- 1 -
كانت نتائج الإنتخابات الأخيرة صدمةً لجميع القوى السياسية بما فيها الإئتلاف الذي حقّق مفاجأةً لم يكن يحلم بها هو نفسه، ففي الحين الذي خسر فيه التحالف الكردستاني 22 مقعداً من أصل 75 فاز بها في الأنتخابات الأولى (أي بنسبة خسارة 29.33%) وخسرت فيها القائمة الوطنية العراقية 15 مقعداً من أصل 40 مقعد (أي بنسبة خسارة 37.5%) لم يخسر الإئتلاف سوى 12 مقعداً من أصل 140 مقعدا (أي كانت نسبة الخسارة 8.57%) وهذا ما يدل على حقيقة الحجم الإنتخابي للإئتلاف مقابل التضخم الزائد لحجوم الكيانات الأخرى التي جاءت على حساب غياب مشاركة السنّة العرب في الإنتخابات الأولى، وهذا ما دفع السنة العرب ممثّلين بجبهة التوافق العراقية إلى الترحيب بالنتائج الأولية للإنتخابات حيث أشاد رئيس الجبهة الدكتور عدنان الدليمي من على شاشات التلفزيون بالعملية الإنتخابية وبالمفوضية نفسها، في حين تلقّت القائمة الوطنية العراقية الصدمة المتوقعة لها بنزقٍ صبياني كطفلٍ خسر لعبته، وأخذت تردّد أن الإنتخابات مزوّرة وأخذت تلملم معها الفاشلين والإنتهازيين لتشكّل منهم جبهة quot;عريضةquot; تستردّ بها ماء وجهها. كانت ردود الأفعال هذه منطقية ومن صميم الواقع الإنتخابي فالخاسر يتكلم دائماً بلهجة إما الفوز وإما التزوير، ولكن لهجة جديدة ظهرت بعد ثلاثة أيام فقط من إعلان النتائج الاولية كانت لهجة إما الفوز وإما التهديد فقد ظهر الدكتور طارق الهاشمي أحد زعماء جبهة التوافق العراقية عند إعلان النتائج الأولية لمحافظة بغداد -والتي أظهرت أنها محافظة شيعية لا غبار عليها رغم قرون التعتيم الطائفي- وهو يهدّد وينذر بالحرب الأهلية وببحور الدماء quot;إذا لم تِعدّل النتائجquot;، وبنفس اللغة تكلم صالح المطلك رئيس جبهة الحوار الوطني عن quot;تعديل النتائجquot; ومنح السنّة مقاعد إضافية بما يرضيهم ثمناً للسكوت عن أعمال العنف و quot;المقاومة الشريفةquot; ولا أدري لماذا تجري الإنتخابات أصلاً إذا كان الأمر quot;حصصquot; مسبقة يتم الإتفاق عليها ولا أدري ما هي المحاصصة الطائفية التي تندّد بها القوى السنّية إن لم تكن هذه هي بعينها ولا أدري ما هو الإرهاب إن لم يكن هو quot;المقاومة الشريفةquot; ببحور الدماء والحروب الأهلية التي ينادي بها الهاشمي. وأخذت تتصاعد الحملات الإعلامية ضد نتائج quot;الإنتخابات المزورةquot; وضد المفوضية وضد الإئتلاف بشكل غير مسبوق ووصل الأمر إلى مديات مقلقة وتناغمت الموجة مع موجة القائمة الوطنية العراقية الخاسر الأكبر في هذه الإنتخابات وبدأت المطالبة بتدويل النتائج وتدويل التحقيق، ومع أن النتائج النهائية قد أُكملت منذ الأسبوع الثاني وظهرت الأرقام بصورة واضحة إلا أن المماطلات والتهديدات بوقف العملية السياسية أو الإنسحاب منها أو التهديد بأعمال العنف أدّى إلى تأخير إعلان النتائج النهائية المصادقة إلى حوالي شهرين من الضغط على أعصاب الناخب العراقي والضغط على الإئتلاف لتمييع النتائج وامتصاص صدمتها بالتأخير والتسويف والتهديد حتى بعد أن أعلنت اللجنة الدولية -التي طالبوا بإرسالها- صدقية النتائج وصحتها، ويبدو أن التأخير في النتائج والتأخير في تشكيل الحكومة مقصود للضغط على أعصاب الإئتلاف وناخبيه ومحاولة شقّه أو تفتيته كما حصل في الإنتخابات الأولى حيث شُكّلت الحكومة بعد ثلاثة أشهر من إجراء الإنتخابات وفي هذه الإنتخابات يصرّح ناطق عن مجلس رئاسة الجمهورية أن الرئيس الطالباني غير ملزم بمواعيد تشكيل الحكومة وفق أحكام الدستور الدائم لأن هناك إختلاف بالتفسير القانوني. وأُسقِط بيد التوافق وبدا أن الناتئج غير قابلة quot;للتعديلquot; فبدأت لهجة جديدة quot;للتوافقquot; و quot;التعديلquot; وبدأت لهجة جديدة من quot;المحاصصةquot; فبدأ الكلام عن quot;الإستحقاق الوطنيquot; بديلاً عن quot;الإستحقاق الإنتخابيquot;، ولكن أليس الإستحقاق الإنتخابي أستحقاقاً وطنياً! وما معنى الإنتخابات إن لم يكن لها إستحقاق! ولماذا أُجريت الإنتخابات إن لم يكن لها إستحقاق! وأين استحقاق الملايين التي أدلت بأصواتها؟ وما معنى الإستحقاق الوطني إن لم يكن لهذه الملايين استحقاق!
