إنك تريد أن ترى الحقيقة في المرآة، حتى لا تستطيع الإمساك بها و حتى لا تستطيع الإمساك بك... quot; فيلهلم رايشquot;. / خطاب إلى الرجل الصغير /.
تعاني المعرفة المعاصرة من سبعة ثقوب سوداء كما أحصاها quot; إدغار موران quot; في محاضرته بالمغرب ( 1 ). أتفق معه على معاناة المعرفة المعاصرة و لا أكترث بالإحصائية فهي دائما معلقة إلى شرطٍ جغرافي، لكن الجوهر المتعالي في طرح موران هو دعوته الجميلة إلى فكرة الـ quot; تأمل الإنعكاسي quot; الضرورية لقراءة مقدار الخطأ و معرفة مدى الجهل المتغلغل في عمق تصوراتنا إزاء غيرنا و نحونا على السواء.و بالرغم من أن هذه الضرورة للتأمل الإنعكاسي ضرورة ملحة و إسعافية، إلا أنها كفكرة، غائرة ٌ في الوقفة الآتية... لا يمكن تركيز الحياة في حضور رسول الفوضى... الإعلام الضال. فلم يحدث في التاريخ أن كان للجهل شرعية و سلطة راسخة في انتشاره الطحلبي، كالشرعية الجبرية التي أنتجها الإعلام المعاصر في عالمنا الشرقي المترامي العنف، هذا الإعلام المادون زراعي و المابعد تلماتيكي، حيث وفرَّ الحصاد و الريع الطبيعي شروط غير مسبوقة لامتلاك التطور التكنولوجي غير المتوازي مع النمو المهني و المعرفي لهذه السلطة الرابعة غير الراشدة ـ الرشد بمعنى الخروج من القصور الذاتي كما ورد في تحليل quot;كانتquot; للتنوير ( 2 ). إذ تدعو الأبواق الجهنمية لهذه الوسائل المفتقرة إلى ارتباطها العضوي بغاية سلوكية عقلانية، تدعو إلى نشر الأيمان بالإمتثال الجماعي لنبذ الوعي في القول و الفعل الاجتماعيين، و الحوادث كثيرة و متساتلة للبرهان على الفاعلية الهدامة للطيش عندما يمنهج و يدار إعلاميا. غير أننا لن ننسى الإستثناء الفردي ـ الأمل العظيم في داخل الكثير من المؤسسات الإعلامية؛ حيث تعمل قلة واعية على مناهضة سياسات إبقاء الناس في حالتهم الجماهيرية القاصرة و المتحفزة دوما للتحرك وفقا لتوجيهات المؤسسات الإعلامية المحشوة باللغطاء حتى الثمالة.
انزاحت الكتابة عن التأمل و الإمعان في سياق تشكل الشيء، و أحللّت الثرثرة بسطوة حبالها و جحيمها الصوتي محل التأمل الذهني للمارسة الإنسانية، لذلك فإن ما نتتبعه في المقالات العجولة التي تتداول حالنا، هو باختصار الكيفية الذهنية التي تتركب منها نظرة الآخر لشئوننا، إذ لا يمكننا ردع الحشود الهائجة، الغافلة عن واقع اهتياجها، لذلك نحاول أن نفهم الآخر ـ الجار في نظرته ألينا، بتكثيفها و تحديدها ـ إن كانت ممكنة التحديد أساسا، فالقول العمومي لا يمكن تعينه ككيفية ظاهرة ـ لاستخلاص قوله في مقالنا.* غير أن الإفراط في الكلام و الإفراط في الإدعاء يضحي بالحقيقة، و يجعل من إمكانية تنصيب الحقائق أمرا عُسراً. و لهذا نكتفي فقط ـ فقط مصحوبة بالأسف ـ بتحليل مستوى التآكل الذاتي لبعض المقالات التي تكرر في الآونة الأخيرة موضوعة التواجد الإسرائيلي في كردستان العراق، و ستكون قضيتنا ليس محتوى المانشيت الآنف ذكره، و بل و إنما آلية تكراره و الإفراط في تكراره كمحاولة لتثبيت الأرض حتى و إن كانت تدور، فالمتن المرفق لهذا المانشيت لا يتغير لا في طريقة تحريره و لا في الموقف السياسي و الفكري منه، أو بالأحرى، المتغير