الحرب الدائرة، الآن، على الإرهاب الإعلام لاعب أساسي فيها.

ولأن هذه الحرب تديرها الولايات المتحدة، بوصفها القوى العظمي الأولى في عالم اليوم، وبوصفها المسرح الذي شهد أحداث 11 سبتمبر الغابر، وبوصفها جالسة على أكبر وأضخم آلة إعلامية على سطح الأرض، مثلما هي جالسة على أكبر وأضخم آلة عسكرية عرفها الإنسان المعاصر، فإن إعلامها، صحافة وفضائيات، لاعب محوري في تشكيلة اللاعبين الإعلاميين الأساسيين المشاركين في تلك الحرب.

الإعلاميون الأمريكيون على وعي شديد بهذه الحقيقة؛ لذلك يمارسون عدة أدوار ربما لم يعتادوها من قبل، وهي أدوار فرضتها أجواء الحرب الأمريكية الملتبسة على الإرهاب.

أحد هذه الأدوار يظهر في "مطاردة الحقيقة"، المصنوعة خارج الحدود الأمريكية، والمسك بها، أياً كان مخبئها؛ مع التركيز بشكل خاص على تلك التي يمكن أن تزيد من فرص انتصار الأمريكيين على قوى الإرهاب في وقت قصير (الوقت عامل فعال وحساس في مسألة الانتصار على الإرهاب؛ كثيرون من الأمريكيين بدءوا يتململون ويتساءلون "متى ستنتهي هذه الحرب؟"؛ لما يعد مقنعاً أو كافياً مجرد القول بـ"أننا، أي الأمريكيين، سننتصر، ولو بعد مئة عام").

وهناك دور آخر، ولعله أكثر حساسية واستعصاءً على التحكم فيه وضبطه، ويظهر في "صناعة حقيقة أو حقائق"، داخل المكاتب الرسمية لصناعة القرار السياسي الأمريكي، ثم الدفع بــ "الحقيقة المنتجة أو المصنوعة" إلى الآلة الإعلامية الأمريكية لنشرها وتعميمها، ثم العمل على توصيلها إلى مجتمعات وجماعات محددة، بقصد "صناعة أفكار وقيم" تساعد، من وجهة النظر الأمريكية، في الانتصار على تلك الحرب، التي يعي الأمريكيون جيداً أن إحدى معاركها مع الأفكار.

وبين دوري مطاردة الحقيقة وصناعتها، بزغ دور جديد في مجتمع الإعلام الأمريكي، ربما قسراً وفي وقت غير مؤات، وتمثل في مراجعة "الحالة الصحية" للآلة الإعلامية الأمريكية.

وأقول دوراً جديداً لأن هناك اتفاق ضمني، داخل الحدود الأمريكية وخارجها، على أن الإعلام الأمريكي يفرض نفسه كنموذج جدير بالإتباع، إن كان ثمة حديث عن صحافة حرة أو إعلام حر. فالمجتمع الأمريكي، بتفاصيله السياسية والاقتصادية والثقافية وخلافه، معجون بالمادة الخام للديمقراطية وحرية الفرد؛ وبديهي، أن يكون إعلامهم معجون بنفس المادة تقريباً.

غير أن حالة الحرب المعلنة على الإرهاب لم تمنع كثيرين من رموز الصحافة الأمريكية من أن يعيدوا النظر في بديهية "الإعلام الأمريكي الحر"، أو على الأقل يشخصون لأعراض " وعكة" يمر بها مشهد الإعلام الأمريكي منذ اللحظة الأولى لإعلان الحرب على الإرهاب، وهي وعكة لا تمس النموذج الأمريكي للديمقراطية والحريات الفردية فحسب، وإنما تنذر بحالة "استعداء"، على الأقل من جانب المسئولين الأمريكيين، معتدلين كانوا أو يمنيين متشددين، للقيم التقليدية المتعارف عليها في مجالي حرية التعبير والخصوصية، أهم قيم المجتمع الأمريكي العلماني على الإطلاق.

هذه الحالة من الاستعداء، بإيقاعها البطئ المراوغ، تنذر بدورها بإعادة النظر، كلية، في تعريف القيم التقليدية للإعلام الحر والصحافة الحرة والحرية الفردية والخصوصية وحقوق النفاذ إلى المعلومات السليمة، وقد يتطلب الأمر برمته إعادة تعريف مفهوم "الحرية" ذاته، بما ينسجم والمناخ الطارئ المصاحب للحرب الأمريكية على الإرهاب.

قضية الصحافية جوديث ميللر الأخيرة ( من صحيفة "نيويورك تايمز")، والتي رفضت فيها الكشف عن المصدر الذي سرب لها اسم أحد عملاء الاستخبارات الأمريكية، وبالتالي حكم عليها قاضي المحكمة الفيدرالية توماس هوجان بالسجن مدة أربعة أشهر، هذه القضية دفعت بالجدل الملتهب حول الحالة الصحية للإعلام الأمريكي إلى مراحل متطورة.

هل من حق القضاء، أياً كانت الاعتبارات أو الحيثيات، إجبار الإعلامي على الإفصاح عن مصدر معلوماته، في حين أن مواثيق وقوانين العمل والحرية الصحفية تكفل حق الاحتفاظ باسم المصدر دون الكشف عنه؟

قد تبدو إجابة هذا السؤال، من الوهلة الأولي، محسومة، لا تحتاج إلى كثير جدل أو عميق اختلاف في الرأي. إلا أن الحالة الأمنية الاستثنائية التي يمر بها المجتمع الأمريكي، بل وأكثر مجتمعات الأرض، شرقاً وغرباً، وتحديداً منذ أحداث سبتمبر2001، تأخذ بهذا السؤال المحوري إلى أبعاد كثيرة، متقاطعة ومتداخلة، ما تجعل إمكانية الوصول إلى إجابة شافية، يتفق عليها أكثر الأطراف المعنية بهذا الشأن، أمراً صعباً للغاية، إن لم يكن مستحيلاً في الوقت الراهن على الأقل.

