محمد الخامري من صنعاء: عانى الإنسان اليمني معاناة مريرة عبر مراحل زمنية طويلة لتكييف العوامل الطبيعية المحيطة به والاستفادة من الظروف الجغرافية والمناخية من أجل خلق ظروف الاستقرار التي يعتمد عليها في حياته ..
ويعتبر سد مأرب الذي بناه الملك عبد شمس& بن يشجب بن يعرب " آية الحضارة السبئية " وهو اشــهر آثار اليمـن وأعظم بناء هندسي قديم ومن اهم عوامل الاستقرار التي فكر فيها الإنسان العربي القديم .. ويعود تاريخ بنائه كما يستنتج من قراءة النقوش اليمنية القديمة إلى ما قبل الألف الأول قبل الميلاد وهذا يتفق مع ما ورد في التوراة عن زيارة ملكة سبأ للنبي سليمان في القرن العاشر قبل الميلاد .. ويؤكد حدوثها أيضا ما ورد في سورة النمل من القرآن الكريم .. ذكرت ذلك النقوش اليمنية القديمة باسم (عرمن) أي العرم وهو الاسم الذي ذكر في القرآن الكريم .. أما قصة انهياره فيذكر المؤرخون انه تعرض للعديد من التصدعات والانهيارات عدة مرات بسبب تراكم الترسبات الطمثية& في حوضه .. ذكرت النقوش أربع منها الأولى في عهد الملك " ذمار علي ذرح بن كرب إل وتر "& الذي حكم في الربع الأخير من القرن الأول الميلادي والثانية في عهد& " شرحب إل يعفر بن إلي كرب أسعد " الذي حكم في منتصف القرن الخامس الميلادي والمرة الثالثة والرابعة كانت في عهد أبرهة الحبشي في سنة ( 552 ميلادية ) حيث انهار ومعه " دولة وقبائل سبأ "..
كان السد.. وسبأ تؤمان ولدا معاً وعاشا معاً .. ترعاه ويسقيها أعرضت " قبائل سبأ " عن الحق " فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرب وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل " .. انهار وانهارت معه وتدفق سيل العرم يغمر ماكان أمامه ويقتلع كل شئ يواجهه ..
&
موقعه وهندسته الفريدة
يقع السد في محافظة مأرب التي تبعد عن صنعاء 173 كم شرقاً في وادي ذنة " ا ذ ن ت " كما ورد في النقوش القديمة والذي تجري اليه السيول من مساقط المياه في المرتفعات المحاذية له شرقا على امتداد مساحة شاسعة من مناطق ذمار ورداع ومراد وخــولان والتي تهطــل عليهــا الأمطار من ابريــل إلى أغسطس من كل عام ويقوم السد بتصريفها بصورة سريعة لتسقي ارض الجنتين التي تقدر مساحتها بأكثر من اثنين وسبعين كم مربع حتى أصبحت كما يقولون أخصب بلاد اليمن وأكثرها جناناً.. تبلغ مساحة بحيرته 8 كيلومتر وسعتها وسعتها 55 مليون متر مكعب .. كما يبلغ طول جسم السد720 مترا وارتفاعة حوالي 18 مترا وسمك جدار السد عند القاعدة 60متر وكانت أساسات جسم السد من الأحجار الضخمة فوقهــا جــدار ترابي مغطــى بالحجــارة والحصى من الجانبين ..
لم يكن الهدف من السد القديم خزن المياة فقط كما هو الحال بالنسبة للسد الجديد بــل كانت مـن مهامه أيضا رفع منسوب المياة حتى تصل إلى السهلين الأكثر ارتفاعا " الجنتان اليسرى واليمني" عام حيث تندفع السيول المتجمعة من الأمطار الموسمية المتساقطة على المرتفعات الشرقية بين جبلي البلق الشمالي والأوسط ..
يقع في طرفي جسم السد المصرفان اللذان يعملان على تصريف المياه من السد بقناة رئيسية تقع خلف واجهته إلى قنوات فرعية تتشعب في الأرض الممتدة أمامه وعن يمينه ويساره وتسقيها .. ولا تزال جــدران المصرفين قائمة إلى اليوم تماما كما وصفها لسان اليمن " الهمداني " قبل أكثر من ألف عام في كتابه " صفة جزيرة العرب " حيث نجد الكثير من النقوش على جدرانهما لاتزال موجودة بالخط المسند الحميري والتي تروي بعضاً تاريخ السد كبنائه وترميماته وبعض ما أصابه من تصدعات .
