حتى اللحظة القائمة، وبعد مرور حوالى أربعة شهور على تأليفها، تمكنت الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة، من تمرير قطوع الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية المتلاحقة، الواحدة تلو الأخرى، دون أن تتمكن من وضع حد نهائي لأي من هذه الأزمات لاعتبارات كثيرة، في مقدمها حال الانقسام السياسي الذي تعيشه البلاد حول عدد من القضايا الداخلية والخارجية، وإن جاز القول إن الفصل بين هذه القضايا محلياً وإقليمياً ودولياً باتت عملية شبه مستحيلة، بعدما تشابكت الأمور فيما بينها وصارت الأمور "مستوردة" بفعل القرارات الدولية التي "أنقذت لبنان من الوصاية السورية وأعادت إليه السيادة والحرية والاستقلال" كما يقول البعض، في حين وصفها البعض الآخر، بـ "الرهان الأميركي ـ الإسرائيلي لتفتيت لبنان وفق خارطة الشرق الأوسط الجديد، والانطلاق منه لتأسيس دويلات طائفية وإثنية تكون الغلبة فيها للكيان الصهيوني".
والرهانان المتعارضان، سواء الإنقاذي أو الاحتلالي يوحيان وكأن عاصفة عاتية آتية إلى لبنان، ورب ما يجري في سماء الشرق الأوسط يبشر بعاصفة أقوى، إذا أخذنا بالاعتبار ان الحوادث التي تقع هنا وهناك ليست منفصلة عن بعضها البعض بقدر ما يجمعها جدول اعمال إقليمي ودولي تعبر عنه توترات داخلية تتبدى أكثر ما تتبدى في التساكن السياسي الصعب بين أعضاء الحكومة، وقد تأكد ذلك في الواقع والممارسة بانسحاب وزراء "أمل" و"حزب الله" الشيعة من الجلسة التي أعقبت خطاب الرئيس السوري بشار الأسد الأخير، وكذلك بين رئيسي الجمهورية والحكومة إميل لحود وفؤاد السنيورة وحيث يتحاشى كل من الطرفين الاصطدام بفعل الأمر الواقع والحاجة إلى تفادي الانفجار، ما يعني ان لبنان يعاني من ازمة بنيوية وسط متغيرات صعبة.. هذا إذا أسقطنا الاوضاع المعيشية الضاغطة على الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، والتي تهدد هي الأخرى بانفجار داخلي يتطلب حكمة وسرعة في استنباط الحلول، الوقائية على الأقل، في المرحلة الراهنة.
والمتغيرات التي تشهدها الساحة اللبنانية ليست وليدة الامس القريب، وهي إن تجلت بأخطر مظاهرها بعد جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري البشعة، وخروج القوات العسكرية السورية ومخابراتها من البلاد، فإن هذه المتغيرات تعود إلى ثلاثة عقود مضت، لتتفجر في هذه المرحلة على أوسع مداياتها، وحيث انكشف عمق وحقيقة الخلاف بين الأفرقاء اللبنانيين ليتعدى إدارة السلطة الى السياسات الأساسية، بصرف النظر عن خطاب الوحدة الوطنية والتعقل. فالكل من موقعه يحاول ضمان التوافق على التفرد بكل الوسائل الممكنة، ما جعل الساحة أسيرة فريق يلعب دور "قوة الفرض"، وفريق آخر يلعب دور "قوة الرفض" ما فتح المجال واسعاً أمام الإدارة الدولية ممثلة بالقوة الاميركية الوحيدة والأعظم للعب دورها على منظومة التقسيم و"فرّق تسد".
واللعبة الأميركية هي الأخرى قديمة في لبنان، تتجدد على الدوام وتبعاً للظروف والأدوات بين مرحلة وأخرى. ففي عام 1982، غزت قوات الاحتلال الإسرائيلي بيروت، في أول اختراق لعاصمة عربية بقرار أميركي. والعملية نفسها، تكاد تتكرر اليوم، إنما بقوات اميركية باتت على الحدود السورية وبقرار إسرائيلي.
