ردّاً على مقالة الكاتب حسن خضر، مدير تحرير فصلية الكرمل.
في زاويته المعتادة (نقطة ضوء) وضع الكاتب حسن خضر، مقالةً ( في الصفحة الثقافية من جريدة الأيام الفلسطينية، يوم الثلاثاء 3/1/2006)، بعنوان: quot; ما الذي في الاسم quot;، وهو السؤال الذي يسأله شكسبير في روميو وجولييت، كما يذكر الكاتب، ومُجيباً في السطور الإرتكازية الأولى: (.. والذي في الاسم هو المعنى، أو ما يطرده من مكانه. لذا الصراع على الاسم صراع على المعنى. ولا نعرف - والكلام لصاحبه - بالضبط، اسم هذا الذي يجري في غزة الآن، ومنشأ عدم المعرفة ليس صعوبة المعنى، بل حماية ما يطرد من مكانه بالحراب. لذا -يضيف الكاتب حسن خضر - وسط الخوف، والمصلحة، والاضطراب، نعجز عن تسمية ما يجري في غزة. يقول البعض: إن المعنى هو الفوضى والانفلات الأمني، لكن هذه التسمية الأخرى تقبض على النتيجة، وتعجز عن تسمية السبب. وذلك بالنسبة للتسميات الأخرى. ) هذا ما ورد في السطور الأولى من نقطة ضوء حسن خضر، يقود لوهلة أولى، إلى القول: إننا أمام كلامٍ كبير كِبَرَ المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتق quot;مُحلليquot; الحالة الفلسطينية المزرية. حتى لنظن أننا نقرأ ليوغين هابرماس. لكن هذا يظلّ يظلم العالم والفيلسوف الاجتماعي الألماني ذائع الصيت والإنجاز ؛ رجل القضايا الاجتماعية الكبرى، صاحب العقل الحيادي، الذي يضع، على نحو عظيم، اليد الفكرية على الظاهرة الاجتماعية، فيحللها. مع الكاتب حسن خضر، فإنّ الملامة سرعان ما تُطور اسمها للإدانة، فهذه الأخيرة هي التسمية التي نقبض عليها -الآن- ونُحرّرها من منطلق الواجب الأخلاقي الكانتي ؛ لندين بها، نحو ساخرٍ، سائل: ما الذي في الاسم..!!، صاحب نقطة الضوء، والذي يميل إلى تجريد الفضاء والزمن الفلسطينيين من كونهما السببين الذين تندرج ضمنهما النتيجة الفلسطينية. وهنا مكمن الخوف والخطورة من المثقف الذي يكتب من درجة متعالية داخل المؤسسة ؛ إنه يكتب بعيداً - وإن بدا قريباً - عن أن يُسمي السبب، بعيداً عن أن يقول فضاء ياسر عرفات وزمن السلطة الفلسطينية. سامحاً لنفسه وحسب، أن يكتب عن الفضاء والزمن بصفتهما النتيجة، ونصّ الجماعة الفلسطينية في قطاع غزة ؛ فهو يرى إلى هذا النصّ بصفته فضاء وزمن اللعب والفوضى والميليشيات الحرة، ويتركه هكذا مُوبّخاً إياه، دون القبض على جمرة المعنى وتسمية السبب. النتيجة هي المعنى عند الكاتب، وقد نسي - وهذا إخفاق فكري في قراءة الأبعاد - أنّ أي نتيجة لن تكون ولن تحدث إلا داخل الفضاء والزمن. وإذا أراد أن تكون ضدّ ذلك، فهو، حتماً، ضدّ العقل، وضدّ الكلام الذي يسمح