القاعدة الأساسية التي يجب أن يستند اليها الدستور العراقي الدائم كركن أساسي هو إقرار شراكة الحكم بين القومية العربية والقومية الكردية على أساس الإقرار بأن هاتين القوميتين الرئيستين تشكلان الأمة العراقية، الأمة التي تنتسب الى الجذور العراقية الأصيلة، بعيدا عن أهواء تنسيب العراق أو جزء من العراق الحر وبالأخص عرب العراق الى أمة، الأمة العربية، أمة لا وجود لها الا في مخيلة فئات قومية جامدة أضرت بالعرب والمسلمين بسبب إشاعة الأفكار القومية العنصرية خلال عقود طويلة من السنين لم تجلب ورائها الا ويلات الحروب والكوارث على أمم وشعوب المنطقة وبالأخص.

وبناءا على سجل المعاناة والمأساة التي عاشها العراقييون على مر عقود طوال تحت نير حكم ظلم جائر، ومنهم الشعب الكردستاني الذي دفع ثمنا باهضا لتحقيق الديمقراطية للعراق والفيدرالية لكردستان، فإن الخيارات الوطنية التي تطرحها الكيانات السياسية الكردستانية والعراقية الوطنية تمثل نظرة واقعية لحل مشاكل ووضع العراق الجديد على طريق معبد بنهج سليم للديمقراطية ونظام الحكم الاتحادي. وبهذا الاتجاه تسير مسألة صياغة الدستور الدائم، لأن المسائل الجوهرية المتمثلة بهذا المسار متفق عليها بين الكيانات البرلمانية في الجمعية الوطنية العراقية.

ولكن يبقى مطلب لابد من طرحه بقوة على الساحة العراقية لتثبيته في الدستور، وهو مسار متعلق بحماية كيانات الأقاليم التي ستشكل العراق الجديد، بعد نجاح تجربة اقليم كردستان ككيان حكم اقليم لادارة شؤونها وأمورها وشؤونها من قبل حكومة محلية منتخبة من قبل برلمان محلي اقليمي مخول بشرعية انتخابية من سكان الاقليم. والمطلب هو حق تقرير مصير اقليم كردستان والأقاليم العراقية، وقبل الخوض في هذا المسار المطلوب لحماية الأقاليم العراقية في الدستور الدائم، نتطرق الى أهم البنود المتعلقة بإقليم كردستان وبمسألة الأقاليم العراقية في قانون إدارة الدولة العراقية المعروف بقانون (تال) الذي يعتبر المرجع الأساسي لصياغة الدستور العراقي، والبنود هي:

المادة الرابعة من القانون تنص على أن " نظام الحكم في العراق جمهوري، اتحادي (فيدرالي)، ديمقراطي، تعددي، ويجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية. ويقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات وليس على أساس الأصل أو العرق أو الاثنية أو القومية أو المذهب".

وبناءا على ما جاء في هذه المادة فان اعتراف الحكومة الاتحادية في بغداد بحكومة اقليم كردستان يعود سنده الشرعي الى الفقرة (أ) من المادة الثالثة والخمسون من القانون والتي تنص " (أ) يعترف بحكومة اقليم كردستان بصفتها الحكومة الرسمية للأراضي التي كانت تدار من قبل الحكومة المذكورة في 19 آذار 2003 الواقعة في محافظات دهوك و أربيل والسليمانية وكركوك و ديالى و نينوى، ان مصطلح حكومة إقليم كردستان الوارد في هذا القانون يعني المجلس الوطني الكردستاني، ومجلس وزراء كردستان والسلطة القضائية الإقليمية في اقليم كردستان".