ولم تكن هذه العملية بمنأى عن الولايات المتحدة الأمريكية التي فعلت كل ما بوسعها طيلة السنين الثلاث الماضية لتجنّب هذه quot;الكارثةquot; والحيلولة دون تسليم السلطة للإسلاميين، ولئن اضطُرّت لتسليمها لهم في حكومة إنتقالية منتخبة بعد أن عرقلتها بحكومة مؤقتة عيّنتها بنفسها فهي غير مستعدة أبداً الآن لتختتم مشروعها في العراق بحكومة إسلامية أو على الأقل حكومة يهيمن عليها الإسلاميون للسنوات الأربع القادمة التي هي أساس الدولة الجديدة في العراق، فأخذ السفير الأمريكي في العراق زلماي خليل زادة يعقد مؤتمراته الصحفية ليعلن أن وزير الداخلية طائفي وبلغة غاية في الوقاحة لا يتجرّأ عليها حتى وإن كان هو المندوب السامي الذي لم يتمالك نفسه حتى ظهر بتصريحاته المشينة تلك، ولم يكتفي بمؤامرته وتحريضاته من خلف الكواليس فبدأ أولاً مع حليفه أياد علاوي فرس الرهان الأمريكي في اللعبة العراقية منذ الإنتخابات الأولى حيث توجّه بعد فشل حركة مرام (التي شكّلها للجعجعة بتزوير الإنتخابات) لتشكيل جبهة جديدة مع القوى السنّية ممثلة بجبهة التوافق ومجلس الحوار الوطني وأُعلن عن تشكيل الكتلة العريضة ذات الثمانين نائباً لتشكيل الحكومة في خطوةٍ إستهزأوا بها بأنفسهم قبل أن يستهزؤا بالشارع العراقي ثم أُعيد تشكيل الكتلة من نفس الأطراف ولكن للتفاوض في مباحثات تشكيل الحكومة الجديدة وكان واضحاً أن تشكيل الجبهة الجديدة هو مجرد ضغط مقابل لجبهة الإئتلاف العراقي الموحد مع التحالف الكردستاني والتي تنتظر التوافق معها لإتمام التوازن السياسي في الحكومة، ولكن التوافق أرادت أن تدخل بموقف قوي بدلاً من أن تدخل بحجمها الحقيقي لوحدها كما أن علاوي لم يجد له منفذاً للتسلّل إلى الحكومة إلا عبر السنّة إذ بدا أصدقاؤه الأكراد متفهّمين لواقع الإئتلاف العراقي بوضع الخطوط الحمر أمام دخول علاوي كما كان واضحاً من محادثات كردستان التي سبقت إعلان النتائج النهائية، ولكن هذه الجبهة الركيكة سرعان ما انهارت بعد أن اختار الإئتلاف العراقي الموحد الدكتور إبراهيم الجعفري مرشحاً له لرئاسة الوزراء. وكان الجميع قد صرّحوا علناً بميلهم للمرشح الثاني للإئتلاف الدكتور عادل عبد المهدي أو رفضهم للدكتور الجعفري، وإذا كان رفض التوافق للجعفري مجرد عناد سياسي وللقيام ببطولات وهمية أمام جماهيرها فإن الأكراد وزلماي خليل زادة من جانبه حاولا إسناد إختيار عبد المهدي لأنه أكثر مقبوليةً لديهم وتربطهم به علاقات وطيدة مذ كان ممثلاً للمجلس الأعلى في كردستان ولأنه أقل تشدّداً من الجعفري مما ينعكس على التجاذبات في الحكومة المقبلة، وكانت كفة الإئتلاف تميل فعلاً لصالح عبد المهدي الذي خسر بفارق صوت واحد أمام الجعفري مما أفقد الجميع توازنهم فظهر الرئيس الطالباني في نفس اليوم الذي اختار فيه الإتلاف مرشحه الجعفري وظهر إلى جانبه زلماي خليل زادة ليعلن ان الخط الأحمر الذي وضعه الإئتلاف لمشاركة علاوي في الحكومة هو خط أحمر لمشاركة الإئتلاف نفسه في الحكومة وبالتأكيد فإن الخط الأحمر هذا كان بإشارةٍ من زلماي الذي أشار بوضوح انه هو الذي يضعه أمام الإئتلاف ويبدو أن الأكراد أحسّوا بأن زلماي وضعهم في وضع أكبر من أن يتحمّلوه فاستمروا في مباحثاتهم الثنائية مع الإئتلاف مع التخفيف من لهجة الخط الأحمر التي كانت أشبه بالطيش السياسي