لنفسه بأن يكتبه. هنا، بالضبط، تكمن حقيقةُ المثقف، الذي إن لم يكن صنو السياسي، فالمتواطئ مع السياسي. مرجع هذه الإدانة واضح من خلال توجّه الكاتب لذم الحضور (النتيجة)، ومدح الغياب (السبب) بعدم إشراك الأخير وإلقاء نقطة الضوء عليه. إذن، لا غرابة أن نرى، هنا، فصلاً وقلْباً مُتعمّدا ومتعسفاً لنسق البحث عن العلة الأولى. هذا يظلّ سيراً ممكنا وتواطؤاً فجّا يذكّر بسياسات غير حميدة. وهذا يظلّ عملاً ممكنا في قراءة نصّ إبداعي ؛ لكن في حالة قراءة النصوص والصور الاجتماعية، المتعلّقة بالمصير الفلسطيني، لا سيما الموضوعية الحيّة، أو التي نراها ونسمعها عبر وسائل الإعلام ؛ فإنّ الضرورة، حتماً، تتطلب منا الأمانة لاتقاء الإدانة. إنّ الكاتب حسن خضر إذ يقدّم النتيجة على السبب، يريد أن يدينَ وأن يهتمَ وحسب - أسوة بالزميل نيتشه وأضرابه - بدلالة الفوضى هنا في مسقط رأسه (قطاع غزة). لكن لا ركيزة نيتشه، ولا تبدّيات الكاتب الغرامشية، التي تشيرِ، لوهلة أولى، إلى همّه ومسؤوليته، كرجلٍ وطني يواجه عيوب المجتمع ؛ أقول لا تشير الإشارة الكافية. ذلك لأن أسلوب الاستقصاء، لدى الكاتب، لا يخدم، بحال من الأحوال، المطلب الفلسطيني، ولا يثري النقد والنقد الذاتي، ولا يحرّض على التفكيك بالمعنى والممارسة الاجتماعية للكلمة. لا يقدّم محاكمةً منصفة وعادلة في طريق علاج مظاهر اجتماعية وسياسية محلية على درجة عالية من الخطورة والارتباط بالأداء، وبالكفاءة الوطنية. فكلام الكاتب هنا عن عجزه عن تسمية ما يجري في غزة، وقوله بأنّ التسمية تقبض على النتيجة وتعجز عن تسمية السبب ؛ ما هو، في حقيقة الأمر، إلا تهرّبا وتلكؤاً ومناداة وَهْمية بالنقد الذاتي دون ممارسته بالكفاءة والكفاية المثقفية، وبالشفافية الوطنية ذاتها ؛ تهرّباً وعدم نضج كافٍ للنقد الذاتي، أو بعبارة أخرى - أشدّ صدقاً وإيلاماً - احتماء مثقف السلطة في المؤسسة، والمجاهرة من على منبرها السعيد!، بضرورة النقد الذاتي والتغيير والمعالجة. ماذا يعني هذا؟ يعني، حتماً، أنه ليس كلاماً بريئاً، ومن الوجدان الجماعي ؛ بالقدر الذي يراد له أن يكون ذلك!. ليس شهادة ثقافية واجتماعية وسياسة حيادية، ولا هي غصة نفسية ومثقفية كبيرة بسبب ما يجري داخل الفضاء والزمن الفلسطينيين. ليس هذا وذاك كله، لأن واقع تقديم النتيجة على السبب - ببساطة - يذكّر بأمنية اسحاق رابين بأن يصحو فلا يجد غزة إلا وقد ابتلعها البحر. إنها أمنية رمي النتيجة في البحر، أمنية التخلّص من عبء ثقيل كان يسمى قبل خروج المستوطنات بالسبب: الاحتلال. والآن، بعد خروج الاحتلال، هو النتيجة: الجماعة وثقافة الفوضى.