الوحيد داخل هذه المتوالية العنوانية هو فقط أسماء الصحفيين الذين لا يختلفون إلا في أسمائهم. و بالرغم من تداول هذا المانشيت في صحف عدة، إلا أننا سنعتمد لهذه الدراسة و على سبيل المثال لا الحصر خمس مقالات نشرت بالتزامن في صحيفة quot; عكاظ quot; ( 3 )، كون المقالات الخمس تشكل منظومة منسجمة لنسخ الإدعاء الذي يحددها في ماهيتها المنبسطة تماما في طريقة تحريرها الإستنساخية، كأنها تطالب في تكرارها الأجوف المتزامن و المتساتل لذات العنوان، بدوام الشيء المكرر، و بالتالي امتلاكه كأنه واقع سيخلفه شيء ما. نعم يدوم شيء ما و يترسب في ختامها الكربون الذي سطّر هذه المقالات التي تحاكي فيما بينها الجهل الذي يسيرها، حيث تستند جيمع المقالات على quot; صرح فلان quot; و quot; اعتقد علانquot; دون أن يقوم أي واحد من مجموعة الإنشاد هذه و لو بالإقتراب من الواقع الذي يحاولون استجوابه في غيابه. أليست الصحافة مهنة استقصائية...؟ إذن. لماذا يتأسس قولها على أساس الحجب...!!
المؤلم في أمر هذه المقالات، هو أن إزالت الحقائق مهمة أسهل بكثير من توضيح الوهم البغيض في الإدعاء الذي تعمل المقالات على تكريسه بتكرار تداوله و تعميم التكرار ليغدو ظاهرة، ففي العالم المعاصر ـ و بأسف عميق ـ باتت الظواهر الأعم هي الأصدق، و عندما تغدو التعمية هي السلطة، تفقد المعرفة ارتباطها بهذه السلطة، و هو أمر لا أعتقد بأن صحيفة quot; عكاظ quot; تقبل به، خصوصا أنها كجريدة حسمت نحوها السياسي بمساندة الحرية الإنسانية و مناهضة الطغيان جهرا و تجردا. يبدأ quot;رياض سهيل quot; أحد المشاركين في الإنشاد الجماعي لجوقة quot; الموساد في كردستانquot;، يبدأ مقاله بالآتي: quot; معلومات ضئيلة و معطيات شبه معدومة، لكن وجوده في أرض السواد حقيقة لا يمكن لأحد تجاوزها...quot;، وكما هو ملاحظ في أمر هذه الحقيقة غير الممكن تجاوزها وفقا لتحليل الكاتب، هو مرجعيتها الضئيلة و الشبه معدومة، ففي العقل البدعوي لا تشكل المثاقيل ولا الوجود الصلب أية أفضلية على نقائضها الضئيلة و الشبه معدومة، فالقول في هذه الحالة إنما يكون سائلا و لزجا و هلامة يمكنها أن تكون أي شيء باستثاء ما يفترض منها أن تكونه كواقع تحيل أليه، فالواقع ليس مهما هنا، بل و إنما التخريف عنه و عليه، لذلك يستأنف الكاتب مقاله بـ: quot; كيف لا والبحث في عمل مخابراتي يستلزم أعلى درجات السرية quot; و كأنه هنا يقر بما تفتقر اليه مقالته من بحث ٍ و تمحيص في المعلومة. ثم يضع نقطة ختامية يعقبها فراغ بمساحة سطر ليستأنف بعنوان فرعي يبدأ بـ:quot; يعتمد نشاط الموساد في العراق...إلخ.quot;. لاحظوا ثبات الحكم القطعي في حتمية عبارة quot; يعتمدquot;، و كأنه حسم بالبراهين قوام الواقع الذي يفترض وجوده في الصيغة التي بدأها بمعلومات ضيئلة و حالة شبه معدومة، أهناك إمكانية للربط بين عبارة / يعتمد/ و بين الأساس الضئيل و شبه المعدوم لمعطيات هذا الإعتماد.؟ ما الذي يفهمه الكاتب من الإعتماد ليحرر مقاله بناءا عليه.؟ وفقا للمنطق التحليلي فإن هذا الكاتب لا يغالط بل إنه يخطئ القول و بالتالي فإنه يعاني من تشوش في تركيب المعطيات الذهنية.
