سألتنى قريبتى بالقاهرة إن كنت سأحضر مؤتمر الأقباط بواشنطن المزمع عقده فى منتصف الشهر القادم .. فى البداية دعونى أوضح إهتمامى الشديد بقضية الأقباط ، أولا لأننى مسيحى مصرى تعرضت كبقية المسيحيين فى مصر، على مدار السنيين، للتمييز والتفرقة الدينية، المُسَيَّسة حينـًا والشعبية أحيانـًا.. ولأننى إنسان مهتم بشئون وقضايا التفرقة أو التمييز إنسانيًا بوجه عام، فى مصر أولا، ثم فى أى مكان على وجه الأرض.. فأنا أرتعد ألمًا لرؤيتى لطفل مصرى يجوب شوارع القاهرة ومواقف عرباتها، حاملا بفوطة مبللة وجردل ملآن بماء قذر، أو يمربين السيارات عند إشارات المرور يشحذ قوته، أو حتى قوت عائلته، لأن ذلك هو أقصى ما يتيحه له المجتمع.. أو عند سماعى بحكاية طبيبة مصرية زميلة لى إختارت أن تعيش وتعمل ببلد ما، ولم يوافقها زوجها الطبيب المثقف، الذى أعرفه وأحترمه، فأرسل إلى والدها بكتاب طلاقها، وتزوج بغيرها، لأنه ببساطة رجل، وهى إمرأة، ولأن القانون يتيح له ذلك.. وعلى نفس المنوال، أئن وأتوجع لإهانة وإستمراء أو حتى القتل المتعمد لفلسطينيين بأيدى المستوطنين الإسرائيليين، لأنهم أقلية مستضعفة، أو لسود أمريكيين يتركون لأيام ضحية لإعصار مخيف فى أمريكا ، لأنهم فقراء ملونين ليس إلا..

فالقضية إذن ليست تنافر بين رؤيتى، أو تفاعلى، أو إنعدامه، وبين قضايا الأقليات، لأننى من هذا المنطلق كنت سأكون أول المشاركين فى تحمل ذلك العبء.. ولكن الأمر هو موضوع كيفية "التعامل" مع تلك القضية، وهو ما يشغلنى حقـًا.. أولا أيجب أن نتعامل مع قضية الأقباط ، أى مسيحيى مصر، كقضية منفصلة لأقلية مضطهدة؟ أم نزعم بأن الأقباط ليسوا "أقلية" إطلاقا ـ ونسوغ هنا حكاية النسيج الواحد ـ لأن أصولهم العرقية، وشكلهم، وأماكن تواجدهم، ولغتهم، لا تختلف عن بقية المسلمين المصريين، حتى أن البعض يقول، وأوافقهم فى هذا الرأى، بأن الأقباط فئتين: أقباط مسلمون وأقباط مسيحيون، وإن كنت أضيف بأن الأقباط المسيحيين أقلية دينية ـ على الأقل عدديأ ـ بالمقارنة بالأغلبية العددية المسلمة فى مصر، شئنا أن ندعوهم "أقلية" أم أبينا.. ولكن يبقى السؤال: هل الأقباط مضطهدون؟ وتضيع الإجابة فيمن هم الأقباط إذن؟ أهم المصريون عمومًا؟ مسيحيون ومسلمون يقع عليهم التمييز وتنحرهم التفرقة لأنهم فقراء، أو لأنهم نساء، أو أطفال، أو مسيحيون، أو حتى شيعة مسلمون؟ أقول هنا أن هؤلاء جميعًا مضطهدون، ولكن حمل الأقباط المسيحيين، يتضاعف فوق رؤوسهم لأنهم مسيحيون أيضا.. فالأقباط المسيحيون أقلية مضطهدة أكثر من إضطهاد باقى الأقليات المصرية.. فلماذا لن أشارك إذن فى مؤتمر يدعو صارخـًا بهذه الحقيقة بل يقول منظميه بأنهم سيشعلونها نارًا فى واشنطن؟

ربما لأننى لاأريد الصراخ أوإشعال النارـ أى نار ـ لأننى أكره الحريق، حيث أن النار عمومًا لاتقدر أن تفرق بين غاصب الحق أو المغتصَب منه ذلك الحق، أى بين الظالم والمظلوم.. وربما لأننى أشعر بأن تلك النار قد تصيب عنوة مسيحيى مصر الأقباط فتزيد بحروقها آلامهم التى إحتملوها فوق ما إحتمل باقى الأقباط المعذبين فوق هذه الأرض.. وأنا أرى أن النار هى أداة عدوان وتعدِّى، لا أحبذها ولوكانت لإنتزاع الحق.. وأنا حقيقة لا أريد أن أشارك اليوم فى الصراخ، فى واشنطن أو فى مصر، مناديًا بأن هناك تمييز أو إضطهاد ضد فئة ما بين شعب مصر الحبيبة، فقد ملأ الأقباط فى المهجر ـ وفى مصرـ منذ السبعينيات من القرن الماضى، الدنيا صراخًا حتى تعرَّف العالم أجمع على مشكلات الأقباط ، وإعترف الجميع بإضطهاد مسيحيى مصر كأقلية دينية محاصرة نفسيًا ومعنويًا وإجتماعيًا وسياسيًا، فى مجتمع لا يحكمه دستور أو قانون عادل، لا يميز بين الناس، ويسرى بأحكامه فوق الجميع.. قالها الأقباط المصريون ـ المسيحيون والمسلمون معًا ـ منذ عشرات السنين حتى سئمت الآذان لطول ماسمعوها.. نعم سئموا سماع صراخنا وعزفنا لنفس اللحن الحزين لسنوات طوال، فهل نلومهم، أم نلوم الحكومة، أم نلوم أنفسنا لأننا لا نملك إلا أن نصرخ بنفس الكلمات، وننوح أيضا بنفس الموّال الحزين؟