فالمجتمع الإعلامي، حتى في ظل أكثر النظم السياسية شمولية واستبداداً، غدا أكثر إلحاحاً وإصراراً على حقه في الوصول إلى المعلومات، أياً كانت درجة سريتها أو خطورتها؛ فيما يتعامل هو بتحفظ شديد حين تطالبه المؤسسات الرسمية، استخباراتية كانت أو أمنية، بالكشف عن مصادر هاتيك المعلومات. في المقابل، تتعامل نفس المؤسسات الرسمية بتحفظ شديد مع الإعلاميين فيما يتعلق بـ "حجم" و"طبيعة" المعلومات التي يمكن أن تمررها (وفي حالات أخرى تسربها) إلى وسائل الإعلام؛ فيما تطالب من الإعلاميين بالعمل والتحرك ضمن الاعتبارات الأمنية والاستخباراتية، على الأقل من باب التعاون في الحرب على الإرهاب، وهو دور يرفض بشدة الإعلاميين التورط في مباشرته.

هذا التقاطع في الحقوق والواجبات بين المجتمع الإعلامي، من جانب، وبين المؤسسات المنوط بها إدارة الحرب على الإرهاب، من جانب آخر، تضع مسألة الحريات الإعلامية في مأزق شديد الخطورة والانفلات.

ما يمسسنا نحن، الجانب العربي أو الإسلامي، من هذا المأزق أمران.

الأمر الأول هو أسلوب تعاطي الإعلام الغربي، والأمريكي تحديداً، مع المجتمع العربي والإسلامي، في سياق تحليله وتشخيصه لأزماتنا واشكالياتنا التاريخية المزمنة، والتي يرى الغرب أنها المنبع الأكثر سيولة من منابع الإرهاب.

وقد أثبت الخطاب السياسي، وبالتبعية الإعلامي، المطروح داخل أغلب المجتمعات العربية، وبمحاوره المتداخلة من قبيل الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان وأوضاع المرأة، أنه أسير "الحقائق" التي تنتجها المؤسسات السياسية الرسمية الأمريكية، وتتولى الآلة الإعلامية - المؤيدة أو المعارضة لها- ترويجها وتعميمها.

فحين بدأ أكبر كتاب الصحف الأمريكية، طوماس فريدمان نموذجاً، يكرسون كل جهدهم الإعلامي في تعرية مواطن السقوط والتحلل في المجتمع العربي، اقتبس الخطاب الإعلامي العربي منه نفس المفردات، وتقريباً نفس التحليل، وأخذ يتعامل مع اطروحات الخطاب الإعلامي الغربي على أنها "حقائق" ( وهي كذلك بالفعل )، وإن لم تكن من صنعنا نحن.
فقبل عشر سنوات تقريباً، كان من النادر أن تظهر كلمة "الإصلاح" أو مفردة "التغيير"، مثلاً، في الخطاب الإعلامي الشعبي، كالصحافة والفضائيات، ولم تكن مثل هذه الكلمات، وما يرتبط بها من أفكار وتحليلات، متداولة إلا في خطابات النخبة الفكرية والثقافية، قديماً وحديثاً.

لكن بعد أن قررت الإدارة السياسية الأمريكية صناعة حقيقة اسمها "الإصلاح" أو "التغيير" في العالم العربي، وتحرك إعلامه لترويج تلك الحقيقة، نحا خطابنا الإعلامي نفس النحو، وانشغل بـ "حقائق" هي، في الأساس، من صنع الآلة السياسية والإعلامية الأمريكية، وأكثر ما يخشى، صراحة، أن تحسم المحصلة النهائية لتلك "الحقائق المصنوعة" وفق محددات ورؤى الآلة ذاتها، لا وفق احتياجات أو تطلعات المجتمعات العربية.

الأمر الثاني يتعلق بتعاطينا نحن مع الآخر، ممثلاً في الغرب، والمشكك دوماً في نوايانا وميولنا وأفكارنا وقيمنا، ويرى أنها أس البلاء الإرهابي في عالم اليوم الأكثر تقدماً وتخففاً من قيم الماضي وموروثاته.

حتى اللحظة لم نستطع أن نحدد لأنفسنا، رغم الطفرة الشكلية والمهنية التي تبدو عليها فضائياتنا وصحافتنا، خطاباً إعلامياً ناضجاً يستطيع أن يحدد لنفسه خطة وهدفاً استراتيجيين. فلازلنا نتعارك على حريات التعبير والرأي والكلام، وفق مفاهيم ومعان تقليدية، كما أزعم، أو استناداً إلى أسس ومبادئ عتيقة تخضع لعملية تغيير وتحوير بفعل الحرب الدائرة رحاها، في صمت، بين الإعلام الأمريكي والمديرين التنفيذيين للحرب على الإرهاب، وهي حرب ستخضع الثقافة الإعلامية، في شتى أنحاء العالم، لنتائجها النهائية، جبراً أو اختياراً.

وإذا كنا لم نستوعب بعد حريات التعبير، بمفاهيمها التقليدية العتيقة، فماذا نحن فاعلون مع القيم والمفاهيم المنتظر مجيئها بعد أن تفرغ أمريكا من إعادة تعريف مفهومي حرية التعبير والخصوصية؟

محرر صفحة "تقنية وعلوم"
مجلة "المجلة" اللندنية
الرياض
المملكة العربية السعودية

[email protected]