لمن لديه وقت فراغ ويتبصر في حال الأمتين العربية والإسلامية على مادرج التلفزيون العربي السوري في التفريق بينهما أو في حال الأمة الإسلامية؛ على ما درج الإخوان السوريين وغيرهم من الإخوان والصحويين ومن لف لفهم؛ في إدماج العرب في أمة الإسلام حتى لو كانوا يهوداً! سيجد أننا نعاني من فقرٍ فادح في النموذج الأخلاقي
فسواء بحثت عنه لدى من يعتنق الإسلام منهجاً، أو لدى من يعتنق الاشتراكية (المرحومة) أو اليسارية أو الليبرالية أو العدمية فلن تجد نموذجاً تقول: هذا هو. أو quot;بس وجدتهاquot;.
فمنذ أمد غير سحيق كان اليسار العربي يناصر الأنظمة العربية (بأطياف تقديمها لنفسها: قومية، يسارية، ملكية...) في بطشها بالتيار الديني وكانت تنظيراته تنص على أن الحرية يجب أن لاتعطى لأولئك الرجعيين.. وحين دالت دولة اليسار وتقدم الإسلاميون أصبح تجاهل العلمانيين واليساريين ومن لف لفهم لبطش أنظمة محسوبة عليهم بإخوانهم المسلمين أمراً غير ذي بال؛ فقد بدأ الإسلاميون البطش بإخوانهم اليساريين أو العلمانيين أو ممن يتبعون ملل فكرية تبعد (كم سنتمتر) عن الدين! قبل أن تقوم لهؤلاء دولة حتى، بل مجرد أن صارت لهم quot;الغلبةquot; فقط! وقد دحرج الثوار الإسلاميون المنتصرون في إيران وقبل بناء دولتهم، رؤوس إخوانهم وحلفائهم من حزب تودة اليساري. وقد كان ومازال الإخوة الإسلاميون يدعون أناء الليل وأطراف النهار أن يحكّمهم الله برقابهم (أي القوميين واليساريين والليبراليين والعلمانيين...) ليجزوها (أي رقابهم) جهاراً نهاراً وليكونوا عبرة للأجيال المقبلة!. وهو ما فعلته الدولة الطالبانية المجيدة قبل أن تصبح فلولاً...
وإذا كان ذلك يمكن نسبته إلى السياسة والثورات والعنف الثوري والإرهاب والمنعطفات الحاسمة والثقافة السياسية وممارستها في فترة من الفترات التاريخية.. فإننا نعجز على المستوى الفردي ونحن نبحث عن نموذج أخلاقي عربي (لنكون ضمن حدود معرفتنا) يتعالي على الوقائع وكذلك على المصالح السياسية، وعلى الانتماء الفكري ويسجل نموذجاً أخلاقياً جدير بالتوقف عنده وجدير بأن يحتل ذاكرتنا وذاكرة الأجيال التي تلينا! بل أن ذلك يبدو لي حتى تاريخياً معدوماً. علماً أنه يشيع في أمة العرب (والإسلام أيضا) قول فولتيرquot;قد اختلف معك في الرأي لكني سأدفع حياتي ثمناً لأن تقول رأيكquot; وتجده مسجلاً في أول صفحات الكتب التي يدونها الكتاب وعلى عربات الباعة الجوالين وسيارات نقل الخضرة والعفش المنزلي..
وإذا كان الإسلاميون لديهم مستندات نصية تمنعهم من التعاطف مع الآخرين بل تدعوهم إلى دحرجة رؤوسهم ليدخلوا جنات تجري من تحتها الأنهار وتحوم حولهم الحواري الأبكار فيها... فما سر غياب الضمير الأخلاقي عند الآخرين، ممن تدعوهم مستنداتهم النصية إلى أن يكونوا أصحاب ضمير حي، وإنساني ويقظ؛ بل ومتورم؟!
إذن من الطبيعي والحال كذلك أن لا نجد نموذجاً عربياً لـ راشيل كوري تلك الأمريكية اليهودية التي دهسها بلدوزر إسرائيلي وهي تقف بوجهه رافضة بناء الجدار العازل الذي أقامته إسرائيل فوق جثتها!