لأن الإئتلاف ليس فقط أكبر كتلة في البرلمان ولكنه نصف البرلمان والإئتلاف الآن يمثل الشيعة وهم بالتأكيد أكبر من البرلمان بجميع مقاعده، ولكن اللغة في هذه المباحثات كانت نفس اللغة وكان واضحاً أن الأكراد مأمورون بوضع العقدة في المنشار بالإصرار على دخول قائمة علاوي تحت ذريعة quot;حكومة الوحدة الوطنيةquot; التي أخذ السفير الطائفي يبشّر بها وطار جاك سترو من لندن ليدعو لها وبدأ التحالف الكردستاني يتزعّم الموقف لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية وكأنه هو الكتلة الأكبر (لأن زلماي وضع الخط الأحمر أمام مشاركة الكتلة الأكبر) وأعاد علاوي تشكيل جبهته للمرة الثالثة بعد أن اكتشف هذه المرة أنها المنفذ الأخير لدخوله الحكومة وبدأت المباحثات المغلقة بين التحالف الكردستاني وجبهة التوافق العراقية والقائمة الوطنية العراقية واستمرت هذه المباحثات أمام وسائل الإعلام بإصرار واضح على إستبعاد الإئتلاف العراقي الموحد منها في محاولة جديدة للضغط عليه وكان جواب الإئتلاف أن حكومة الوحدة الوطنية متحققة بالإئتلاف والتحالف والتوافق حيث تتمثل فيها جميع المكونات الرئيسية للشعب العراقي من الشيعة والأكراد والسنّة وهؤلاء يشكّلون 85% من مقاعد البرلمان وهي نسبة خيالية للوحدة الوطنية بكل المعايير الدولية ولا يوجد أي مبرّر لإشراك القائمة العراقية حيث أنها لا تمثل أي مكوّن بالذات لأنها مجرد جهة سياسية وهناك أكثر من 300 كيان سياسي من المستحيل إشراكهم جميعاً كما أن هناك بالإضافة قرابة 10 كيانات أخرى داخل الجمعية الوطنية هل تعني حكومة الوحدة الوطنية إشراكهم جميعاً! ولماذا؟ من أجل تشكيل حكومة فسيفسائية لا تستطيع أن تطرد الذباب من على وجهها! وهل نريد حكومة مشلولة بالإجماع وكأننا نعيد تجربة الجامعة العربية. ويبدو أن نغمة حكومة الوحدة الوطنية لم تكن توليفة مناسبة فتفتّق ذهن المندوب السامي عن مؤامرة جديدة أعلنها بلسان السيد مسعود البارازاني هذه المرة وهي quot;مجلس أهل الحل والعقدquot; أو (وكأن التسمية التي اقترحها quot;أبو عمرquot; زلماي زادة طائفية بحتة أو هي من أدبيات طائفة معينة بما يوحي بالعداء الطائفي الذي يستهدفه تشكيل هذا المجلس الجديد) مجلس الأمن الوطني كما اقتُرح لاحقاً وكان هذا أقصى ما وصل إليه المشروع الأمريكي لتدمير العراق بعد المحاصصة التي فرضها السفير بريمر من قبله في قانون إدارة الدولة للمرحلة الإنتقالية الذي أسّس وكرّس المحاصصة الطائفية والعرقية في النظام السياسي وكل مفاصل الحياة السياسية فجاء مجلس أهل الحل والعقد لنسف البرلمان والحياة الدستورية من أساسها بتشكيل مجلس التوافق والمحاصصة هذا ليهيمن على البرلمان ويفرغه من أغلبيته الممثلة بالإئتلاف العراقي الموحد عبر اشتراطه الإجماع في المجلس البديل أي يكون صوت زعيم كتلة الإئتلاف بمقاعده المئة والثماني والعشرين كصوت زعيم الحركة الإيزيدية مثلاً بمقعدها الوحيد عند المشاورة في الأمور المصيرية التي يتوقف عليها مستقبل البلد أما الأمور الثانوية فتوكل إلى البرلمان الذي سيصبح دائرة صغيرة لتشريع القرارات والقوانين الروتينية، ولا أدري هل من حق السفير الطائفي بعد هذا أن يتكلم عن الديمقراطية والقانون وهو ينسف الدستور والبرلمان إرضاءً للإرهاب ومساومةً له على مستقبل العراق!