أود هنا أن أكتب نبذة عن عملى كطبيب متخصص فى علاج الألم، ربما تلقى بعض الضوء عما أريد أن أقوله.. الألم الحاد والألم المزمن هما نوعان من الآلام التى نواجهها فى حياتنا.. الألام الحادة هى تلك التى تصاحب إصابة وقعت لتوها، لتنذرنا بخطورتها ولتمنعنا من الحركة، لئلا تتزايد تلك الإصابة فتنضح عواقبها على جسدنا بالمزيد من الدمار.. وفى خضم الألم الحاد يجدر بنا أن نصرخ (بالصوت الحيَّانى) ليسرع الجميع لنجدتنا، إذا عرفوا كيف يساعدونا، أو ليصحبوننا حيث الطبيب وحيث الدواء حتى ما نشفى.. وهناك على الجانب الآخر آلام مزمنة قد تصيب المرء فتعوق حركته، وترفع ضغط الدم، وسرعة ضربات القلب، وتخفض جهاز المناعة لديه، مع شعور ملازم بالتوتر والإكتئاب.. كل ذلك فى غياب إصابة حادة، نرجو أن تقل حدتها مع الوقت، فتزول الآلام بعدها.. تلك الآلام المزمنة لا يجدو معها الصراخ، لأنه يزيد من الإحساس بالتوتر والكآبة، كما يدفع بالطبيب المعالج بعيدًا عن المريض، تجنبًا لصراخه وكآبته، أوأن يعتقد بأنه يتمارض، لعلة ما تجعله يدَّعى شكواه، فييأس من علاجه، ويحوله الى الطبيب النفسى، أو فى أحسن الأحوال الى طبيب متخصص فى علاج الألم.. وعلاج الآلام المزمنة ـ بعكس الألم الحاد ـ هو فى الحركة وإعادة الإصلاح أوالتقويم، ولا يجوز معها السكون وقلة الحركة وإلا تضمر العضلات وتتكلس الأربطة والمفاصل، فتزيد معها حدة الإعاقة..

أنصمت إذن ونكف عن الصراخ لئلا يهرب منا الطبيب؟ نعم.. فقد ملأنا الآذان صراخـًا.. ولكن أنقبع ساكنين، ونقنع بكينونتنـا ضعفاء مهمَّـشين لا صوت لنا أو وجود؟ لا أعتقد أن هذا هو الحل على الإطلاق، لأنه سوف يؤدى ـ كما وضـَّحت ـ الى مزيد من الإعاقة.. ولكنى أدعو هنا للحراك الإجتماعى والسياسى.. أدعو لمشاركة الأقباط المسيحيين بثقلهم الحضارى العريق فى الإنتخابات البرلمانية المقبلة.. أدعو لمؤتمر يتجمع فيه المصريون جميعًا ـ مسيحيون ومسلمون ـ يتحاورون معًا من أجل إحياء العملية الديموقراطية فى مصر.. فيه تناقش مشكلات الأقليات جميعها وبالأخص قضايا المرأة، والطفل، وقضية الدين وتداخله مع أمور الحياة المدنية، مما يضر بالدين وبالمجتمع المدنى معًا.. دعونا نتحاجج ونستمع لآراء المثقفين والنابهين والمتخصصين المحترفين، ليطرحوا لنا ورقة عمل لبناء مجتمع مصرى ديموقراطى حقيقى .. وأدعو الهواة أن يبتعدوا عن هذا المؤتمر، أو يكتفوا بالإستماع لو أرادوا.. ولن يهم يومها إذا عُقد المؤتمر فى واشنطن أو القاهرة أو حتى فى كوالالامبور، طالما حضره مصريون يمتلكون من أدوات الحوار بوسائل غير الصراخ والعويل والنـار المتقدة، ويسعون لإمتلاك أدوات حقيقية للتغيير المرتجى.. وساعتها يشرفنى المشاركة مع باقى الهواة المشاركين بالإستماع ..

للتعليق على هذا المقال:
[email protected]