إنّ من مهام وواجبات القارئ والمثقف الموضوعي أن يعترف، أن يكون اعترافه وتشخيصه شاملاً ومعرّفا ومُسمياً لاذعاً وشفافاً، لمختلف النتائج والأسباب. وأن يذهب مع ضرورة التخلي عن الكلام نصف الدائري. ففي حقل القراءة الاجتماعية يرى إلى هذا - بَعد أن قُبِضَ على التواطؤ فيه - بصفته ناتجاً عن ذهنية فقيرة متواطئة، لا توفّر لذاتها الطاقة المنشّطة لمدارك نقطة الضوء، وعدسة المنظار الفكري النخبوي والعملي، من أجل مواجهة تردّي المصير الجماعي الوطني. إننا أمام حاجة أن يكون القارئ موضوعياً ووضعياً بالقدر المتطلب تفكيك السبب والنتيجة تفكيكاً عادلاً وغائياً. ولكن القارئ، شريكي في غزة: حسن خضر، مولع بتقديم النتيجة على السبب، ومولع ببناء الفعل على الغامض المجهول:
[ ما يجري، على الأرجح، يمثل الحصاد المرّ للبذور التي زرعت في السنوات وربما في الأشهر الأولى من عمر النظام الفلسطيني ]... [ ما يجري، على الأرجح، يمثل النتيجة المنطقية للفشل في إدراك العلاقات الموضوعية بين الهدف، والخطة ومراحل وأدوات التنفيذ وآليات الضبط السيطرة ] بالقراءة السسيوثقافية يمكن النظر في هذا الكلام السابق العام القريب من الكلام المتخصص والعملي الذي ينهل من حقل الإدارة ؛ يمكن النظر إليه بصفته ضرباً من التعاليات الموهومة التي لا تسمح لأصحابها بعمل الجرأة وتفكيك الحماية ذاتها، أي المؤسسة التي تشكّل حمايةً ميتافيزيقية للمتكلم المتعالي، ولو تسمحْ لكانت، حقّاً، تعاليات فكرٍ وهِمّةٍ جسور. ويضيف الكاتب [.. وما يجري، على الأرجح، يمثل الحصاد المرّ لموت السياسة بالمعنى الكبير للكلمة، أي اختزال الممارسة السياسة في اليومي، والنفعي والتفصيلي، وبقدر مذهل، وغير مسبوق من تجارب شعوب مختلفة، من العمى الإرادي وكراهية النقد والنقد الذاتي. ] فإذا كان لكلامنا حقّ علينا، فلأنه يمثلنا أمام القارئ. والكاتب في كلامه السابق يرثي موت السياسة بالمعنى الكبير للكلمة، رثاءاُ خليقاً بأن يكون جوقة تراجيدية من رجال الاهتمام الديمقراطي والاجتماعي والثقافي، رجال أشبه برجال اليونان! هؤلاء الرجال المكسوّين بالظلال الزرقاء والمكلّفين باللهجة البشرية المتعالية. لذا فـquot; موت السياسة quot; بالمعنى الكبير للكلمة، يعني - في أقرب فهم له - الخشية من تمزّق الوقار الذي يتحلّى به الوجه الثقافي والاجتماعي والسياسي الليبرالي المليح! ويعني الخجل من أفعال جماعة غير ناضجة تؤول إلى وحدات أصغر وميليشيات همجية، كما يقال. كنت أتمنى على الكاتب وهو يتكلم بروح ولياقة راديكالية ولبرالية معاً، عن هذا الموت والاختزال والانفجار الكبير ؛ ألا يَقبِض - فيما هو يعلن ذلك - على مصطلح quot;موت المؤلف quot; وهو الذي يضمره في مقالته التي تعمل كما لو كانت تدافع عن غياب وموت السبب في ورشة نقد تفكيكية. وإنني لأتمنى على الكاتب حسن خضر، الغزي الأصل، أن يأتيها ؛ ليعرف من ذا الذي وَرّط النتيجة في التأويل. ومن ذا الذي ثقب ويثقب أملها وأخلاقها وصلواتها المعيشية والوطنية، ومن ذا الذي بحضوره وبرواسبه وممارساته قضى تماماً على السياسة، ومدّد الفضاء والزمن لِلعبِ الأولاد، كلٌّ باسمه، الذين تطوروا وبدوا لا أخلاقيين تماماً. لقد غدا كل واحدٍ مُفردَ أسباب -quot; فذاك الشبل من ذلك الأسدquot; -، هذا يُحرّك الفوضى هنا في غابة غزة، ومن واقع مهامه كمسئول متنفّذ في السلطة، وذلك يُحرّك من هناك، من واقع لعبة الفوضى وموسم الانتخابات. والنتيجة في القراءة الحسنة: رَكّب السبب على النتيجة تقرأ السبب! بكلام جديد، فهنا وهناك قتل الإرادة السياسية والعملية والروحية لدى الجماعة، قتل الهدف والإرادة بالتهريج تارةً، وبتغذية النزعات الفصائلية والعشائرية، واللعب على التناقضات بين هذا وذلك. إذن، بوسعي وبوسع الكاتب - إذا أراد - أن نتفق على أن الأسباب أصلاً هي ذاتها منشأ الفوضى واللاعبة - على نحو لا وطني ولا إنساني - بمصائر الجماعة والأفراد. وأما فتجد غطاءها من كونها تحتمي في زواج الثقافي من السياسي، زواج ميكيافيللي، يبارك التزييف والعمى، بمقدار ما يحمي، بمقدار ما لا يشكّل ضرراً، ويشكّلُ حمايةً ومنفعةً للشريكين في غرفة نوم المؤسسة اللازوردية ؛ ذات اللغة العابرة في التعالي! وهذا ما يدين مُجدداً الثقافي بالعمى الإرادي وكراهية النقد والنقد الذاتي. وهو ما يدين، بكلام آخر، النية السيئة من خلف تقديم النتيجة على السبب! إنه - كما يتفق لليقين والحياد - إلحادٌ أخلاقيّ ووطني، كما يحسن أن أصفه!