وكذلك فان الاعتراف القانوني بكيان حكومة اقليم كردستان يعود سنده الشرعي الى المادة الرابعة والخمسون من القانون التي تنص على " (أ) تستمر حكومة اقليم كردستان في مزاولة أعمالها الحالية طوال المرحلة الانتقالية، الا ما يتعلق بالقضايا التي تقع ضمن الاختصاص الحصري للحكومة الاتحادية كما ينص عليه هذا القانون. ويتم تمويل هذه الوظائف من قبل الحكومة الاتحادية تماشيا مع الممارسة الجاري العمل بها ووفقا للمادة 25 (هـ) من هذا القانون. تحتفظ حكومة اقليم كردستان بالسيطرة الإقليمية على الأمن الداخلي و قوات الشرطة، ويكون لها الحق في فرض الضرائب والرسوم داخل اقليم كردستان. (ب) فيما يتعلق بتطبيق القوانين الاتحادية في اقليم كردستان، يسمح للمجلس الوطني الكردستاني بتعديل تنفيذ أي من تلك القوانين داخل منطقة كردستان، ولكن في ما يتعلق فقط بالأمور التي ليست مما هو منصوص عليه في المادة 25 وفي المادة 44 (د) من هذا القانون التي تقع ضمن الاختصاص الحصري للحكومة الاتحادية حصرا" (3).

ولكن يبقى السند القانوني الأساسي الذي منح إطار التحرك والعمل لحكومات الأقاليم والمحافظات لإدارة كافة شؤونها هو ما جاء في الفقرة (أ) من المادة السابعة والخمسون من قانون ادارة الدولة العراقية التي تنص على " (أ) ان جميع الصلاحيات التي لا تعود حصرا للحكومة العراقية الانتقالية يجوز ممارستها من قبل حكومات الأقاليم والمحافظات، وذلك بأسرع ما يمكن، وبعد تأسيس المؤسسات الحكومية المناسبة".

استنادا الى تلك المواد والبنود القانونية المشرعة في قانون ادارة الدولة العراقية، التي تؤهل وتمهد الإطار الشرعي والعملي للأقاليم العراقية، ومنها إقليم كردستان الذي فرض نفسه على الساحة العراقية بحكم الامر الواقع وبحكم حكمة الشعب الكردستاني ودور قيادته السياسية، الذي أقر النظام الفدرالي في عام 1992 من قبل المجلس الوطني لتحديد العلاقة الكيانية مع السلطة في بغداد. ومعلوم أن إطار العلاقة العامة بين الطرفين، بين اقليم كردستان والسلطة الاتحادية، حدده قانون (تال) حسب المواد التي أشرنا اليها سابقا.

وبما أن نظام الحكم في العراق الجديد هو اتحادي، مبني على أساس الفيدرالية المستندة الى المقومات التاريخية والجغرافية لتحديد الأقاليم، فإن هذا النظام السياسي العملي يعطي للأقاليم حرية الإختيار الأساسي لتحديد إطار كل إقليم معين حسب خصوصياته ومقوماته التاريخية والجغرافية والسكانية والإدارية، ويعطي له الخيار الأساسي لتحديد نظام إدارة حكومته المحلية حسب تشريعات الجمعية الوطنية الخاصة بالإقليم. لذا فإن المطلب السليم حق تقرير المصير لكل اقليم، وتثبيته في الدستور العراقي الدائم، يمنح الأقاليم ضمانة كافية لوضع خارطة الطريق الأساسية للعراق الجديد الاتحادي على طريق الصواب لحمايته وترك حرية الإختيار استنادا الى الحفاظ على مصالح مواطني الاقليم وحسب مصالحه الستراتيجية. ولا شك أن لحق تقرير المصير مزايا مهمة كثيرة وهي:

1. احتفاظ كل اقليم بحقه في تقرير مستقبله السياسي والإداري، استنادا الى مجموعة المصالح المشتركة لشعب أو سكان كل اقليم.

2. تلبية الحاجة التاريخية لسكان كل اقليم حسب خصوصيته ومقوماته التاريخية والجغرافية.

3. تلبية المطالب الخدمية لمجتمع كل اقليم حسب حاجاته الأساسية والجوهرية التي تختلف بطبيعة الحال من اقليم الى آخر.

4. قطع الطريق على خلق مشاكل مستقبلية قد تخلق نتيجة تطور الوعي السياسي لسكان الأقاليم مما يزيد من المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل مجموعة سكانية.

