شفشاون: الطريق إلى شفشاون (شمال غرب المغرب) صعبة ومتعبة، لكن ما أن تبدو للزائر حتى يتبدد فيه كل إحساس بالتعب. شفشاون مدينة مميزة بكل المقاييس، تستقبل الزائر بالورود من دون أن يراها حتى تظهر فجأة من بين المنعرجات الجبلية وهي قابعة في أحضان جبال الريف. تشبه شفشاون كثيرا نبات الدفلة الذي يسيج جميع مداخلها، فهي بقدر ما تبدو جميلة ورائعة بقدر ما تخفي أغوارها مرارة العيش فيها بسبب صروف التهميش والقهر التي تناوبت عليها طوال عقود من الزمن.

يحس أهل شفشاون كثيرا بالدخلاء، غير أنهم يخفون عنهم أي إحساس لا بالترحيب ولا بالرفض، إلا أن المكان يحتفظ لكل زائر بكثير من الألفة والإحساس بالأمان. تقتات مدينة شفشاون من أرضها، فتجد كل شيء فيها طيبا ولذيذا، لكن موارد الزراعة هناك ضعيفة وبالكاد تكفي حاجياتها المحلية. كما تقتات أيضا من المداخيل المتواضعة التي تذرها عليها الصناعة التقليدية، أما الذين يستفيدون من تجارة الحشيش فجلهم تركوا المدينة واستقروا في مدينة طنجة. شفشاون تشبه كثيرا نفسها، مدينة قنوعة إلى حد المبالغة، كأنها ألفت خصوصيتها، وربما بسبب تلك القناعة ظلت جامدة في مكانها ولم تحقق أية خطوة إلى الأمام.

لا يعني ذلك أن شفشاون مدينة غنية لأنها ليست كذلك، ولا أنها فقيرة لأنها أيضا ليست كذلك، كيف وليس فيها متسول واحد؟. هي مدينة قنوعة فقط.
حتى عثمان النادل في فندق "اسما" المنتصب في قمة الجبل قنوع جدا، يعمل في المطعم الذي يوجد في الطابق الأول في الفندق وفي الأسفل يعرض لوحاته التشكيلية الجميلة التي تعبق برائحة المدينة التي قرر أن يدفن فيها فنه. عثمان فنان مغمور جدا يتحرك بقامته الممدودة بخفة قلما تجدها في أهل شفشاون، لا يتكلم عن نفسه أبدا وزملاؤه في العمل هم الذين يتكلمون لنزلاء الفندق عنه، لكن الابتسامة لا تفارق محياه، ويصر على أن يصب كثيرا من حساء الدجاج لنزلاء الفندق حتى لو كانوا لا يريدون ذلك.

النادلون في شفشاون لا يشبهون عثمان، يتعاملون مع الزبائن كأنهم يستضيفونهم في بيوتهم، لا يستعجلون شيئا ولا يعيرون كبير اهتمام للسرعة في خدمة الزبون ولا في تنميق المعاملة كما يحدث في المدن الكبيرة. لكنهم مضيافون جدا ولا يتكلمون كثيرا. في مطاعم شفشاون، قد ينتظر الزبون ساعة كاملة كي يحظى بصحن من السلاطة بطعم الجبن الشفشاوني اللذيذ، كأنه لن يدفع نظير ما سيأكله، النادلون يملكون من السخاء ما يجعلهم يقيسونه حتى على الوقت.

كما أنك كي تحظى بفنجان من القهوة عليك أن تنتظر نصف ساعة. في شفشاون يضعون القهوة في كؤوس كبيرة مثل تلك التي يصب فيها الماء عادة في المدن الكبيرة، كأس كبيرة مقابل أربعة دراهم فقط ودون أن تضطر إلى تقديم بقشيش للنادل. النادلون هناك يرفضون البقشيش وينظرون إليه كنوع من الإهانة. شفشاون ربما تكون المدينة الوحيدة التي يمكنك أن تشرب فيها فنجانا من القهوة مقابل أربعة دراهم وفي مقهى أنيقة، شرط أن لا تكون على عجل. في شفشاون ليس في مصلحة أي أحد أن يكون على عجل. عكس سكان المدن الكبيرة، يستعجلون كل شيء كأنهم يخشون أن ينفرط منهم الزمن على حين غرة.