ولن تسعفك الوقائع بنماذج أخرى لشاب مصري رفع quot;لافتةquot; أثناء جلسة المحكمة الإدارية العليا المصرية -التي حكمت بعدم جواز إثبات البهائية كدين في أي مستند صادر من الجهات الرسمية في الدولة- كتب عليها quot;أنا مسلم وعقيدتي تقول ببطلان البهائية كدين لكني أدافع عن حقهم في إثبات ديانتهمquot; لقد كان صوتاً غريباً، وفريداً في الثقافة التعبوية والشعبوية العربية ذات المنشأ الأخلاقي الإسلامي. إذ حين تلاوة الحكم علت صيحات النصر والتكبير والتهليل لنصرة الإسلام وعزّته، ذلك النصر الذي تكرس بحرمان طائفة صغيرة لا حول لها ولاقوة من إثبات دينها في بطاقة أفرادها الشخصية.. إن ما يمثلنا بالعموم هو قول أحد المهللين المكبرين للنصر quot;ده مش مسلم ومش مصري...quot; وكان يقصد الشاب الذي رفع اليافطة. حقاً؛ فذلك الشاب نموذج أخلاقي فريد؛ خارج عن سياقنا الأخلاقي والنفسي بل وحتى المعرفي.
وإذا ما توسعنا في محيطنا القريب وسألنا أسئلة من نوع: لماذا لا يهتم العرب بأحداث الصومال؟ واهتموا بشدة بأحداث أفغانستان؟! لماذا لم نسمع صوتا عربيا واحداً يدين المذابح المهولة والمخجلة في جبين كل إنسان حي، والتي تجري جهارا نهاراً في دارفور؟! هل يكفي لتفسير ذلك القول بعنصرية العرب؟ ربما. لكن ذلك القول إذا كان خيار جيد فهو ليس كافٍ. فإذا اقرينا بأن العنصرية هيالسبب فلما لا تكون العنصرية، عرقية، أو جغرافية هنا. وتبرز الوقائع لتقول أن العنصرية ليست سبب كافٍ للتفسير؛ فقد اهتم العرب (والمسلمين) ووسائل إعلامهم التعبوية ونخبهم الإعلامية بالصومال عندما كانهناك تدخل أمريكي!! لابد من الاعتقاد إذن أن المسألة بالإضافة إلى العنصرية يحكمها ضعف المكون الأخلاقي المتعالي على الوقائع والمصالح لدى الشعوب والنخب العربية على حدٍ سواء!وإذ لا أريد الإطالة؛ أقول أن غياب المنظومة الأخلاقية المتعالية على الوقائع المصالحية هو سبب إضافي لشرح المسألة؛ فالعرب لايهتمون بهوية القتيل ولا بهويةالضحايا فهم لا يعني لهم شيئا حجم أو عدد أو هوية الضحية؛ فالمهم لديهم هو هوية القاتل؛ فبحسبهوية القاتل يتحدد موقف العرب (الشعوب) من الضحية!! وعليه من الطبيعي أن لا تحظى المذابح العربية الداخلية التي تقوم بها الأنظمة ولا الحروب الأهلية في منطقتنا ولا الحروب الإقليمية، ولا التطهير العرقي وفق السياق السياسي (كما حدث للأكراد، وكما يحدث الآن في دارفور) بأي اهتمام؛ وهنا ليس لأن القاتل من هويتنا وبالتالي فالاحتجاج في حال وجوده سيكون ذا مكون أخلاقي متعالي على الحسابات السياسية؛ بل لأن القاتل ليس من أعدائنا، مع كون الضحية quot;نحنquot; في الحالتين. وهذا يدفع العرب شعوباً ونخباً وقبائل لأن تجد أن لا مبرر للاحتجاج! بل سنلحظ نسبة عالية من الشعوب العربية تؤيد المذابح الداخلية بحجة خارجية؛ أي انها تقبل مبرراتالأنظمة لقتل شعوبها حين الاقتناع بوصف الأنظمة لتحركٍ شعبي أنه طابوراً خامساً، عميلاً. وبالطبع لأمريكا وربيبتها إسرائيل على ما كانت تصدح الأنظمة الثورية. وللغرب الكافر الذي يريد أن يسلبنا هويتنا وديننا وثقافتنا على ما تصدح الإسلاموية الراهنة بكل اطافيها سواء كان ذلك مضمراً أو علنياً
