وقعت تفجيرات لندن وجريمة اغتيال السفير المصري في بغداد الضائعة في مساحة زمنية واحدة، وطغت الأولى على الثانية، إن إعلامياً أو سياسياً.

ومن اللحظة الأولى الذي طيرت فيها وكالات الأنباء العالمية خبر تفجير مترو لندن، استدارت وسائل الإعلام الغربية والعربية حول نفسها، لتغطية الحادث الذي قال البعض عنه أنه جاء متأخراً كثيراً.

مطالعة العناوين الرئيسية في الجرائد العربية، وسماع عناوين الأخبار في الفضائيات، يكشفان بجلاء عن وجهة البوصلة الإعلامية العربية عند وقوفها أمام حدثين سياسيين كتبا بقطرات الدم.

تفجيرات لندن كانت الأكثر تداولاً على الساحات الإعلامية العربية، فانبرت الأقلام لتحليل الحادث، وكشف بواطن الأمور، وتدبيج مقالات الرثاء في حب مدينة الضباب التي لا تستحق "ضريبة دم"، أياً كانت الاعتبارات.

واشتعلت الفضائيات العربية بأحاديث وحواريات وتحليلات حول التفجيرات، ودواعيها، ومتهميه، ومن مع ومن ضد، وبات المتابع لكل هذا الزخم الإعلامي، الذي أشعل جذوته الجهابذة العرب من الكتاب والمحللين، يظن أن كل هؤلاء المتحدثين يتكلمون عن لندن كأنها قطعة من القلب، كأنها مدينة الله على الأرض. إذ كيف تأتت الجرأة لهؤلاء الملاعين كي يفعلون في لندن الحبيبة فعلتهم الخرقاء الشنعاء تلك؟

هل يمكن القول أن وسائل الإعلام العربية قد تفوقت بمراحل على كل وسائل الغربية، حتى البريطانية ذاتها، في تغطية كل جانب وتفصيلة ومحور وموضوع وفكرة ومقال وتعليق حول تفجيرات لندن؟

سؤال آخر: هل بات من الواجب على الإعلام العربي أن يبادر، فور وقوع كل فعلة إرهابية في أي مدينة غربية، بتربئة ساحته، بمسحة تدعي الموضوعية من ناحية والتعاطف مع الضحية من ناحية أخرى، فيستفيض في الكلام عن الأسباب والدوافع، والمقدمات والنتائج، وإن ما حدث ما كان ينبغي له أن يحدث، وباهتمام ربما يفوق اهتمام أصحاب الشأن نفسه؟

هل بات الإعلام العربي ملزماً بإظهار تعاطفه المدهش، حتى التبكيت، مع ضحايا الإرهاب في الغرب؟

الكاتب زين الدين الركابي، في صحيفة "الشرق الأوسط"، يشكر طوني بلير لأنه بدا عقلانياً في رد فعله على التفجيرات، وأكد أن هذا عهدنا- أي نحن العرب- في الشقيقة بريطانيا العاقلة الحكيمة، ثم يفرد تحليلاً حول كيفية مواجهة الأوغاد.

وزميله مشاري الذايدي، في نفس الصحيفة، يحاول جاهداً أن يفسر لنا لماذا جاء رد الفعل الأمريكي على أحداث سبتمبر انفعالياًُ، والأسباني على حادث مدريد دراماتيكياً، والبريطاني على تفجيرات لندن عقلانياً.

ثم مقالات بالمئات، في كافة الجرائد العربية دون استثناء، دانت هؤلاء القتلة المتوحشين السفلة الذين نالوا من جمال وعظمة ومهابة مدينة لندن، وغطوا نهارها الجميل بالدم.

لقد تحول كتابنا، بمقالاتهم، إلى متحدثين رسميين عن...لا تدري. المهم أن يسارعوا إلى تسجيل مواقف الإدانة والشجب والاستنكار، ظنهم في ذلك أن الغرب سيقول عنا "العرب أصبحوا أكثر عقلانية، وابتعدوا عن الهمجية، وفيهم أصحاب عقول وحكمة ورزانة".

في المقابل، تجد أسلوب تعاطي وسائل الإعلام الغربي مع أي إرهاب يضرب أي قطعة من أرضه يختلف شكلاً ومضموناً، فلا تجد كاتباً يفرد مقالاً طويلاً عريضاً كي يقول فعلوها الأوغاد المتوحشين السفلة الدمويون أولاد... إلى آخر قائمة القباحة تلك التي تليق بإرهابيين. ولا تجد حتى من يحاول استدرار دموع قرائه، قسراً، حزنا على ما حدث.

أعتقد أن أسلوبهم أكثر عقلانياً، وأعلى نضجاً، ولا يزايدون.

ثم ما الفرق بين أن تضرب يد الإرهاب لندن أو أي مدينة صغيرة حقيرة لا ترى على خريطة العالم إلا بمكبر؟ من المفترض أن الإرهاب هو الإرهاب، بصرف النظر عن مكانه أو زمانه.

أيكون الإرهاب حين يضرب مدينة لندن "إرهاباً متوحشاً دموياً لا إنسانياً"، ويكون "إرهابا" فحسب حين يقتل رئيس بعثة دبلوماسية في بلد يسير أهله وهم يتحسسون رؤوسهم كل لحظة.

مع لندن، كانت المقالات والتحليلات والتفسيرات والتوقعات وبيانات الشجب والإدانة والاستنكار، ومع اغتيال السفير المصري، كانت الدهشة فقط وسؤال حزين لا أحد يجد له إجابة حتى الآن، سؤال خائب: لكن.. أين جثة السفير؟

كنا، ومازلنا، نشتكي بمرارة وحسرة من أن الإعلام العربي يعاني من الكبت والقيود ومقص الرقباء وعدم القدرة على النفاذ إلى معلومات شفافة نزيهة، وأشياء أخرى في قائمة تعصى على الحصر. لكن يبدو أن بنداً جديداً طرأ على هذه القائمة، ويبدو أنه سيحتل مكانة مرموقة داخلها.. بند اسمه إعلام المداهنة.

فالطريقة التي تعاطت بها وسائلنا الإعلامية، خاصة المؤثرة فيها، كصحيفة "الشرق الأوسط" أو الفضائيتين "العربية" أو "الجزيرة"، تذكرنا بنفس الطريقة التي تعاطت بها مع أيام احتضار بابا روما ثم نبأ انتقال روحه إلى الرفيق الأعلى، طريقة تجعلنا نشك في أننا دخلنا مرحلة المزايدة والتعاطف الرخيص المبتذل مع الغرب، فنداهنه وننافقه، ربما دون أن نعي ذلك، عله يسامحنا على أفعال وجرائم أبناء جلدتنا؛ رغم أن مجتمعاتنا أكثر مجتمعات الأرض معاناة من ويلات الإرهاب، وإن اختلفت صوره.

محمد يوسف
محرر صفحة "تقنية وعلوم"
مجلة "المجلة" اللندنية
الرياض
المملكة العربية السعودية