تراهن المدينة كثيرا على تاريخها وجمالها وعلى الثقافة أيضا كي تجذب إليها السياح وتنهض باقتصادها، لكن الثقافة تحتاج إلى دعم أكبر كي تؤدي هذا الدور. وتحتاج أيضا إلى إذكاء بعض الحماس في أهلها كي تستفيق من سباتها وتنمو. ليس هناك من يمكن أن يخدم المدينة أكثر من أهلها. شفشاون تشبه بركة الماء التي تبدو راكدة رغم أن الماء يتحرك فيها، كل شيء فيها هادئ ومستسلم، حتى الحمقى الذين يذرعون الشارع الصغير الذي يتوسط ساحة "وطاء الحمام" في وسط المدينة جيئة وذهابا.

ليس في شفشاون من ينتفض ضد حالة الموات الذي يستبد بها غير بعض شباب المنطقة الذين يعملون بنشاط كبير في إطار جمعيات ثقافية محلية. اختاروا الثقافة كي لا يجرفهم تيار التطرف الديني أو المخدرات. حتى هؤلاء يطالبون فقط بفضاء مناسب لممارسة أنشطتهم الثقافية. أحمد ممثل مسرحي شاب ترك العاصمة بعد أن تخرج من المعهد العالي للتنشيط المسرحي ومكث فيها سبعة أعوام ليعود إلى أحضان شفشاون. تلك المدينة تملك من السحر ما يمكنها من جذب أهلها إليها من جديد حتى لو كانت لا توفر لهم نمط الحياة الذي يطمحون إليه، كأنهم يقضون حكما بالعيش فيها.

يقول أحمد بكثير من الأسف إن المدينة ليست فيها قاعة عرض سينمائية ولا مسرح ولا مراكز ثقافية، ويحلم باليوم الذي يجد فيه فضاء للتدرب على أدواره المسرحية دون أن يضطر إلى فعل ذلك في المقابر التي توجد في أطراف المدينة. شفشاون تملك فنانين ومبدعين كثر، وفرقة "أبينوم" التي تتحدر من المنطقة نالت الجائزة الكبرى في مهرجان المسرح الذي نظم أخيرا في مدينة مكناس وعلى جائزة الإخراج المسرحي وجائزة الأمل ، لكن أملها الأكبر أن تتوفر المنطقة يوما على قاعة لتقديم عرض مسرحي أو حتى للتدرب عليه.

حتى الرياضة لا مجال لها في المدينة، وليس هناك ما هو أقسى من أن تتأهل فرقة للعب كرة السلة في شفشاون إلى القسم الوطني الأول باستحقاق كبير ويتم إقصاؤها لمجرد أن المدينة التي تلعب باسمها لا تتوفر على قاعة مغطاة. ليس في شفشاون متسولون ولا أطفال مشردون، لكنها حبلى بالشباب الذين يتوقون لأي قرع كي يبدؤوا بالرقص. رفض النادل الشفشاوني للبقشيش لن يكون أغرب من آذان الصلاة الذي يتكرر ثلاث أو أربع مرات عند كل صلاة والفرق بين كل آذان أكثر من ربع ساعة. ولا أغرب من آذان الفجر الذي يبدأ في الثانية إلا ربع صباحا. يصعب تفسير هذا الأمر لكنه يحدث ويتكرر كل يوم في شفشاون الجبلية فقط.