يتوضح من كل ذلك أن اللجنة الأميركية الصهيونية الشرق أوسطية، بدأت من قبل سنوات طويلة من التمديد للرئيس إميل لحود على عكس ما يدعيه اصدقاء اميركا في لبنان. ويمكن في هذا المجال ان نستعيد ما نشرته مجلة "ناتيف" الإسرائيلية في عام 1996، في مقال وصفت فيه شيمون بيريز بـ "الرجل الغبي حين يتحدث عن شرق أوسطي جديد". أضافت: "إن دولة إسرائيل لا يمكنها التعايش مع "امبراطوريات" كبرى في هذه المنطقة، مثل سوريا، العراق، مصر، السعودية... بل مع دول من حجم السلطة الفلسطينية، البحرين، قطر"... وقد يكون لبنان بين هذه الدول: وانتهى المقال إلى التأكيد على أن "مهمة الشعب اليهودي، بعد أن حقق حريته، أن يحرر الشعوب الواقعة تحت الاحتلال الإسلامي العربي"، والمقصود الإسلام السنة فقط، ومثل هذا التحرير برأي المجلة، يقوم على اساس قيام دويلات طائفية، مذهبية وإثنية!.
وفي الظروف ذاتها، نتذكر أن قانون محاسبة سوريا، وما سمّي استعادة سيادة لبنان، أقرّه الونغرس الأميركي في ربيع العام الماضي، أي قبل ظهور أي إشارات للتمديد بأشهر عدة، وبالتالي قبل اغتيال الحريري، وذلك كرد فوري على مواقف سوريا المعارضة لغزو أميركا للعراق.
ويذكرنا شعار تحرير لبنان بشعار تحرير الكويت من الاحتلال العراقي. وإذا كان منطق الاحتلال، أي احتلال، مرفوض على كل الأصعدة، فإن الرفض نفسه، إن لم يكن أولى وأشد تاثيراً، يطول واشنطن، حين تعمل على استغلال ازمات الدول الصغرى لتحرير برامجها الكبرى!
لقد غزت القوات الاميركية العراق بحجة تحرير الكويت، وتبعاً لاتهام كاذب سربته وسائل الإعلام الدولية بامتلاك نظام صدام حسين اسلحة دمار شامل.
الحجة نفسها تستعيدها في لبنان استعداداً لضرب دمشق، وفق البرنامج الاميركي نفسه الذي يعود تاريخه الى اواخر ولاية الرئيس الاميركي الاسبق جورج بوش الاب، حين وضع فريق اميركي برئاسة ديك تشيني نائب الرئيس الحالي تقريراً حول "خطة القرن الاميركية"، لكن إدارة الرئيس بيل كلينتون رفضت تبنيها، وتحول الفريق المذكور إلى نواة ما يسمى اليوم "المحافظون الجدد". وفي عام 1997، أنهى الفريق نفسه، تقريرين يتضمنان كل ما نشهده اليوم من تحولات دولية وإقليمية عكست مخاطرها على المنطقة العربية، عبّر عنها الرئيس التركي تورغوت اوزال في سياق تبرير مشاركة بلاده في الحرب الاولى على العراق بالقول "ثمة وليمة كبرى في الشرق الأسط، ومن الافضل لتركيا ان تكون على لائحة المدعوين بدل ان تكون طبقاً على المائدة". وهذا أيضاً ما كشف عنه وزير خاجية تركيا بعد زيارته تل أبيب مشيراً إلى "ان خارطة هذا الشرق الاوسط سترسم من جديد لا أعرف بالضبط كيف ستكون، ولكني اعرف أنها ليست الخارطة القديمة". ولا بدّ أن هذا الشرق الجديد الذي تحدث عنه بيريز وخطط له "المحافظون الجدد" يشمل كل المشرق العربي وصولاً الى حتى الى مصر والسودان، ويدعو إلى البلقنة. والمقصود ليس تغيير الجغرافيات السياسية لهذه الدول، بل تغيير هويتها القومية العربية لتحل محلها هويات طائفية وإثنية من خلال ما ذكره التقرير عن "الفوضى الخلاقة" وما ينتج عنها من حروب وصراعات ومصادمات تمكن أميركا من "الاختراق النظيف".
وفي لبنان، حيث تتسارع الأحداث والتحولات بعض تداعيات التمديد واغتيال الحريري وخروج القوات السورية والفرز الطائفي، البشع الذي أنتجته الانتخابات البرلمانية الاخيرة، حققت الخطة الأميركية نجاحات لا بأس بها، وباتت تتحرك في اتجاه جعله قاعدة لحرب أهلية تمتد الى الاقطار العربية الأخرى.
وبعض الكلام الذي قيل أخيراً عن "فدرالية لبنانية ما" يجسد احد عناوين البرنامج الأميركي، والعنوان الرئيسي للتقارير الدولية التي وضعها ميليس ولارسن، 1595، 1559 و 1636، استصدار وربما تقارير أخرى لاحقة، لاستكمال المهمة، بما فيها ضرب المقاومة اللبنانية والفلسطينية وغزو سوريا وتحقيق حلم اسرائيل الكبرى!

ألبيــر الخــوري

بيروت