ما من شك في أن الله لا يغيّر ما ترسب في أعماق الإنسان من مخزون فكر ونمط حياة إلا إن هو غيَّر ما بنفسه، علماً أن الفرد منا يوَّلى عليه من هو على شاكلته ومن طينته. أن مسببات هزائم أي شعب وتهميش إنسانيته وقتل فاعليته ودوره كثيرة ومتنوعة، إلا أن أشدها فتكًا هي آفات الجهل والأنانية والتزلم المقرونة بعقلية التزلف الغنمي والتعصب الأعمى.

كل هذه علل قاتلة ومدنسة للفكر والجسد في آن، وهي ما إن تتفشى في مفاهيم أي شعب وممارساته حتى تقطع أوصاله وتشتته، تزرع الغيرة والحقد والكره والأنانية بين أفراده، تُسخّف قادته وتؤبلسهم، وتضع مصيره ووجوده وأمنه في المجهول.
عللٌ غلالها ضعف وهزال وجودي وكياني، سلب للإرادة، تجويف للمبادئ، نقض للثوابت، تخدير للضمير، عمي بصر وبصيرة، ذمية فاضحة وقبول بطأطأة الرؤوس والتبعية.

يعلمنا التاريخ الحديث، كما الغابر، أن المجتمعات والشعوب التي تمكنت على ممر الأزمنة والعصور من حفظ هويتها وكيانها المستقلين هي تلك لتي حباها الله بنعم الإيمان والرجاء والمعرفة والانفتاح والتواضع والجرأة.

شعوب قادتها ورعاتها ترفّعوا عن الأهواء والمنافع الذاتية المصلحية فكرسوا حياتهم والطاقات لخدمة قضية إنسانهم من هوية وحقوق وتميز وكيان وموقع.
شعوب تقيس ولاءها ومعارضتها لمن توليّه عليها من قيادات ورعاة وسياسيين، بمعايير واضحة المعالم والأطر عمادها الهوية والمصير والكيان والحقوق.
شعوب عرفت ماذا تريد وأدركت، بواقعية، أحجامها والإمكانيات، فعملت جاهدة على تحقيق مآربها والأهداف في أطر المعقول والمنطق، وهي شعوب اختارت، طوعاً وعن قناعة، قيادات حكيمة شفافة تؤمن بقضية ناسها وبحق أهلها عليها وليس العكس.

شعوب وعت محورية الهوية ومكنوناتها فقاومت بعناد محاولات اقتلاعها والتهميش.
شعوب تصدت لمكائد التفكك والذوبان وتغلبت على أنانيتها والأطماع.
شعوب فكرها نير، منفتحة على الآخرين، تحترم حرية الرأي وتقدِّس حق الغير بالاختلاف دون خلاف.
شعوب لا تؤلّه الأشخاص مهما علا شأنهم وعظم بطشهم وازدادت ثرواتهم والنفوذ.
شعوب لا تساوم على حقوقها وعلى ما هو لها، ترفض التهميش، لا تتنازل عن دورها وتلتزم واجباتها والأخلاق.

شعوب رجالها إن قالوا فعلوا، وإن وعدوا وفوا، وإن اعتدي على مجتمعهم والهوية واجهوا بعناد وقاوموا غير مبالين بحسابات الربح والخسائر.
شعوب أفرادها متشبثين في إيمانهم والرجاء، لا يخافون الشهادة للحق والمجاهرة بالحقيقة مهما كان الثمن.
شعوب أحرار الفكر والرأي والقرارات والولاءات ترفض لعب أدوار قطعان الغنم في تعاطيها الشأنين الوطني والإنساني.

شعوب مواقفها ثابتة ومحددة من كل ما يطاول مصيرها والمسارات من معطيات ومطبات وصعاب، وهي ترفض بإباء دور التزلم والاستتباع للغير.
من هنا فقد شكل المجتمع اللبناني المسيحي الأرامي الجذور، وريث الحضارات الشرق أوسطية الثروة، وبفضل إيمانه ونضاله والتضحيات، قضية متكاملة بمكنوناتها من قوم وقومية، أرض وكيان، هوية ومصير، وأشاد بنيان كل هذه الركائز على صخور الإيمان بالله والثقة بالنفس والسعي الدؤوب لحياة حرة كريمة، وهو لم يخور رجاؤه طوال سبعة آلاف سنة من النضال المضني والمرير.

