انقذوا القانون والعدالة من الاحتضار في ربوع العراق
في هذا الزمن من الاحتلال وهذه الفترة بالذات يجد الشعب العراقي نفسه أمام أصعب مرحلة من مراحل حياته وهو يراقب احتضار القانون وسحقه بالاقدام وبساطيل المحتل وأفراد بعض الميليشيات بشكل يومي لا يبشر بخير لقيام العدالة وتوزيع الحق شعباً أو أفراداً، واذا وصلنا الى نقطة التلاشي من احترام العدالة لابد أن نبدأ بفترة فوضى قانونية وعدم استقرار وصراع بين الفئات والطبقات تؤدي حتماً الى حرب أهلية.
إن المنصف يعلم أن العراق وحضارته كشعب وسلطة له ماضي جيد في ممارسة صياغة القانون وتطبيقه بعدالة مارستها المحاكم العراقية بكل جدارة وكل كفاءة اذا نشأت المحاكم الأولى بعد الحرب الثانية وتبوأ الملك فيصل الأول عرش العراق بعد الثورة العربية في 9 نيسان ومن اليوم الأول لجلوس الملك فيصل الأولعلى عرش العراق، أخذ يخطط في بناء هيكل مجتمع مدني يستطيع به أن يطلب من المحتلين الانجليز الرحيل ويستطيع أن يطالب المجتمع الدولي للإنتماء الى عصبة الأمم، وقد نجح مؤسس وباني العراق في خطواته تلك نجاحاً يذكره التاريخ بكل احترام.
بدأت المحاكم العراقية في التواجد والظهور على مسرح العدالة وبدأ تشكيل المحاكم يوم كان العراق لا يعرف للطائفية معنى ولا للمحاصصة مغزى، فقد عُيّن فرنسيس الشماس المسيحي لحاكمية النجف، وأعقبه الوالد عيسى طه، وكانت مدة بقائه 4 سنوات، وامتدت حتى بعد 1931 في فترتها رأيت نور الحياة. كان الوالد وهو سنّي المذهب ليس لديه أي تعصب اتجاه أي مذهب، بل كان يواكب على زيارة الروضة الحيدرية وتقبله أناس النجف تقبلاً بقت ذكراه الحميدة الى سنين طويلة بعد نقله، وهذا القاضي وغيره من القضاة المعينين بغض النظر عن مذهبهم أو دينهم، استطاعوا أن يغيروا المجتمع العراقي النجفي البدوي الزراعي الى مجتمع حضاري يتفهم حق الدولة في السيادة وحق القضاء في ايصال حق الناس، وانصاف المظلومين وردع الفاسقين والظالمين والمعتدين على الغير، هكذا بدأ القضاء العراقي ينمو وينمو الى الأحسن، واذا كان القضاء في بدايته لم يستطع أن يجد كوادر قانونية مثقفة لأخذ مركز رئيس محاكم، إلا أن بالوقت والتدرج استطاعت كلية الحقوق، وهي كلية صغيرة كان من أساتذتها توفيق السويدي وسليمان فيضي وغيرهم ممن ساهموا بكل جد وجدارة أن يعطوا للقضاء كادراً واعياً مثقفاً يستطيع ممارسة مهنة الحاكمية وعلى المستوى المطلوب، تقبل الشعب العراقي هذه الممارسة القضائية وكانوا يعرفون أن القاضي لا يحكم باسمه بل يحكم باسم الشعب والملك، وما كانوا يلقون من الولاة العثمانيين الأتراك مثل ما لاقوه من المحاكم الجديدة، وبالحق وعدم انكار الواقع كانت مسيرة القضاء في العراق مسيرة حضارية صحية، جعلت من العراق في مقدمة الدول التي تملك قضاءً قوياً كفوءًا نزيهاً شجاعاً سريع الحزم، وعلى هذه الميزات لم يجرؤ وزير العدلية في عهد الانتداب أن يتقبل طلباً من المندوب السامي بأ يشكل قضاء مختلطاً يحال إليه الجنود البريطانيين اذا ما ارتكبوا جناية أو عملاً مخلاً بالقانون، وأصر وزير العدل على أن للعراق سيادة، وأن للقضاء هيبة، وعليه يجب أن يكون مستقلاً استقلالاً كاملاً، هذا الاستقلال كان يفخر به دعاة الوطنية، وللتاريخ يجب أن نروي الحادثة التالية:
في الثلاثينات كان مستر جون رئيس مهندسي الري في الحلة وفي أثناء حملته التفتيشية أهان أحد عمال كري الأنهار، ووجه إليه صفعة على الوجه فما كان من هذا العراقي إلا أنه ضربه بالفأس على رأسه، وأصابت الضربة منه مقتلاً، فاتخذت السلطات الادارية والشرطة اجراءات توقيف الفاعل واحالته الى محكمة الجزاء الكبرى، وهي مشكّلة من قاضي كردي (معروف جاووك) وقاضي شيعي (حسين كمال الدين) ووالدي رئيساً وجميعهم يعتبرون من الحكام الذين لهم ماضٍ جيد وكفاءة عالية، ومواقف وطنية ساهم في تنظيمها السياسي العراقي الديمقراطي جعفر أبو التمن، إذ كان هؤلاء باختلاف مذاهبهم