&
الملحقات
لسد مأرب العديد من الآثار الملحقة به .. منها:

سد الجفينة
يعود تاريخه إلى العصر السبئي الأول ويعتبر سد تحويلي لما يفيض من مياه السد العظيم .. يعود تاريخـــه إلى الألف الأول قبـــل الميلاد" العصر السبئي الاول " وهو سد تحويلي لما يفيض من مياه السد العظيم بهدف زيادة مساحة الأراضي للجنّة اليسرى .. وله أربع قنوات مبنية بأحجار مهندمة ويتصل بها جدران ساندة يصل ارتفاعها الى 10 امتار ويبلغ طولهـا نحو 300 متر ويصــل عرض أساس الجدران الى4امتار و 1.50متر الى 1 م اعلى الجدران. وقد اصيب بالتصدع واعيد بناء الجدران بأحجــار بركانية غير مهندمــة غطت بالقضاض الذي يرجع استعمالة الى العصر السبئي الثاني من 350 الى 100 قبل الميلاد..
&
السد التحويلي "المنشأة"
كانت محاولات أهل اليمن في وادي أذنة كثيرة للاستفادة من مياه السيول الجارفة التي تتجمع من مساقطه الواسعة وتسخيرها لخدمة الزراعة ..& ومن خلال البحث عن المكان المناسب وجدوا أن بين مأزمي جبل البلق الشمالي وجبل البلق الجنوبي يضيق وادي أذنة ليكون موقعاً طبيعياً يصلح لإقامة سد مأرب .. وتشير الدلائل أن حضارة وادي سبأ في مأرب لعبت دوراً كبيراً في نشوء فكرة السدود وتطوير أنظمة الري والوديان الجافة ولكن سد مأرب بتقنيته الهندسية العالية في شكله الأخير الذي ذكرته النقوش السبئية لم يأت فجأة وإنما كان محصلة تجارب سابقة عديدة منها تجربة السد التحويلي " المنشأة (أ)& " الذي يقع إلى الشرق من سد مأرب العظيم بمسافة ( 200 متر ) ويعتبر آخر المحاولات التي شيدت عبر زمن طويل في مواقع متجاورة عديدة في مجرى وادي أذنة وفي موقع " المنشأة (أ) " أجريت أعمال التنقيب الأُثري من قبل البعثة الأثرية الألمانية في عام ( 1988 م ) ، وإشارات النتائج أن هذا السد بني خلال النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد وكان طوله ( 55 متراً ) وعرضه ( 30 متراً ) .. قوام بنائه الحجارة واستخدم للربط بينها مادة الرصاص .
&
القنوات القديمة
تنقسم الأراضي الزراعية القديمة في أسفل وادي أذنة إلى قسمين شمالي وجنوبي حيث كانت تروى الأراضي الشمالية بواسطة شبكة الري الممتدة من المصرف الشمالي للسد بينما تروى الأراضي الجنوبية بواسطة شبكة الري الممتدة من المصرف الجنوبي .
تبدأ شبكة الري بالقناة الرئيسية الخارجة من السد ثم يليها مقسمات المياه الفرعية ..
وكانت شبكة الري بكاملها مبنية بهيئة جدار تجري المياه في سطحه الذي شكل بهيئة مجرى وتصل إلى& المقسم الذي بني بشكل اسطواني يقوم بتفريع المياه إلى ثلاثة اتجاهات .. وبالنسبة لتقسيم الأراضي الزراعية القديمة فقد أمكن تحديدها بواسطة " التصوير الجوي وهي عبارة عن حـقول زراعية تبدو ـ غالباً ـ بأشكال مستطيلات متراصة إلى جوار بعضها البعض& .
&
ابن سيرين .. حلم أنقذ العرب
ذكر ابن سيرين في كتبه قصة انهيار سد مأرب انه بدأ بحلم أنقذ العرب وذلك في عهد الملك عمرو بن عامر الذي حكم اليمن قبل انهيار سد مأرب حيث رأت كاهنته التي تدعى " طريفة الخبر" في منامها أن سحابة غشيت أرضهم وأرعدت وأبرقت ثم صعقت فأحرقت ما وقعت عليه ووقعت إلى العارض فلم تقع على شيء إلا أحرقته. ففزعت طريفة الخبر لذلك وذعرت ذعرا شديدا وانتبهت وهي تقول ما رأيت مثل اليوم قد أذهب عني النوم .. رأيت غيما أبرق وأرعد طويلا ثم أصعق فما وقع على شيء إلا أحرق فما بعد هذا إلا الغرق .
