كانت المآسي الإنسانية الناتجة عن ممارسة الحصار وتجويع المجتمعات المدنية بهدف كسر إرادتها في العصور المظلمة من تاريخ البشرية هي إحدى الممارسات البغيضة التي وصمت ذلك التاريخ القديم، والذي جاءت كافة الجهود والقرارات الدولية في العصر الحديث لإدانتها ومنعها. وبرغم استمرار وقوع بعض المجاعات في بعض أركان العالم اليوم، نتيجة لظروف مناخية أو كوارث طبيعية بشكل عام، إلاّ أن المحاولات الحالية المتعمدة لتجويع المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة يعطي إسرائيل سابقة إعادة ممارسات تلك العصور المظلمة في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. هذا العقد الذي يشهد اهتماماً عالمياً ويرصد أموالاً طائلة على للتصدي للمجاعات والأخطار الغذائية في عالم اليوم.


تتحمّل إسرائيل المسئولية العملية والأخلاقية لمثل هذه الممارسات التي شجبها العالم بأسره ولكنه عجز عن حلّها والتخفيف منها وإزالة أسبابها حتى انفجرت بهذا الشكل الذي نراه اليوم والذي قد تترتب عليه تطورات ومضاعفات تزيد من الاحتقان الموجود في هذا الجزء من العالم وتنذر بتصعيد المواجهات، ليس بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب بل وبين الفلسطينيين والعرب أنفسهم. جاء هذا الإجراء الأخير، الذي كانت إسرائيل قد مارسته على درجات مختلفة وبأشكال وأزمنة متعددة قبل ذلك، نتيجة لعدم رغبتها في معالجة موضوع السلام مع الفلسطينيين. إن تجويع المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة سوف يزيد ولا يقلل من إطلاق الصواريخ، ويبرر ربما غيرها من وسائل المقاومة الدامية، ويؤكد مقولة عدم جدوى العملية السلمية ومبادرات السلام، ويوسّع دائرة الصراع لتشمل أي طرف في المنطقة وخارجها يريد سبباً أو مبرراً لتدخل يعرّض المنطقة ودولها وشعوبها لدوامة حروب وعدم استقرار.
هل تبحث إسرائيل عمداً عن أسباب ومبررات لخوض حرب جديدة تغيّر فيها معالم المنطقة العربية مرة أخرى تستدرج فيها أطراف قديمة جديدة لدخول حلبة الصراع وتجربة الحل الإسرائيلي القائم تاريخياً على الحسم بالقوة وإشاعة الخراب والفوضى، والذي درجت إسرائيل على اللجوء إليه في أوقات شعورها بعدم التمكّن من تنفيذ أهدافها بأسلوب الفرض والتهديد؟ أم أن إسرائيل سوف تكتفي بما يبدو نجاحاً لها في مصادرة التحديات الميدانية على حدودها الشمالية والجنوبية ومن ثم إعادة تصديرها إلى داخل حدود الدول العربية المجاورة لتصبح مشاكل عربية داخلية تنعم فيها إسرائيل بالنظر والتشفّي؟
لقد نجحت إسرائيل في مصادرة وتصدير تحدي حزب الله لها في الصيف الماضي وأدائه الناجح في وجه عدوانها على لبنان، ومصادرة نتائج تلك الحرب أيضاً، وتحويلها جميعاً إلى الأزمة الداخلية اللبنانية الحالية وما قد ينتج لا سمح الله عنها من احتمالات. وأخطر ما يمكن تصوره الآن من أهداف إسرائيلية فيما يتعلق بالتحدي على جبهتها الجنوبية هو السعي، ربما الذي أصبح أكثر إمكانية للنجاح الآن بسبب الانقسام الفلسطيني، لفرض فك ارتباط كامل وشامل مع قطاع غزة من حيث التخلي عن مسئولياتها المتعلقة بالحياة اليومية وإمدادات الماء والكهرباء والتموين والدواء، وقطع الاتصال نهائياً بين قطاع غزة والضفة الغربية، والتفرد في معالجة موضوع قطاع غزة بمجرد تعامل أمني يفقد أي تحرك سياسي فلسطيني أو عربي أو دولي من مضامينه المتعلقة بمسئولية إسرائيل عن استمرار الحياة في غزة وتلقي هذا العبء على الكاهل العربي، وبالذات المصري، بكل ما يحمله ذلك من أخطار وتعقيدات للعلاقات quot;السلميةquot; المصرية الإسرائيلية بسبب تحوّل عمليات التصدير والاستيراد والتنقل، وما يكتنفه ذلك من إصرار إسرائيلي على المراقبة والتفتيش، من حدود قطاع غزة الشمالية والشرقية مع إسرائيل إلى حدوده الجنوبية مع مصر. إن مثل هذا القرار الإسرائيلي قد يثير، من ناحية أخرى، ضجة واعتراض داخل إسرائيل نفسها بسبب حجم التجارة، والأرباح الخيالية المترتبة عليها، الذي يجنيه التجار هناك من إمداداتهم المتعددة لقطاع غزة.


