تابعت الأزمة الناشئة عن التصريحات التي أدلى بها الرئيس المصري حسني مبارك لقناة العربية بشأن الأوضاع الراهنة في العراق. لم أصدق في البداية ما تداولته بعض وكالات الأنباء من أن الرئيس المصري اتهم الشيعة العراقيين بالولاء لإيران، فتصريح كهذا - إن كان مقصوداً - من شأنه المساس بالوحدة الوطنية للعراق، وكذا التأثير على الجهود المصرية والعربية والدولية للخروج بالعراق من المأزق الطائفي الحالى. انتظرت حتى تم نشر الحديث الصحفي بمواقع الصحف المصرية الأهرام والجمهورية والأخبار على شبكة الإنترنت، قرأت الحديث مرات ومرات فلم أجد أية إشارة للتصريحات المشار إليها. جن جنوني، إذ كيف تنسب تصريحات لرئيس دولة كحسني مبارك دون أن يقولها. رحت أبحث عن أصول الخبر على شبكة الإنترنت، فقادتني أدوات البحث إلى موقع قناة العربية. هناك عرفت الحقيقة. التصريحات المنسوبة للرئيس صحيحة وسليمة. أدركت على الفور أن الصحف المصرية قد حذفت الفقرة الخاصة بالشيعة من نص الحديث رغم أن صحيفتي الجمهورية والأخبار أوردتا الحديث مسبوقاً بعبارة quot; وفيما يلي نص حديث الرئيس مبارك لقناة 'العربيةquot;، بينما تحايلت الأهرام بذكاء على الموقف فذكرت quot;وهكذا بدأ الحوارquot;.

تفاوتت ردود الفعل العراقية على تصريحات الرئيس مبارك، حيث أبدت الحكومة العراقية استياءها من تصريحات الرئيس مبارك موضحة أن التعلقيات الخاصة بالغالبية الشيعية وإيران quot; فهمت على أنها تشكيك في وطنيتهم حتى لو كان هذا غير مقصود.quot;، جاء ذلك في الوقت الذي طالبت مرجعيات شيعية عراقية باعتذار مصري صريح، بينما ذهب البعض إلى المطالبة بمقاطعة المنتجات المصرية. ربما شعر العراقيون الشيعة أن من حقهم الحصول على اعتذار أو توضيح من الحكومة المصرية، ولكن القضية تتطلب ما هو أكبر من الإعتذار أو التوضيح، القضية تتطلب حكمة من كل من الحكومة المصرية والقيادة العراقية والمراجع الشيعية والشعب العراقي بمختلف طوائفه، حتى لا تستغل تصريحات الرئيس مبارك كمرجع لاتهام الشيعة في المستقبل في وطنيتهم.

أعتقد - وربما يساندني الكثيرون في ذلك - أن الرئيس المصري ما كان يقصد بتصريحاته الطعن في ولاء وانتماء ووطنية العراقيين الشيعة، فربما كان بالفعل يقصد الولاء الديني للمرجعية الشيعية في طهران، التي تربطها علاقات متوترة مع مصر منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران.إلا أن ذلك لا يعني أن التصريحات لم يجانبها التوفيق من رئيس مخضرم يجيد تماماً اللعبة السياسية والتصريحات الصحفية، ويعرف بدبلوماسيته الشديدة التي مارسها مع العرب أبان فترة القطيعة التي تلت إتفاقات كامب دافيد المصرية الإسرائيلية، وخلال الأزمات السياسية العابرة بين مصر وبعض الدول العربية كالأزمة مع السودان بعد محاولة الإغتيال التي تعرض لها في أديس أبابا بأثيوبيا. لعل هذا ما دفع الجميع إلى فغر فاه من الدهشة المشوبة بالألم لوصف الشيعة بالولاء للعدو السايق للعراق الذي خاض معه حرباً ضروساً دامت ثماني سنوات كان خلالها الشيعة نموذجاً للوطنية والإنتماء والإخلاص لوحدة الوطن العراقي. وربما يزيد من حساسية الموقف أن التصريحات جاءت من رئيس سني في وقت يتعرض له الشيعة لهجمات إرهابية من متطرفين سنة.

لعل الرئيس مبارك نفسه يشعر بالأسى والألم لمردود تلك التصريحات، لذلك سارعت الأبواق الإعلامية الحكومية المصرية للدفاع عنه ونفي الإتهامات عنه بتعمده إهانة العراقيين الشيعة، حيث ذكر مستشاره الصحفي أن مبارك كان يقصد quot;التعاطف الشيعي مع إيرانquot; وأن تصريحات الرئيس تعكس quot; قلقه البالغ من استمرار تدهورالوضع الراهنrlm;،rlm; وحرصه علي وحدة العراق وشعبهrlm;،rlm; وعلي استعادة الهدوء والاستقرارrlm;،rlm; وتحقيق الوفاق الوطني بين جميع أبناء الشعب العراقي الواحد الذي تتعامل مصر مع جميع فئاته وأطيافه دون تفرقة أو تمييزrlm;.quot; كما جاء حذف الفقرة الخاصة بهذة النقطة من نص الحديث المنشور بالصحف الرسمية المصرية في إطار التكتيم عليها حتى لا تتصاعد المشكلة وحتى لا تخلف تداعيات داخلية من قبل الشعب المصري ذاته الذي قد يرفض مثل هذا التصريح.

لكن معالجة الصحف المصرية للقضية، بمحاولة إخفاء الحقيقة، تثير حقاً العجب والتعجب. إنها فضيحة أن تتدخل الأيادي للعبث بنص الحوار المملوك لقناة العربية. لقد كان من الأولى والأفضل أن تنشر تلك الصحف الحوار بالكامل، كجزء من الأمانة الصحفية التي يفترضها شرف مهنة صاحبة الجلالة، مع نشر توضيح المسئولين المصريين بشأنها، أو ألا تنشر نص الحوار من أساسه. لقد تابع العالم حديث الرئيس مبارك وعرف الجميع محتواه وأدرك الجميع الحاجة إلى التعامل مع الموقف بحكمة، لذا لم يعد يجدي أن تخفي الصحف المصرية التصريحات خاصة مع وجود شبكة الإنترنت التي تنقل كافة الأخبار دون حذف أو رقابة. إن قطع جزء من حوار الرئيس يثير من جديد مسألة عدم استقلالية الصحف المصرية والعربية والرقابة الحكومية عليها. لا أعتقد أن الصحف الثلاث الرئيسية في مصر حذفت الفقرة من تلقاء ذاتها باتفاق فيما بينها او بدون اتفاق، ولكن ربما كانت هناك تعليمات من الهيئات المشرفة على الصحافة بحذف تلك الفقرة في خطوة تنم عن غياب حرية الصحافة و انعدام الديمقراطية الحقيقية عن مصر.

إن القضية الحقيقية التي تفجرها تصريحات الرئيس المصري هي قضية مستقبل ووحدة العراق وليست قضية وطنية الشيعة، فتلك مسألة لا مجال للإختلاف عليها. لقد أصبح على العراقيين، بعد مرور ثلاث سنوات على تحريرهم من طغيان صدام حسين، أن يتجاوزوا خلافاتهم وأن يثبتوا للعرب والعالم أن للحرية والديمقراطية تجارب ناجحة في عالمنا المعاصر. لعل في ذلك رد أقوى وأوضح وأمضى من كل سيف ذي حدين على كل تصريح أوتشكيك في وطنية كافة الطوائف العراقية من شيعة وسنة وأكراد وأشوريين وكلدانيين وغيرهم.

جوزيف بشارة