ولكن، لِمرة واحدة في مقالته المذكورة، يتفضل الكاتب بتسمية السبب، تحديداً، حين يرى إلى تسلل وانتقال صور النموذج العراقي التلفزيونية إلى المناطق الفلسطينية، لاسيما عمليات الخطف وقراءة البيانات المتلفزة. فالذي يحدث في قطاع غزة من خطف للرعايا الأجانب هو من قبيل محاكاة الذي يحدث في العراق. في مقاربته للنصين العراقي الغزي المضارعين ؛ نجد عندما يستحضر الصورة العراقية لايمانع - وإن كان لا يظهر ذلك في سطور المقال - ظهور السبب: صدام حسين، رادّاً الصورة والنتيحة العراقية الراهنة عليه. كما أنه لا يمانع أن يُركّب السبب (صدام) على السبب (أمريكا)، لحماية السبب بالسبب، لكي لا يرى السبب. ونعنى، أكثر ما نعني بقولنا هذا، إدانةَ الكاتب لحجبه السبب (عرفات) وتسطيحه للنتيجة، في الحالة الفلسطينية. حيث يبرز الاهتمام بالنتيجة كدائرة مستقلة، إلى درجة تركها تخلق سببها ذاتها بذاتها، المهم ألا تذهب الإشارة أو نقطة الضوء، جهاراً نهاراً، للسبب! هذا التفكيك التعسفي، لا يصلح لغة ثقافية اجتماعية لا نظرية ولا عملية. ولا يجوز لنا أن نسميه معالجة أو نقدا ذاتياً بريئاً ؛ فالذي لا يسمي السبب ليس بريئاً، ولا هو بالمثقف الحيادي الجسور، ولا هو بالناقد الدقيق. النتيجة فضاء وزمناً، هي قطاع غزة، خارج الوصل تمشياً مع جاك دريدا: الزمن خارج الوصل quot; في كتابه quot; أطياف ماركسquot;، هذا ما يريد قوله الكاتب وأصله من غزة، المتعالي عليها بصفتها النتيجة! لكنّ الذي يجب ألا يغيب، دائماً، عن وعي ومحدودية نقطة الضوء هو أنّ ما يهمّ القارئ والمثقف هنا، في قطاع غزة، هو أن يقول، أن يعرّفَ وأن يُسمّي السبب للتاريخ، وللأجيال القادمة القارئة لهذا التاريخ، لهذا الفضاء وهذا الزمن. حتى يكون القارئ أمام خياراته التي سيتخذها وعيه الوطني ؛ فلا يكفيه أن يضع: quot; راية سوداء على جثة مشروع كبيرquot;، كما يوصي الكاتب في ختام نقطة الضوء المعتمة ؛ وإنما أن ينبش هذه الجثة المكللة بالرخام، أن يُحللها ويُحاكمها ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، وأن يكشفها ويقيمها ميتافيزيقيا وأخلاقيا وجمالياً. وبذلك، حتماً، سنعرف ما الذي في الاسم من معنى و، حتماً، ستكون ثمة معرفة وقدرة حقيقية على تسمية السبب: الغامض الذي يحتاج إلى تسمية!
نصر جميل شعث
التعليقات