ثم بدأت مهزلةٌ جديدة لمّح من خلالها الأكراد أنهم قد ينضمّون إلى جبهة التوافق-علاوي لتنضمّ بعدها جميع الكتل الصغيرة ويشكّلوا أغلبية النصف بدلاً من نسبة الثلث التي تتمكن بها الجبهة القديمة من إسقاط ترشيح مجلس الرئاسة وهذا ما يمكنهم من تشكيل الحكومة الجديدة بمفردهم وطرد الإئتلاف منها أو مشاركته باعتباره الشريك الأضعف، ولكن هل ستكون الحكومة التي ستجتمع فيها جميع تشكيلات وطوائف وأقليات الشعب العراقي ضد الإئتلاف (وقد فشلوا في الاجتماع في الإنتخابات الأولى وفي دوكان وفي الإنتخابات الثانية) هل ستكون حكومة وحدة وطنية وهي لا تشكّل سوى 53% من البرلمان وهم الذين اتّهموا حكومة الإئتلاف التي ينوي تشكيلها بمشاركة التحالف والتوافق والتي تمثّل 85% من البرلمان اتّهموها بأنها حكومة طائفية! فيا عجباً إلى أي مدى يريد السفير الطائفي أن تصل quot;الحرب على الإئتلافquot;! وإلى أي مدى سيقبل الفرقاء العراقيون أن يكونوا هم وقود هذه الحرب!
ويبدو أن الحرب أصبحت أقوى من أن يتحمّلها الإئتلاف بمفرده فذهب السيد عبد العزيز الحكيم إلى النجف ليضع الصورة كاملةً أمام سيد النجف الكبير، وبينما صرّح رئيس الجمهورية جلال الطالباني بأن الجعفري مرشح الإئتلاف لرئاسة الوزراء وليس مرشح البرلمان في إشارةٍ إلى تهديده بإقصاء الإئتلاف عن الحكومة والبرلمان معاً جاء ردّ النجف سريعاً باحترام الدستور فيما يخصّ المناصب السيادية أي تثبيت مرشح الإئتلاف الذي طار إليها فوراً وتثبيت موقف الإئتلاف مقابل جميع الضغوط والتهديدات التي يمارسها السفير الطائفي الذي فقد صوابه من جديد وهدّد في مؤتمره الصحفي بقطع الدعم المادي واللوجستي عن قوى الأمن والجيش إذا ما تمّ اختيار وزراء طائفيين للداخلية والدفاع والأمن القومي ونسي المندوب السامي الطائفي كل اللياقات الدبلوماسية الخاصة بدولة مستقلة كالعراق وببرلمان منتخب كالجمعية الوطنية حيث لم يشهد الإحتلال الأمريكي للعراق تدخّلاً مباشراً ووقحاً كهذا منذ أن جرى تسليم السيادة في 28/6/2004، ويبدو أن السفير الطائفي يفتتح تقاليداً سياسيةً جديدة ليشيد بها نظام الإنتداب من جديد ويعيد دولة الاضطهاد الطائفي التي خنقت العراق منذ عام 1921، ولكن يستمر الإئتلاف وتستمر الحرب على الإئتلاف...
فراس طارق مكية




التعليقات