عندما يكون الحديث في أحد علوم الدين فإن الكاتب لا يخاطب العقل بقدر ما يخاطب القلب ولما يوجه الحديث إلى القلب لابد أن يكون مبنيا ً على الأسس السليمة التي تجعل المتلقي على حضور تام مع ما يذكر به.. ومن التجني على العلم القول أن الآولين لم يتركوا للآخرين شيئا ً لا سيما إذا كان الحديث في علوم القرآن وتفسيره الذي هو في تجدد مستمر مع الحفاظ على الثوابت التي لا يمكن إجتيازها مهما تباعد الزمن بيننا وبين الأوائل مع أخذ الإعتبار في طريقة الخطابة لأن كل عصر له خطابة تناسبه لذلك لما يتكلم المفسر ويبحث الكاتب في كتاب الله العزيز لا يمكن أن يتبادر إلى ذهنه أن الذي هو فيه قد فرغ منه الأوائل علما ً أن القرآن الكريم يحثنا دائما ً على التذكير في كثير من مواضعه.. كقوله تعالى: ( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) ق 45 ( فذكر إن نفعت الذكرى ) الأعلى 9 ( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) الطور 29 ( فذكر إنما أنت مذكر ) الغاشية 21 ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) الذاريات 55....
فإذا أثار الأولون أي مسألة من مسائل القرآن الكريم وتم نقاشها لا يعني أن نرصد الأبواب ونكتفي بما قالوا وأنجزوا فالأخطاء إذا لم تصحح في كل عصر قد يصعب علاجها ولذلك فإن الأجيال اللاحقة حين تعتمد كليا ً على ما ذكر السلف دون تعديل وتنقيح فإن الأشواك تحيط في طريقهم ويصعب إزالتها بعد فوات الأوان ونحن حين نفتح موضوعا ً للحوار والنقاش لا يعني هذا إننا قد فتحنا بابا ً للخلاف مع الآخر بل على العكس من ذلك نجد هذا الحوار وإن شئت قل الجدال نجد أصحابه أضافوا علما ً جديدا ً إلى علمهم لأن النقاش والإختلاف يعتبر أحد الركائز الأساسية لإستمرار الحياة بل جعله الله تعالى من أسباب وجود النشأة والخلق لذلك قال جل شأنه: ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين 0 إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) هود 118 - 119.. من بعد هذه المقدمة أقول لا زلنا نناقش ونصحح ونعالج أخطاء التفسير التي أبتليت بها الأمة منذ نزول القرآن الكريم إلى يومنا هذا.. ولو أن الإنسان المتصدي للخوض في تفسير كتاب الله يجعل الحق نصب عينيه ويكون علمه خالصا ً لله تعالى دون إنجراره وراء الأهواء الشخصية أو المذهبية بتعبير آخر لو تجرد عن هذه التبعات لخرجنا بتفسير يكون محل قبول لدى الجميع.. وكما وعدتكم أن يكون هذا المقال خاصا ً بإخطاء الشيعة [ أقصد الغلاة منهم ] وأول هذه الأخطاء التي أريد أن أشير إليها هو ما يسمى بالتفسير الرمزي الذي لا يستند إلى دليل يقبله العقل ولا حجة منقولة بطرق معتبرة.. وهذا يعد من الخطأ الذي ما أنزل الله به من سلطان ومثال على ذلك ما تناقله المفسرون في قوله تعالى ( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح..... الآية ) النور 35...
ومن هؤلاء الطبرسي الذي نقل التفسير عن الإرث الشيعي ثم إرتضاه في تفسيره رغم ما يعرف عنه بالإعتدال [ رحمه الله ] فهو عند تفسيره لآية النور يقول: ما روي عن الرضا ( ع ) قال نحن المشكاة فيها المصباح محمد ( ص ) يهدي الله لولايتنا من أحب ثم نقل من كتاب التوحيد لأبي جعفر بن بابويه بإسناد عن عيسى بن راشد عن أبي جعفر الباقر ( ع ) في قوله ( كمشكاة فيها مصباح ) قال نور العلم في صدر النبي ( ص ) هو المصباح ( في زجاجة ) الزجاجة صدر علي.. أي صار علم النبي إلى صدر علي ( يوقد من شجرة مباركة ) نور العلم ( لا شرقية ولا غربية ) لا يهودية ولا نصرانية ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) قال الطبرسي هنا يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل ( نور على نور ) أي إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في أثر إمام من آل محمد ( ص ) وذلك من النبي آدم إلى أن تقوم الساعة فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله خلفاء في أرضه وحججه على خلقه لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم... إلى أن قال... تحقيق هذه الجملة يقتضي أن الشجرة المباركة المذكورة في الآية هي دوحة التقى والرضوان وعترة الهدى والإيمان شجرة أصلها النبوة وفرعها الإمامة وأغصانها التنزيل وأوراقها التأويل وخدمها جبريل وميكائيل.. إلى أن قال وقيل هي بيوت الأنبياء وروي ذلك مرفوعا ً أنه سئل النبي ( ص ) لما قرأ الآية أي البيوت هذه فقال بيوت الأنبياء فقام أبو بكر فقال يارسول الله هذا البيت منها يعني علي وفاطمة قال نعم ومن أفاضلها ويعضد هذا القول قوله ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) الأحزاب 33.... إنتهى
ثم أورد روايات أخرى مشابهة لما ذكرت.. وقد نقل السيد الطباطبائي في الميزان بعض الروايات المشابهة لما قال الطبرسي ومنها: رواية الكليني في روضة الكافي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر ( ع ) وفيها أن المشكاة قلب محمد ( ص ) والمصباح النور الذي فيه العلم والزجاجة علي أو قلبه والشجرة المباركة الزيتونة التي لا شرقية ولا غربية إبراهيم ( ع ) ما كان يهوديا ً ولا نصرانياً وقوله ( يكاد زيتها يضيء )... الخ.. يكاد أولادهم يتكلموا بالنبوة وإن لم ينزل عليهم ملك.. إنتهى. ونرى الطباطبائي ينقل هذه الروايات في تفسيره دون أن يناقشها مكتفيا ً بقوله.. هي من التطبيق دون التفسير وهذه هي الطريقة التي يلجأ إليها في مواقف كهذه.. ونحن ليس بصدد أن نناقش الروايات جميعها لأن هذا يحتاج إلى مقالات كثيرة ولكن نأخذ فقط ما طرح في أحدها من أن الأئمة ( ع ) يصدر منهم الجواب للسائل قبل أن يسأل وهذا يعتبر من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ( سبحانه وتعالى ).. والذي نفاه عن جميع خلقه من الإنس والجن والملائكة وغيرهم فعندما كان الإعتقاد السائد أن الجن يعلمون الغيب قال تعالى في معرض كلامه عن موت سليمان.. ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) سبأ 14..