من موالي هذه الشخصية الوطنية، وأثناء المرافعة اقتنعت هيئة القضاء ورئاستها بأن فعل المتهم لا يمكن معه تطبيق المادة 214 من قانون العقوبات البغدادي المطبق في ذلك الوقت، ولا حتى المادة 213 من نفس القانون، بل الأكثر ملائمة هي المادة 212 التي تعامل القتل القصد وبدون ترصد وسبق اصرار، إذ ان الحادثة وقعت نتيجة استفزاز المهندس الانجليزي للعامل المتهم، فرسمت المحكمة هذا الاتجاه لها في المرافعات، وأخذت في استماع الشهود وتقارير الشرطة، ودققت في اجراءات حاكمية التحقيق، وفي أثناء ذلك جاء كتاب سري للغاية من وزير العدلية وكان آنئذٍ المرحوم جمال بابان يعبر عن رأيه أن من الأحسن الحكم باعدام المتهم ختى تخفف من زعل الانجليز، الا أن المحكمة استمرت في اجراءاتها دون أن تعلن أو تنوه أو تلمح إلى فحوى الكتاب، وللوزير عيون في المحكمة ورجال ينقلون ما يجري أثناء المرافعة المهمة والمثيرة في لواء الحلة، اذ كان يتجمع أكثر من 500 شخص يواكبون سيرها، وعينت المحكمة يوماً للقرار، وكان القرار متفق عليه وبالاجماع وقبل إعلانه أتى رسولٌ من الوزارة يحمل أمر حلّ المحكمة وتنحية يدها عن الاستمرار في هذه الدعوة، فلم يهتم رئيسها بهذا الأمر الرسمي، بل أعلن القرار وفق المادة 212 واحتوى هذا القرار على عقوبة سجن متها 12 سنة بدلاً من الاعدام المطلوب، مما أدى الى سحب يد القضاة الثلاثة واستدعائهم الى بغداد لاجراء التحقيق لأجل الفصل، وللتاريخ أيضاً ان من أنقذ مصير ومستقبل هؤلاء القضاة هو المستشار البريطاني لوزارة العدلية، اذ ابدى رأياً بأن لا علاقة بين العدل والسياسة وأن المجنى عليه له حصة في الخطأ ومساهمة في سبب الجريمة، هذا هو القضاء العراقي وهذا ما يجب أن يكون عليه أبداً، لا كما نلاحظه في الوقت الحاضر نرى أن الاحتلال يفصل مئات القضاة في يوم واحد، ونرى الاحتلال يصرّ أن لا حرمة ولا سيادة للقضاء العراقي، وليس هناك أي مسؤولية لأي جندي يرتكب القتل أو الاغتصاب أو مخالفة القانون وفق القوانين العراقية، بل ان مسؤولية محاكمتهم تعود الى المحاكم الأمريكية، أهناك استهتار بالقيم والعدالة أكثر من هذا.
إن المتتبع للحالة التي يمر بها العراق من حيث مرغلة العدالة ودوسها بالاقدام، يجد أن هذه العدالة تصرخ بملء فمها يالقسوة الانسان على الانسان ويالقسوة المحتل على البلد المحتل، وما أفضع جرائم الجندي الأمريكي في حق أبناء هذا الشعب المسكين المغلوب على أمره.
ما العمل ونحن في هذه الحالة ؟ أنترك القانون يحتضر في بلادنا ؟ هل ندع العدالة تعتبر في أرض العدالة وأرض الأنبياء ومهد الحضارة وماذا نستطيع أن نعمله وماذا يستطيع هذا الشعب أن يقدم أكثر مما قدم من شهداء خلال هذه الفترة التي تجاوزت ثلاث سنين، والاحتلال مصرّ بصلافة على انكار حق هذا الشعب وإنكار حقه في العيش الكريم وتمتعه بعدالة وسيادة القانون.
إن هذا يتطلب وقوف الناس.. كل الناس صفاً واحداً في تصعيد المقاومة السليمة من أجل هذه العدالة والنداء لاعلان الاحزاب في المحاكم العراقية ودوائر التحقيق، وأي دائرة تتسم وتتعلق أعمالها بصياغة القانون أو تطبيقه. واذا لم ننجح في هذه الخطوة فعلينا أن نعلن الاعتصام بعد مظاهرات صاخبة وحاشدة تجعل الاحتلال يفهم أن هذا الشعب لا يستطيع أن يتنازل عن حقه في العدالة وعن حاجته لقضاء عادل قوي، إن الشعوب في العالم لا يمكن قهرها بقوة السلاح وأن قضية الشعوب تبقى متقدة الأهداف متبلورة المغزى، وتبقى شعلة تلهب الضمائر والأفكارز دلوني على أي شعب في العالم بقى في سباته وانحنائه لغزوة من جيش محتل، فهو عاجلاً أو آجلاً سيثور في وجه الطغاة والتاريخ يدلنا أن عمر الطغاة قصير، ولابد للعراق أن ينتصر ولابد للقضاء أن ينتصب ويمارس دوره الطبيعي في وارف الظل والطمأنينية لحياة العراقيين الكريمة.
المستشار خالد عيسى طه
رئيس جمعية محامين بلا حدود
ونائب رئيس نقابة المحامين العراقيين البريطانيين
التعليقات