صمد المجتمع اللبناني المسيحي في وجه كل الشدائد والصعاب وقاوم كل من حاول التطاول عليه مقدماً التضحيات الجلل، وبفضل ثبات وصلابة أفراده تصدى للمحتلين والفاتحين والأباطرة فردهم على أعقابهم خائبين مهزومين، وهو نجح في المحافظة على شخصيته المميزة وصون معتقده الإيماني وتشبث بخصائصه الاجتماعية والمعيشية وبنمط حياة اختاره طوعاً وعن قناعة وإدراك. كما نجح في الدفاع عن رقعة الأرض اللبنانية الخيرة والمعطاء التي حباه الله بها فسقاها عرقاً ودماً ودموعاً. أرض قدسها المخلص وأمه العذراء وباركها القديسين والأبرار.

أرض سماها بشيره الحلم وطن ال 10452 كيلومتر مربع، والبابا يوحنا بولس الثاني رأى فيها رسالة وأكثر من وطن.
في منتصف السبعينات شُنت على مجتمعنا حرباً طاحنة شارك فيها العديد من الجهات المحلية والإقليمية والدولية والأصولية النافذة بغية اقتلاعنا من أرضنا، القضاء على هويتنا وتهجيرنا لإحلال الغرباء مكاننا.

أفشلنا المؤامرة وأثبتنا أننا شعب عنيد في التمسك بحقه مؤمن بهويته وبتاريخه وملتصق بأرضه التي لا يمكن أن يفصله عنها إلا الموت. واستمرت المؤامرة واستمرت المقاومة، وباءت بالفشل كل المحاولات الرامية لزعزعة إيماننا بأحقية قضيتنا وقدسية rlm;أرضنا وتميز هويتنا والرسالة.

أن المؤامرة لا زالت مستمرة بقوة وبأوجه مختلفة، وهي تسللت بحرابها والسموم مؤخراً إلى داخل مكونات مجتمعنا، حيث أصابت مكامن فكر وإيمان وممارسات وضمائر العديد من قادتنا ورعاتنا والسياسيين البارزين. نخرت وجوفت مصداقيتهم والوعود، فنقضوا عهودهم وانحرفوا عن مسارات الحق والحقيقة كالفريسيين والكتبة بعد أن امتهنوا الذمية القاتلة في تعاطيهم مع الثوابت فأصبحوا قناصي فرص، وصوليين انتهازيين في مواقفهم والسلوك.

لقد أساء هؤلاء المغربين عن إيمانهم والرجاء فهم ذكاء شعبهم المسيحي اللبناني ووعيه، وأوهمتهم عقولهم المريضة أن بإمكانهم جر الناس وراءهم حيثما يريدون، واللعب على عواطفهم ومخاوفهم والأماني.
إلا أن ظنهم خاب، ففشلت يوداصيتهم وتعرت مرامي ممارساتهم والتحالفات. سقطت أقنعتهم وفُضِحت أطماعهم مبينة حقيقة وجوههم البشعة ومكرها.
إن واجب إحباط وتفشيل مؤامرات وثعلبية القادة والسياسيين الذين انحرفوا فكراً وممارسات وتحالفات، يستدعي من مجتمعنا تثقيف نفسه بما يخص الجذور والتاريخ والهوية والمصير، وتحصين الذات ضد آفات الجهل والخنوع والتبعية. كما يتوجب متابعة مجريات الأحداث بفكر ثاقب وتمييز واع بين الصالح والطالح، الخيِّر والشرير، المفيد والمضر، والحق والباطل.

أما الأهم فهو تعويد الذات على عدم تبرير تصرفات وأفعال أي قائد، سياسي أو مرجع إن لم نكن مقتنعين بصوابيتها طبقاً لمعايير ومقاييس قضيتنا وهويتنا والمعتقد.
علينا وكما الأباء والأجداد التسلح بالتجرد والجرأة والمعرفة في اتخاذ المواقف الوطنية والسياسية والولاءات، وأيضاً في كل ما يتعلق بالمصير، وذلك استناداً على رزمة الثوابت المتوارثة من قيم وتاريخ وعقلانية وإيمان.

