قفزت أحداث باريس إلى الواجهة الإعلامية خلال الأيام القليلة، و يمكن اعتبار البعد الثقافي في هذه الأحداث أكثر الأمور مركزية من غيرها لعوامل متعددة ومختلفة في أسوأ موجة شغب تشهدها فرنسا منذ عقود ومن ثم انتقال هذه العدوى إلى العاصمة البلجيكية بروكسل و الألمانية برلين.

و أما من الجانب الفرنسي فسوف تشكل له هذه الأحداث هاجسا لن يغيب عن ذاكرته لعقود بحيث يمكننا تسميتها بـ " غزوة باريس" عليها لما تم تحشيده من مفاهيم ومصطلحات ثقافية فيها ولعلاقة موطن هذه الأحداث المؤسفة الثقافة الحقوقية من خلال " إعلان باريس " الصادر في 20 مارس 1952.

فقد ترددت هذه المفاهيم والمصطلحات في هذه الأحداث و منها " المسجد، المسلمون، الشباب المغاربة، المهاجرون غير الشرعيين، العنصرية، البطالة، سيادة النظام و القانون "، ففي أي اتجاه يمكن أن تقودنا هذه المفردات لفهم ما يجري من أحداث لم تشهدها الساحة الفرنسية ذات البعد الحقوقي والثقافي، على المستوى العالمي ؟

يمكن اعتبار أن الاندفاع ضد الثقافة الغربية انطلق في العاصمة الباريسية كنوع من التعبير الرافض ليس لمبادئ "إعلان باريس" بقدر ما هو رفض للسياسات التي تديرها الحكومات المشرفة على تنفيذ هذه المبادئ والتي تؤكد يوما بعد آخر أنها في تسير بسياسة أشبه ما تكون بالعسكرية فيما يتعلق بمن لا ينسجم معها بعد التحولات التي يشهدها العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي و هيمنة الولايات المتحدة على القرار السياسي العالمي التي تحاول أن تغيّر هويات وثقافات دول وليس أفراد فحسب.!

هل تبدلت هوية العربي والمسلم فأصبحت هذه الهوية تمتلك مواصفات يختلف بها عن كثير من المهاجرين المسلمين الذين استقروا في أوساط غير إسلامية منذ عقود فأدخلوا إلى الدين الإسلامي أمماً وشعوبا بأخلاقهم،

أم هل أعيد صياغة هذه الهوية والثقافة بصورة " مسخ " كما أرعب العاصمة البريطانية " لندن" في تفجير الحفلات فأصبحت هناك هوية مزورة تدّعي الدفاع عن الإسلام ؟

و ما هي المكونات الجديدة في هذه الهوية والثقافة " المسخ" ؟

ما هو دور الإعلام العربي في شحن هؤلاء والتغرير بهم أو تجاهل أوضاعهم المأساوية ؟

وهذا سؤال مشروع ومبرر بعودتنا إلى تلك المفاهيم والمصطلحات التي ذكرناها في بدء المقال بعد التأكيد أن هناك من استغل أحد المساجد في بداية الأحداث محولاً إياه إلى مسرح لأحد هذه المواجهات، وهناك أمور و أحداث لا يمكن فصل بعضها عن البعض الآخر، فالملاحظ أن أغلب الوسائل الإعلامية العربية تسهم في تأكيد فكرة " الفسطاطين" سيئة الصيت منذ دخول القوات الأمريكية إلى العراق و لا يمكن تجاهل هذا الأمر، و إن حاولت بعض هذه الأجهزة أن تخفي دورها هذا و تصبغ هذه الأحداث بسوء الواقع الاجتماعي والوضع المزري للجاليات العربية إعلاميا في هذه الأحداث، لأنها الحقيقة المكشوفة والظاهرة للعيان.

ولكن ما يهمنا هو هوية العربي والمسلم في هذه الأحداث و طبيعتها التي عكست صورة الغضب الهستيري الذي أظهره هؤلاء الشبان بصورة لا تمت للإسلام والمسلمين بصلة في بلد لم تُغلق فيه أبواب المحاكم ولم يتعطل فيه القانون، بل و يملك كل فرد فيه - أياً كان- القدرة على تقديم أكبر مسؤول للمحاكمة بموجب القانون و الحكم عليه بموجب ما يقدمه من دليل أو حجة قانونية.!

إن مسألة الهوية والانتماء الثقافي لدى الكثير من المسلمين في الغرب عموما يمثل إشكالية حادة حتى الآن في وسط كاد على أن يصرح برفضه لانتمائهم الديني من خلال بعض القوانين التي سنّها كقضية الحجاب مع أنها مسالة شخصية حسب ثقافة ذلك الوسط.

لقد كان " مالك بن نبي " أحد أبرز الشخصيات التي تشكّلت ثقافته الإسلامية في العاصمة الفرنسية، وأكاد أجزم بأن إدارة تشكيل هوية المسلمين في المهجر هي التي تبدّلت وليس واقع الثقافة الغربية أو سياسة الغرب تجاه المسلمين، فقد أكدت التوترات السابقة منذ قضية الحجاب و الأحداث في فرنسا أن هناك قوة تعمل في أوساط المسلمين بعنوان الحفاظ الإسلام والمسلمين أقرب إلى العدائية منها إلى التفكير بالانسجام مع الوسط الاجتماعي و أنها تفتقد إلى نزعة التعايش السلمي وهي نافذة بقدر كبير استطاعت بموجبه تهييج هؤلاء وهذا يعني أن ليس كل المسلمين كذلك، كما أكدت أن هناك ساسة ينطلقون من خلفيات سوداوية عن المسلمين عموما تحمل العداء لثقافة الإسلام، ولا يريدون الفصل بين هذه الغوغائية والإسلام وهناك إعلاميون يريدون توظيف مثل هذه الأحداث بما ينسجم مع توجهاتهم.

فلا يمكن تجاوز " إعلان باريس " وهو أول ولادة لثقافة حقوقية في العاصمة الفرنسية و هي العاصمة التي تعتبر في نظر أكثر الأوربيين أنها موطن الثقافة الحقوقية.

وربما أصاب الكاتب اللبناني المعروف أمين معلوف الصواب حين ذكر "إن العرب المسلمين في فرنسا يواجهون أزمة عصيبة في هويتهم. فهم يشعرون أنهم ينتمون إلى أوطانهم الأصلية، إضافة إلى انتمائهم إلى البلد الذي هاجروا إليه أي فرنسا" ولكن من وجه آخر لم يُذكر فأحسب أن هذه الهوية أعيد صياغتها بصورة ترفض المسالمة والمصالحة من خلال الانتماء لأحد " الفسطاطين" ولا ثالث لهما، وهذه ليست الهوية التي يمكن القول بأنها هوية لها علاقة بثقافة العرب أو الإسلام ويمكن الاستدلال على هذه الصياغة الجديدة من خلال انتقال عدوى الشغب - ولو بصورة محدودة - الى عاصمتين أوربيتين خلال أيام بصورة تؤكد عدم موضوعية انفعالات هذه الهوية و سرعة استجابة ثقافتها للمؤثرات العاطفية

احمد النمر

كاتب سعودي

[email protected]