بعد انقشاع غبار المناظر المأساوية على حدود قطاع غزة الجنوبية، من تدافع المواطنين الفلسطينيين هناك على اجتياز الحواجز الحدودية المنسوفة وشراء وحمل كل ما أمكنهم من مواد غذائية وأدوية ومحروقات ومعدات وقطعان ماشية من أجل تغذية وتدفئة وعلاج أولادهم وعائلاتهم. يبدو أن حكومة حماس في القطاع قد تمكّنت من تحويل هذه المأساة من مجرد عذاب فلسطيني بحت إلى قلق وتأييد عربي ودولي، وتخلّصت بالتالي من كل ما كانت تسببه هذه الأزمة التي خلقتها إسرائيل من صعوبات ومسئوليات داخلية. وتخلصت إسرائيل أيضاً من تداعيات هذه المأساة دون أن تتراجع عن قرارها بتقليص كميات تزويد القطاع بالكهرباء والمحروقات والأدوية، ولا تموينه بشكل يسد جوع مواطنيه. هل تخلّصت إسرائيل من مسئوليتها كدولة محتلة في ضمان إعاشة وتنقل الفلسطينيين في قطاع غزة وألقتها على كاهل مصر؟ هل تم مصادرة وتصدير التحدي الثاني لإسرائيل، في حدودها الجنوبية هذه المرة، وإلقائه في حضن بلد عربي آخر؟ هل فرضت إسرائيل أخيراً، وبعد أكثر من ستين عاماً، وجهة نظرها بأن تقوم الدول العربية برعاية اللاجئين الفلسطينيين وحل مشاكلهم في بلادها؟


ًًوضع الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي شروطيهما لوقف quot;العنفquot; المتبادل بينها، فقد قال السيد خالد مشعل أن حماس مستعدة لوقف إطلاق الصواريخ إذا توقفت إسرائيل عن quot;العدوانquot; على قطاع غزة، وقالت إسرائيل أنها لن تستمر في quot;العدوانquot; على غزة فيما لو توقف إطلاق الصواريخ منها. ولكن الوصول إلى مثل هذا التفاهم لن يوقف العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين والأرض الفلسطينية في الضفة الغربية، الجزء من الأراضي الفلسطينية الذي يشكل الهدف الأساس لتكريس واقع إسرائيلي جديد على الأرض، فهل سوف تعتبر حركة حماس ذلك استمراراً للعدوان الإسرائيلي يستتبع القيام بإطلاق الصواريخ من غزة؟


من جهة أخرى فقد يصعب على حركة حماس ضمان عدم إطلاق الصواريخ من غزة، لأن عدداً من هذه الصواريخ لا يتم إطلاقها من قبل حركة حماس، بل من مقاتلين تابعين لكتائب الأقصى الفتحاوية وسرايا القدس التابعة للجهاد الإسلامي وألوية الناصر صلاح الدين وغيرها من التنظيمات. فهل ستعتبر إسرائيل ذلك القصف مبرراً لعودتها للعدوان على غزة؟


بين إسرائيل من جهة، وحركة حماس من جهة أخرى، يحاول الرئيس إقناع أي من الطرفيين بدور له في هذه الأزمة، ويكتفي في تعبير غاضب بالتصريح بأن ما تقوم به إسرائيل قد يعطّل عملية السلام بشكل نهائي، هذا الاستخلاص الذي كان يشكّل منذ مدة طويلة نقطة الارتكاز الأولى في نظرية حركة حماس حول عدم جدوى الحلول السياسية التفاوضية.

مروان كنفاني
كاتب فلسطيني