تحتضن المدينة العتيقة لشفشاون عددا من مباني التاريخية التي تعكس إلى حد كبير الطابع التاريخيوالحضاري الذي تكتسيه المدينة وتمنحها ذلك السحر الخاص. شفشاون أشبه بفتاة جميلة تسوق الدلال على كل من يقترب منها لأنها واثقة بأنه سيقع في عشقها. إحدى زائرات المدينة تقول إن شفشاون هي فينيسيا المغرب وإنها وقعت في حبها لأول وهلة. المدينة قديمة جدا، شيدت قبل اكتشاف أمريكا وتحديدا عام 1471 ميلادية على يد الفقيه أبي الحسن وعرف باسم ابن جمعة في جانب من شفشاون، ثم بنى من بعده ابن عمه الأمير أبو الحسن علي بن راشد في الجهة المقابلة قصبتها في غرب المدينة وأوطنها بأهله وعشيرته بعد أن اختارها كي تكون قلعة للجهاد وثكنة عسكرية ضد البرتغال.

يحكي مسؤول في بلدية المدينة أن الأمير كان كلما جلب أسرى من البرتغاليين أمره بالمشاركة في بناء برج داخل القصبة فوق السجن الذي كان يضعهم فيه، كنوع من التباهي أمام سكان المدينة. وهذا ما يفسر ازدواجية البناء في القصبة بين المعمار العربي والبرتغالي. يحيط بالقصبة التي توجد على إحدى سفوح جبل تيسوكا على علو 600 متر سور تتوسطه عشرة أبراج، بني وفق النمط الأندلسي.

تتوسط القصبة حديقة كبيرة مزينة بحوضين وأرخبيل من الخضرة. في جانب من القصبة يوجد المتحف الإثنوغرافي الذي يرجع تاريخ بناء المبنى الذي يأويه إلى نهاية القرن17 الميلادي. ويتخذ شكل المنازل التقليدية المغربية التي تتوفر على ساحة داخلية مفتوحة تتوسطها نافورة مائية، محاطة بأروقة وغرف بالإضافة إلى طابق علوي.

توجد القصبة في ساحة "وطاء الحمام" وهي الساحة العمومية التي تقود إليها كل الطرق وربما لهذا يعتبرها الشفشاونيون قطب المدينة. يقول تاجر ملابس تقليدية إن الساحة صممت في البداية كي تكون سوقا أسبوعيا يؤمه سكان المدينة وضواحيها. لكن الصدفة شاءت أن تغزوها المقاهي والمطاعم وتتحول إلى ساحة سياحية. بمحاذاة المقاهي توجد حوانيت الصناعة التقليدية تعرض بعض الألبسة المصنوعة من الصوف والأفرشة المنسوجة محليا ومصنوعات من خشب العرعار وحقائب جلدية وحوانيت أخرى تبيع الحلي المصنوعة من الفضة. تجار هذه المنتوجات لا يغالون في أثمنة مبيعاهم ولا يبدلون كبير عناء في إقناع الزبون بالشراء، يمكن أن يتركك التاجر تتجول داخل حانوته بينما يظل هو بالخارج، وهو لا يعرف أنك ربما تعدل عن فكرة شراء أي شيء بسبب لا مبالاته.

أقدم حي في شفشاون هو حي السويقة، يرجع تاريخ بنائه إلى القرن الخامس عشر، يضم بيوتا مطلية باللون الأبيض والأزرق تبدو في تراصها مثل حمائم حطت على الأرض. يحكي سكان الحي أنه ضم في بدايته ثمانين عائلة أندلسية قدمت مع الأمير مولاي علي بن راشد. في جهة ثانية، يوجد حي ريف الأندلس الذي ضم هو أيضا عائلات أندلسية ويشبه في تصميم بنائه حي السويقة. على طول الطريق المؤدية إلى منبع رأس الماء، يوجد حي الصبانين الذي يضم مجموعة من الطواحين التقليدية التي كانت تستعمل لطحن الزيتون.

حي الصبانين يؤدي إلى منبع رأس الماء الذي يعتبر المزود الوحيد للمدينة بالمياه الصالحة للشرب والزراعة أيضا. كما تستعمله النساء لغسل الثياب والأفرشة. منظر النساء الشفشاونيات وهن يغسلن الزرابي والأفرشة بجانب منبع "رأس الماء" يعطي للمكان كثيرا من الألفة، لذلك تبدو شفشاون مثل بيت كبير يضم أسرة كثيرة العدد.

تصوير عيسى الساوري