مجرد أرقام وجداول صمّاء.
لهذا اختلفت عناوين الكتب في عصرنا، فأصبحت دراسة علمية واقتصادية عن الصّين تحمل عنوان “التنين الأكبر”، مثلما حمل كتاب سياسي لولسون عنواناً مثيراً هو “الطريق الى فنلندا”.
والكتب النقدية القائمة على أساس علمي لم يتحرج مؤلفوها من إطلاق عناوين شعرية عليها مثل كتاب الدراما الآسيوية وهو عن الفقر والارتهان وتجارة الرقيق، أو كتاب “الجرح والقوس” وهو دراسات نقدية بالغة الصرامة.
ماذا تأخذ معك الى سجن انفرادي، سؤال تسرعت في الإجابة عنه مرّتين، مرّة حين ذكرت رواية داريل ومرة حين قلت الدفاتر ذات الورق الأبيض..
إن أفضل ما تصطحبه إلى السجن.. هو حرّيتك!