الأحداث الساخنة في الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص في العراق ولبنان وفلسطين، باتت تستحوذ على اهتمام طبقات واسعة من الناس في البلدان العربية جميعاً، وصار ( الخبر) محور المناقشات الساخنة في البيت، والباص والتاكسي، والمدرسة، والجامعة، وأماكن العبادة، وأماكن العمل، وكذلك عندما تصطدم كتفك بأكتاف أخرى تتجادل في الشارع حول مدى مصداقية ( خبر) معين، والجهة الإعلامية الأكثر لباقة في حبك خبر واحد، أو باقة من الأخبار الطازجة.


طبعاً، الناس يستندون في الغالب إلى مزاجهم وعاطفتهم في التفسير، وأحياناً إلى نيات مسبقة، أو إلى موقف سياسيّ قَبْلي يؤثر في رؤيتهم وتفسيرهم الأحداث العربية. بيد أنّ الشيء المهم، هو أنّ الاختلاف في التفسير راجع إلى ( مرجعية شخصية) مرةً، وإلى ( مرجعية عقلانية) تفتش عن المهنية في طرح الخبر مرة أخرى. تلك المهنية التي تساهم في تحرير المجتمع العربي من القالب الثقافي التقليدي والمتزمت واللاعقلاني الذي وُضِعوا فيه عبر قرون، إذ نحن لا نفكر أو نجتهد إلا عبر واسطة.


ومن المؤسف أن الإعلام العربي كرّس ما أسميه: التفكير بالواسطة. ويفصح لنا هذا، عن انشغال الناس بمسألة المرجعية السياسية والفكرية للإعلام العربي، وموقعها في نقل الخبر، وتداوله، ومن ثم الحصول على نسبة من المصداقية، إذ أصبحنا لا نستغرب من استماعنا إلى تفسير يربط خساراتنا وخيبات أملنا وتخلفنا بإسرائيل وبأمريكا وبكل دولة نختلف معها، من دون أن يقوم الإعلام العربي بتربية الحساسية النقدية للنفس والقائمة على رؤية عقلانية مستقلة في تقييم الفعل ونتائجه. ولذلك هنالك قاسم مشترك بين الإعلام الخليجي مثلاً، والإعلام في مصر، وإعلام الأردن، وإعلام سورية، وإعلام لبنان، وأعلام فلسطين، وإعلام العراق، وإعلام شمال أفريقيا ndash; تونس والمغرب والجزائر- وإعلام ليبيا. ويستطيع القارئ أو المشاهد أو المستمع أن يلحظ كيف يتضامن هذا الإعلام مع مرجعية سياسية وفكرية قبل أن يعبّر عن منظور إعلامي مستقل بالمعنى الدقيق لشرف كلمة: مستقل. ومع ذلك، ثمة إعلام يتحرك إلى حدّ ما خارج مفهوم التضامن الفكري أو السياسي، إذ يمنح كتابه فرصة الانفلات عن تلك المرجعية ولاسيما في صحف الحياة والشرق الأوسط والنهار والسفير وموقع إيلاف وقناة العربية والجزيرة و LBC وفي بعض القنوات والصحف والمواقع على نحو جزئي.


ونظراً لأهمية هذا الانشغال ndash; أعني الانشغال بمرجعية الخبر- في البنية الذهنية والثقافية للشارع العربي الذي يعدّ واجهة المجتمع العربي، فإنّ كثيراً من الوكالات والمؤسسات الإعلامية، أخذت تعمل بجدّ على تطوير وسائل نقل الخبر، وأنفقت أموالاً طائلة، لكي يبدو في موضع مقبول لدى عامة الناس. حتى أنّ بعض هذه الوكالات والمؤسسات، صارت تعمد إلى بعض وسائل السينما ومؤثراتها، وبعض الخدع المعينة، لتحقيق نجاح تصبو إليه جميعاً، وهو حيازة أكبر قدر ممكن من الناس الذين سيقولون في النهاية: إنه الخبر اليقين.


ومن اللافت أن الإعلام العربي المستقل نوعاً ما- وأعني هنا الاستقلال الفكري والسياسي لا الاستقلال عن منظور الحكومات وتمويلها-، يسعى إلى تأسيس أو إشاعة نمط من الثقافة الإعلامية في الشارع العربي، تجعله المرجع الأول في الوصول إلى الخبر وصناعته وتوزيعه وتضمينه وجهة النظر الخاصة التي تحاول أن تجعل الخبر هو: الخبر اليقين.


قبل التسعينيات، كانت تلك ( اليقينية) لا تفلت من قبضة ( الإعلام الكولنيالي) الانكليزي والأمريكي والفرنسي على وجه الخصوص، ويشير إدوارد سعيد إلى أنّ ( عبارات من مثل: قالت لندن هذا الصباح، هي لازمات مألوفة في الشرق الأوسط، تستخدم دائماً بافتراض أنّ لندن تقول الحقيقة). وهذه الفكرة، لازالت تحظى في الشارع العربي بمزيد من القبول، لأنّ هذا الشارع الذي أجبر على قبول الرأي الواحد، يتفاعل كثيراً مع ( الاختلاف) في الرأي الذي تحرص إذاعة الـ BBC على أنْ تقدّمه لمستمعيها، ويجد هذا المستمع أن مصداقية الـ BBC تنبع من ذلك العرض لوجهتي النظر المختلفتين.