فأتت قصر عمرو بن عامر وبينما هو في حديقة قصره فأسرعت نحوه وأمرت وصيفاً لها أن يتبعها فلما برزت من باب بيتها عارضها ثلاث مناجذ منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن وهي دواب تشبه اليرابيع فوضعت طريفة يديها على عينيها وقالت لوصيفها إذا ذهبت هذه المناجذ فأعلمني فلما ذهبت أعلمها فانطلقت مسرعه فلما عارضها خليج الحديقة التي فيها عمرو وثبت من الماء سلحفاة فوقعت على الطريق على ظهرها وجعلت تريد الانقلاب فلا تستطيع فتستعين بذنبها وتحثو التراب على بطنها وجنبها وتقذف بالبول فلما رأتها طريفة جلست إلى الارض فلما عادت السلحفاة إلى الماء مضت طريفة إلى عمرو في الحديقة حين انتصف النهار في ساعة شديد حرها فإذا الشجر يتكفأ من غير ريح فنفذت حتى دخلت على عمرو فقالت له والنور والظلماء والأرض والسماء إن الشجر لتالف وسيعود الماء لما كان في الدهر السالف.
قال عمرو: من أخبرك بذلك؟
قالت: أخبرني المناجذ بسنين شدائد يقطع فيها الولد والوالد.
قال: وما علامة ذلك؟
قالت: تذهب إلى السد فإذا رأيت جرذا يكثر بيديه في السد الحفر ويقلب برجليه من الجبل الصخر فاعلم أن النقر عقر وأنه وقع الأمر.
وانطلق عمرو إلى السد فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلبها خمسون رجلاً فرجع إلى طريفة فأخبرها الخبر فقالت إن من علامة ذلك أن تجلس في مجلسك بين الجنتين ثم تأمر بزجاجة فتوضع بين يديك فإنها ستمتلئ من تراب البطحاء من سملة الوادي وقد علمت أن الجنان مظلمة لا يدخلها شمس ولا ريح فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه فلم يلبث إلا قليلا حتى امتلأت من تراب البطحاء.
فذهب إلى طريفة فأخبرها بذلك وقال متى ترين هلاك السد؟
قالت: فيما بين السبع سنين.
قال .. ففي أيها يكون؟
قالت: لا يعلم ذلك إلا الله تعالى ولو علمه أحد لعلمته ولا يأتي عليك ليلة فيما بينك وبين السبع سنين إلا ظننت هلاكه في غدها أو في تلك الليلة.
ورأى عمرو في منامه سيل العرم وقيل له إن آية ذلك أن ترى الحصباء قد ظهرت في سعف النخل فذهب إلى سرب النخل وسعفه فوجد الحصباء قد ظهرت فيها . فأخفى الأمر عن الجميع وأجمع أن يبيع كل شيء له بـأرض سـبأ ويخرج منها هو وولده ثم خشي أن يستنكر الناس ذلك فلم يكن مفر من الحيلة.. فصنع طعاما وأمـر بـإبل فنحرت وبغنم فذبحت وأعد مائدةً عظيمةً ثم بعث إلى أهل مأرب أن عمرو صنع يوم مشهود ووليمة عامره& فاحضروا ثم دعا ابنا له يقال له مالك وكان أصغر أبناءه فقال له إذا جلست للطعام فاجلس عندي ونازعني الحديث واردده علي وافعل بي مثل ما أفعل بك.. فتنازع مالك مع أبيه فضرب الملك ابنه على وجهه وشتمه فرد الولد على أبيه الصفعة والشتائم كما أمره تماما فقام عمرو وصاح واذلاه يوم فخر عمرو ومجده يضرب على وجهه. وحلف ليقتلنه فلم يزالوا به حتى تركه ثم قال والله لا أقيـم ببلد صنع هذا بي فيه أصغر أبنائي ولأبيعن عقـاري فيه وأموالي فقال الناس بعضهم لبعض اغتنموا الفرصة لغضب عمرو واشتروا منه أمواله قبل أن يتراجع وباع الرجل كل أمـواله. ولكن الخبر بدأ يتسرب فتوقف الناس عن الشراء للممـتلكات وبدأت قـبائل بأكملها تـرحل من اليمن للـنجاة من الخطر المرتقب فاسـتقرت كل قبيلة في مكان من جزيرة العـرب ليبدأ عهد جديد في تاريخها بسبب حلم أنقذ عرب اليمن .
&
سد مأرب الجديد
كان نتيجة للحاجة الماسة لتطوير المناطق الشرقية من اليمن حديثاً هو بناء سد مأرب القديم ومن هذا المنطلق فقد أعلن في يوليو 1984م& عن إعادة بناء سد مأرب وكان هذا الإعلان مفاجأة لكثير من الناس في داخل اليمن وخارجه وفي 2 أكتوبر من عام& 1984 م وضع الرئيس علي عبدالله صالح والشيخ زايد بن سلطان ال نهيان " رئيس دولة الامارات العربية المتحدة " الذي اعيد بناء السد على نفقته، حجـر الأساس لبناء سـد مأرب الجديد في منطقة السـد الجـديـد ـ حـالـيـاً ـ والذي يقع على بعد " ثلاثة كيلومترات " إلى الغرب من السد القديم& وافتتح فـي عام 1986م