واجبنا ترسيخ كياننا وتمتين وجودنا وتقوية تجذرنا والحريات. واجبنا التمسك بدورنا المجتمعي الندي المتساوي بالحقوق والواجبات وعلى كافة الصعد مع باقي شرائح المجتمع اللبناني الثمانية عشرة وفي حمل ونشر وصيانة رسالة لبنان الحضارية.

لقد فقدنا كمجتمع مسيحي لبناني منذ سنة 1975 الكثير من مقومات وركائز صمودنا ووجودنا والضمانات، وذلك بنتيجة تخاذل وأنانية وتهور وغباء الذين وليناهم علينا. أولئك الذين قل إيمانهم وخار رجاءهم وانعدمت قدراتهم على العطاء مما سهل للغير عمليات اختراقنا وتشتيتنا، فاهتز دورنا وتفشت الهجرة بين أفراد قومنا.
إن السلاح الأمضى والأفعل المتبقي لدينا في مواجهة كل ما أقعد مجتمعنا وعطل قدراتنا هو الإيمان المقرون بالرجاء، والمحصن بالجرأة على رذل المسحاء الدجالين والعودة إلى معاجن أجدادنا لنغرف منها المثابرة والعناد والثقة بالنفس.

إن المسلح بعلمه والثقافة، الفخور بجذوره والهوية، المدرك لعراقة شعبه والتاريخ، المطلع على مجريات الأحداث، بوعي وفهم، الشجاع في الشهادة للحق، الرجل وليس quot;الزلميquot; هو سياج الوطن ودرعه الواقي في وجه التعديات والمعتدين.

أما الجاهل للقضية والمتخلي عن الهوية، المنعزل عن مجريات الأحداث، اللامبالي بمعاناة أهله والأوجاع، المساوم على مصير ووجود قومه، الباحث عن أدوار ومغانم على حساب ناسه والوطن، الحربائي بمواقفه والولاءات، المتجابن والملحق غنمياً بقيادات وسياسيين دون معرفة وقناعات، هو مخلوق خاسر لذاته وجاحد بنعم ربه الذي خلقه حراً وعلى صورته.

هذا الإنسان المغرب عن شعبه والكرامات هو شريك في مؤامرة قتل مجتمعه ولا فرق أكانت ممارساته هذه عن وعي أم غباء.
من ينشد الحياة الكريمة له ولبنيه من بعده، ومن يسعى للحؤول دون ذوبان وانقراض مجتمعنا المسيحي اللبناني، ومن لا يرغب في تغيير وجه لبنان وقتل علة وجوده، عليه أن يكون رجلاً وليس quot;زلميquot; بمواقفه والولاءات.

إن quot;الزلميquot; يسير بغباء وطاعة عمياء وراء قادة وأحزاب وسياسيين ومرجعيات وهو يقبل صاغراً أن يساق كالأغنام إلى الذبح دون اعتراض. أما الرجل فهو الحر في فكره، وأرائه، وخياراته، وصاحب الضمير الحي والمواقف الشجاعة.

وفيما الزلم يرتضون العبودية وطأطأة الرؤوس ومسح الجباه على أعتاب الزعامات والنافذين وأصحاب الثروات والنفوذ، فإن الرجال جباههم عالية ورؤوسهم لا تعرف إلا الشموخ والإباء، وهم يمتشقون سيوف الهوية والقضية والكرامات ويدركون أنهم خلقوا أحراراً، وأحراراً سيبقون حتى الرمق الأخير. وترى أين أنت اليوم وفي أي موقع؟ أفي موقع الزلم، أم في موقع الرجال!!!

ومع القديس بولس نختم: quot;وأَمَّا وقَد أُعَطِينا تِلكَ الخِدمَةَ رَحمَةً، فلا تَفْتُرُ هِمَّتُنا، بل نَرُفضُ الأَساليبَ الخَفِيَّةَ الشَّائنة، فلا نَسلُكُ طُرُقَ المَكرِ ولا نُزَوِّرُ كَلِمَةَ الله، بل نُظهِرُ الحَقَّ فنُوَصِّي بِأَنفُسِنا لدى كُلِّ ضَميرٍ إِنسانِيٍّ أَمامَ الله. (رسالة القدّيس بولس الثانية إلى أهل قورنتس.6-1:4(

29 أيلول 2006

عنوان الكاتب الألكتروني
[email protected]