ولكن بعد التسعينيات، أخذت المركزية الأسطورية لهذه الإذاعة، تتقوّض شيئاً فشيئاً لصالح الثورة الجديدة في الإعلام، التي تمثّلت بظهور عدد لا يحصى من الإذاعات، والفضائيات، وشبكات الأخبار والمعلومات في الانترنت. ولأول مرة يفلت من مركزية هذه الإذاعة العتيدة، سبق صحفي في نقل أخبار حزّ رؤوس المختطَفين على أيدى متطرفين إسلاميين، فقد صار لهذه الجماعات شبكاتها الخاصة، أو الموالية لها، التي تنقل الخبر أولاً بأول. وهذه الشبكات الإسلامية، كما يعلم القارئ الكريم، لا تتوقف عن مهاجمة الإعلام العربي، الرسمي وغير الرسمي معاً، واتهامه بأنه: يرقص في سرادق العزاء، كما جاء على لسان أحد كتّاب ( الشبكة الإسلامية).


والحقّ، أنّ هذه الشبكات لا تتوقف أيضاً، عن مهاجمة الثقافة العربية برمتها، لأنها بحسب زعمها ثقافة سائرة في ركاب العلمانية، أو واقعة في أسر المفاهيم الغربية المضلِّلة، كمفاهيم: الحداثة ومابعد الحداثة، البنيوية وما بعد البنيوية، التأويلية وما بعد التأويلية، التفكيكية وما بعد التفكيكية، الكولنيالية وما بعد الكولنيالية، وإلى ما هنالك من مفاهيم متعارضة وذات أصول غربية. وهي من أشدّ المفاهيم احتقاراً لدى عموم الإسلاميين الأصوليين، ولعلّ بعضها كمفهومي الحداثة والعلمانية، من أكثر المفاهيم التي تثير حفيظة المفكر الإسلامي المعاصر، الذي يعتقد أنها موجهة أساساً إلى تدمير البنية الفكرية والعقائدية للدين الإسلامي، وموجهة كذلك لتخريب المجتمع العربي وسلخه عن هويته الإسلامية.


إنّ الإعلام العربي عموماً هو جزء من تركيبة النظام السياسيّ العربي، ولا يتمتع باستقلالية كما في البلدان الغربية التي تقوم على استقلال عمل المؤسسات الإعلامية. ولذلك فإنّ ما تشدد عليه الاجتماعات الدورية لوزراء الإعلام العرب في كلّ مرة يجتمعون فيها، هو تحقيق ذلك الحلم المستحيل بتوحيد صوت الإعلام العربي، وجعل السلطة رقيباً صارماً على صاعة الخبر. وقد عبّر مستشار وزير الإعلام السوري مأمون البني عن رغبته في تحقق هذه الوحدة، فقال خلال اجتماع اتحاد الإذاعات العربية: نبذل جهوداً مضنية حتى يتحقق حلم وجود إعلام عربي موحد، مشيراً الى أن الأحداث السياسية تفرض ضرورة توحيد كلمة الإعلام العربي.


ويبدو أنّ هذا هو السبب الجوهري في نسف الثقة بمرجعية عربية للـ ( الخبر) طيلة السنوات السابقة. فالثقة المهزوزة بشرعية النظام العربي، انتقلت إلى الريبة في شرعية ( الخبر العربي). وهذا ( الخبر الضعيف)، إذا جاز لنا أن نستعير هذا المصطلح من رجال ( علم الحديث)، لا يرقى بكل تأكيد إلى الخبر المرفوع مباشرة إلى إحدى الوكالات الأجنبية. ويبدو أنّ الدولة التي وضعت يد المِلْكية على الإعلام، قد حولتها من مؤسسة تندمج بالنظام العالمي للإعلام، إلى مؤسسة محلية، تعنى بالوقائع الداخلية، وتسعى إلى تعزيز سلطة النظام السياسيّ، وكان ذلك سبباً في عدم مضاهاة الإعلام الأجنبي، الذي تميّز بملاحقة الأحداث أينما وقعت. ومن ناحية ثانية، كان اعتماد المؤسسات الإعلامية في البلدان العربية، على ( مرجعية غربية) للخبر؛ صياغته، وتحليله، وخلفيته التاريخية، والنتائج المترتبة عليه، قد زعزع الثقة بقدرة الإعلام العربي على تقديم صورة متجانسة لما يجري في العالم من وقائع، لأنّ الناقل الأصلي للخبر بالمشاهدة العينية، يختلف عن الناقل الثانوي الذي نقل بالواسطة. وهكذا صار الوصول إلى ( مصدر الخبر)، أحد الخصائص الكبرى التي تقوي القيمة النوعية للمرجعية، وتميّز مؤسسة عن مؤسسة أخرى. بيد أنّ ( احتكار المرجعية)، لم يدم طويلاً بعد عولمة الإعلام، وتوسع شبكات المعلومات، وتنوع وسائل الاتصال عبر الأقمار الاصطناعية، فحرص عدد كبير من مؤسسات الإعلام على الوصول إلى مراكز القرار السياسي، والاقتصادي، والعلمي، والثقافي، والرياضي، وكذلك الوصول إلى مكان الأحداث، وتغطية الوقائع بالصوت والصورة، وشهود العيان.

ناظم عودة

[email protected]