إذن أمرالاهتمام من عدمه ناتج عن سبب رئيس هو ما تتيحه هوية القاتل من التجييش والبروباغندا وليس مهم عدد أو هوية الضحايا، أو من يكونوا.! إذ لو كان المعيار الضحية لكان هناك احتجاج على القتل من أي مصدر لأن الضحية هي دائماً quot;نحنquot;
وبعيداً عن القتل لا يعير العرب شعوباً ونخباً أي اهتمام للحق الإنساني سواء كان فردياً أو جماعياً حتى لو كان الإنسان هو quot;نحنquot;. فلم تحظ قضية مثل الـ quot;بدونquot; على اختلاف تسمياتها في الدول العربية بأي اهتمام quot;إنسانيquot; منا جميعاً. هذه القضية التي ليست شائكة ولا معقدة وواضحة مثل عين الشمس وخلاصتها: من حق الفرد الذي ولد، أو عاش في بلدٍ جلّ عمره أن يكون له أوراق ثبوتية تنسبه لكيانٍ ما، الذي شكله المعاصر الدولة. سواء قدم هذا quot;الكائنquot; من دول الجوار (على ما تبرر الأنظمة في رفضها هذا الحق) أو هبط من المريخ أو نبق من باطن الأرض أو كان زرافة وتحول إلى إنسان في هذه البلاد (أيّاً تكن البلاد التي يقطنها هذا الـ بدون). وقضية البدون الواضحة هذه التهمت الدكتور أحمد الربعي عندما كان وزيراً للتربية في الكويت وصدر في عهد وزارته قرار إخراج أبناء البدون من المدارس الحكومية وهو صاحب الفكر الليبرالي المتنور والذي يحظى باحترام واسع في العالم العربي!. في هذا السياق تبرز فوزية الصباح المتبنية لقضية البدون في الكويت وهي قضية خاسرة على المستوى المحلي في الكويت إعلاميا وانتخابياً (وفق السياقات التي مرت) لذلك تجد أن نواب البرلمان الكويتي والذين هم من quot;طينتناquot; ( أي يعانون ضعفاً في الحس الإنساني والأخلاقي المطلق؛ المتجرد عن المصالح) لايقربون هذه القضية إلا في إطار quot;العرقلةquot; لأن في العرقلة مصلحة سياسية. وتنتفي العنصرية هنا لأن البدون والبرلمانيون ليسوا فقط من ملّة واحدة بل قد يكونوا من نفس الأرومة القبلية! وهذه القضية من القضايا النادرة التي يلتف حولها كل أطياف البرلمان الكويتي.. إسلاميون وليبراليون ووطنيون و.. عدميون، لعرقلة حق انساني واضح. من هنا كانت فوزية الصباح (وهي من الأسرة الحاكمة في الكويت ومحامية وكاتبة) مفاجأة حقيقية لي شخصياً لأنها تتبنى قضية إنسانية خاسرة. ولا نفع شخصي منها، إضافة لكونها في الغالب تعمل بعيدة عن الإعلام. ولأكتشف لاحقاً وأنا ابحث في تدقيق معلوماتي أن هناك سيدة أخرى من آل الصباح سبقتها إلى تبني هذه القضية ويسميها الكويتيون البدون quot;أم البدونquot; هي أوراد جابر الصباح.
إنهما، مع ذلك الشاب المصري، مثال أخلاقي نادر في الأمتين العربية والإسلامية أو الأمة الإسلامية المدموجة قسراً على ما يريد إخواننا المسلمين. يؤكدون لي أن البناء النفسي الأخلاقي هو مسألة فردية بينما غيابه مسألة جماعية!! وليس لنا إلا أن نحيي هؤلاء الثلاثة لأنهم يذكروننا بضعف الحس الإنساني لدينا ويؤسسون لمفهوم quot;المثال الأخلاقيquot; عربياً.
هامش: هذا المقال كتب قبل وفاة الدكتور أحمد الربعي (الذي أحترمه وأحبه) ولا أخفي أني خففت من قسوته على الدكتور الربعي بعد وفاته وفق مقولة quot;اذكروا محاسن موتاكمquot;.وكذلك بعد أن أنهيته كان هناك مقابلة مع فوزية الصباح في جريدة النهار الكويتية فيها شرح واف عن موقف البرلمانيين الكويتيين من قضية البدون وكي لا أطيل أوأعدل ما كتبت يمكنكم قراءة الحوار معها على هذا الرابط:
يرجى ذكر المصدر إيلاف عند إعادة النشر
التعليقات