5. توفير ضمانة سياسية لكل اقليم، بأن السلطات الاتحادية ستعمل على تلبية كل الحاجات والمطالب المعنية به. وفي حالة عدم قدرة السلطة الاتحادية على تحقيق تلك المطالب والاحتياجات، فان الاقليم سيختار طريقه ويقرر مصيره دون خلق مشاكل للسلطة الاتحادية ولبقية الأقاليم المتحدة.

6. احترام اختيار الشعوب التي تتألف منها الأمة العراقية، خاصة الشعب الكردستاني، الذي احتار طريق الفدرالية ونظام الحكم الاتحادي، بمحض إرادة مجلسه الوطني المنتخب، ثم أن جميع الأعراف والمواثيق الدولية التابعة للأمم المتحدة يطرح خيار تقرير المصير كحق طبيعي لكل شعب من شعوب العالم.

7. بروز النزعات الدينية وزيادة دورها في تصريف أمور الشأن العراقي في المنطقة الوسطى والمنطقة الجنوبية، على حساب النزعة الوسطية والإعتدالية و العلمانية التي تسير الحياة وفق منظور معاصر متأقلم لمتطلبات العصر والمرحلة، وهذا ما يترك تخوفا لدى سكان وشعوب أقاليم المناطق الأخرى.

8. تعديل موازنة المطالب الستراتيجية للقوميات العراقية وموازنة الدور السياسي العام، حيث أن الشعب الكردستاني قدم وناضل من أجل تثبيت حقوق وطنية عراقية وكردستانية في العراق على مر ستة عقود وأكثر ضد حكم أقلية سلطوية منفردة أدارت نظام الدولة العراقية وفق شعارات قومية عنصرية شوفينية سببت حروبا ودمارا وهلاكا للعراقيين، إضافة الى أن سيطرة أقلية من الوسط العراقي على نظام الحكم، قد أخل بنظام توازن الدور السياسي للقوميات والشعوب العراقية الأخرى، الشعب الكردستاني والشيعة في الجنوب. وهذا ما يحتم لعدم تكرار هذه الموازنة، خاصة وأن هذه الانفرادية بدأت تميل الى الغالبية من الشيعة، وبسبب توفر ضمانات حقيقية لعدم تكرار الماضي، فإن تثبيت حق تقرير المصير يشكل الضمانة الرئيسية لحماية القوميات الاخرى من الأغلبية الشيعية التي شكلت ائتلافا موحدا للسيطرة على مقاعد الجمعية الوطنية العراقية لنيل مطالبها السياسية.

9. تقسيم المصادر الطبيعية وأحقية استفادة سكان كل اقليم من مواردها الحيوية والتصرف بها حسب تلبية احتياجاته وتنمية أقراد سكانه في سبيل توفير حياة كريمة مضمونة من ناحية تلبية الاحتياجات الأساسية لكل مواطن. والوضع الحالي لا يسمح بأي تطور في سبيل تحقيق هذا الاتجاه لعموم العراقيين، حيث ان النفط والموارد الستراتيجية الاخرى تحت سيطرة السلطة الاتحادية ولم تطرح أي برنامج عمل وطني لاستفادة العراقيين مباشرة من هذه الموارد.

10. الاستقلالية بالموارد المالية الناتجة من المصادر والموارد الستراتيجية لصالح سكان الاقليم، حيث تعمل ضمانة حق تقرير المصير كورقة ضغط دائمة على السلطة الاتحادية لمراعاة توفير أقصى الموارد المالية لكل اقليم لتلبية احتياجاته الأساسية والتنموية.

هذه هي الميزات الرئيسية التي يستفاد منها كل اقليم عراقي من مسألة حق تقرير المصير، ولهذا فان العمل من قبل الاحزاب والكيانات السياسية العراقية والكردستانية وخاصة من قبل الائتلاف العراقي الموحد والتحالف الكردستاني، من أجل تثبيت هذا الحق في الدستور العراقي الدائم، يشكل قاعدة وطنية لإرساء البنيان الاتحادي للعراق الجديد الذي يبنى على أسس تثبيت الحقوق الأساسية للانسان العراقي وللقوميات والأقليات، من أجل ضمان حاضر مشرق للأمة العراقية وتأمين مستقبل آمن لأجيالها اللاحقة.

* ينشر بالتزامن مع جريدة "الاتحاد" العراقية