وهذا يعني أن الجن لو كانوا يمتلكون علم الغيب لما خفي عليهم موت سليمان حتى علموا ذلك بواسطة الأرضة التي أكلت العصا التي كان يتكأ عليها... وأيضا ً نفى تعالى علم الغيب عن الملائكة بقوله على لسانهم ( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ) البقرة 32.. وكذلك قوله ( ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) البقرة 33.. وقد نفى تعالى علم الغيب عن الجميع بقوله ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ) الجن 26.. واستثنى الرسل في مواقف تخص الرسالة فقال ( إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ) الجن 27.. بمعنى إنه تعالى يظهر رسله على بعض الغيب الذي يكون في مجال عملهم في نقل الرسالة فقط.. والآيات التي تنفي علم الغيب عن الجميع كثيرة ولا يمكن حصرها في هذا المقال ومنها.. ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو... الآية ) الأنعام 59.. وقوله ( ولله غيب السموات والأرض ) النحل 77.. وكذلك قوله ( قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ) النمل 65.. فهذا دليل واحد على أن الرواية التي ذكرت من قبل الطبرسي والطباطبائي لا تصلح ولا يعتد بها.... ومن الأخطاء التي وردت في كتب تفسير الشيعة أيضا ً في قوله تعالى: ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) النمل 82..
للأسف هنا يفسرون الدابة بأنها الإمام علي ( عليه السلام ).. فقد قال القمي في تفسيره عن أبي عبد الله ( ع ) قال إنتهى رسول الله ( ص ) إلى أمير المؤمنين ( ع ) وهو نائم في المسجد وقد جمع رملا ً ووضع رأسه عليه فحركه برجله ثم قال قم يا دابة الأرض.. فقال رجل من أصحابه يارسول الله أيسمي بعضنا بعضا ً بهذا الإسم؟.. فقال لا والله ما هو إلا له خاصة وهو الدابة الذي ذكره الله في كتابه وذكر الآية ثم قال يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم تسم به أعدائك..... الرواية.. إنتهى.. وهذه الرواية وردت بطرق كثيرة وإذا أردنا مناقشتها نجدها باطلة الحجة ولا يقبلها العقل السليم ولا من أخلاق النبي ( ص ) أن يحرك علي ( ع ) برجله ولا علي ( ع ) من النوع الذي يحرك بالأرجل للنهوض من النوم.. صحيح إن لفظ الدابة يطلق على الإنسان لكن للقرآن قواعد في تعبيره للألفاظ التي يحددها لمسمياتها ولا يمكن العدول عن هذه القواعد.. وعندما يأتي بالمشترك اللفظي الخارج عن القاعدة القرآنية فلابد أن يأتي معه بقرينة صارفة تميزه ولما كان لفظ الدابة لا يطلق في القرآن إلا على الحيوان المتعارف عليه فلا يمكن أن ينسبه تعالى للإنسان دون قرينة صارفة لأن ذلك مخالف لقواعد القرآن وقد فرق تعالى بين الدابة والأنسان بقوله.. ( وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ) العنكبوت 60..
وقوله ( وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون ) الجاثية 4.. فإن قيل: ماذا يعني إذا ً بقوله.. ( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ) النحل 61..؟.. أقول: لو أراد الله تعالى أن يهلك الإنسان بسبب ظلمه فإن الدواب تهلك لهلاكه وذلك لأن كل شيء خلق من أجل الإنسان كما قال تعالى: ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ً ) البقرة 29..
إذا ً حين هلاك الإنسان ينتفي السبب الذي من أجله وجدت الكائنات الأخرى التي على الأرض وهذا نظير قوله ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) الروم 41.. والمراد بالفساد هو تعطيل القانون المحيط في البر والبحر مما يسبب هلاك كل شيء وعند رجوع الإنسان إلى الطريق الصحيح فإن ذلك القانون يأخذ مجراه الذي وضع له وعندها تفتح البركات من السماء والأرض كما قال تعالى.. ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض الأعراف 96...... سألتقيكم في تفسير سورة [ مريم ] في مطلع السنة الجديدة ثم نعود إلى [ أخطاء في كتب التفسير ]... إذا ً ترقبوا: مريم في المكان الشرقي... والله الموفق.
عبدالله بدر إسكندر المالكي




التعليقات