إنها عقلية تستحيل معها القيام بعمل استقصائي كالعمل الصحفي،لكنها مع ذلك تشكل أساس التحرير الذي اعتمده كتاب هذه المقالات لنشر جهلهم السراطي. و تجنبا للإلتباس المغرض من قبل بعض القراءات، فإننا نحدد استخدامنا لمعنى العقل السراطي هنا بالإحالة إلى الفاعلية التي استخلصها عبد الله العروي و حددها في تعبير quot; العقل فعّال بطبعه quot; ( 4 ) الذي كان حصيلة دراسته لهذا التعبير في فكري عبده و إبن خلدون، و نحيل من يريد التوسع في ذلك إلى كتاب العروي، اختصارا و التزاما بحدود المقال.
تعمل هذه المقالات وفقا لاختزالية ممنهجة، تعمل على تحجيم صورة الكرد و عزلها عن تاريخها التراجيدي و البطولي و العلمي المشدود إلى ركائز إسلامية، و الأكثر هزلا هو الشح الهائل في المعرفة الدستورية و التاريخانية و السوسيولوجية التي يتناولون بناءا عليها قضية الكرد و وجودهم كشعب غير مختار، فنجد أقلام الجهل تصف الكرد على أنهم إسلاميون و ليسوا كردا و بالتالي عليهم العودة إلى دينهم و التخلي عن كرديتهم و إلا سيحكم عليهم بالردة. او يصفهم آخر بأنهم عرب..!!. نعم كرد عرب و فهم هذا التعبير ليس مهما إطلاقا كونه تعبير خاطئ بالضرورة. و هلم جرا من الأقلام التي تسطر الجهل حول الكرد و تحشرهم في زاوية الاتصال باسرائيل. فتؤلب الرأي العام في العالمين العربي و الإسلامي لمعاقبة الكرد الخطائين الذين تعاقدوا مع الشيطان على تحريرهم من الطغيانات العربية و الإسلامية. سأذهب مع الخطأ إلى أقصاه قبل محاولة محاربته كما علمنا ذلك quot; وايتهيد quot;. فههنا لا يمكن قياس هذا التعاقد الكاذب على تعاقد فاوست غوته مع الشيطان، و ذلك لأن الضحية البشرية في الحالة الكردية غير ممكنة التعيين، وهوية العالم السفلي مجهولة بشخوصه و بمكنوناته، فليس الكرد فاوستا في علاقة اقامها إعلام مدعي. سيقول أحدهم أن التاريخ يشهد على وجود هذه الخطيئة لدى الكرد. نعم، لكن التاريخ شاهد ٌ ايضا على خطايا الجميع والضرورات تقدر بقدرها. لكن ما هي جوهر هذه الخطيئة..؟ إنها الاتصال بعدو العرب و المسلمين. لذلك علينا الوفاء لإخوتنا العرب في قضاياهم كونهم كانوا ـ و التاريخ شاهد ٌ عملاق ـ أوفياء دائما لوأد قضية الكرد. ههنا أتذكر نعوم تشومسكي و هو يستعين بالإنجيل ليُعّرِف النفاق في السياسة، فيقول ما معناه... إنه إلزام الغير بشيء دون إلزام الذات به. أيكفي هذا التعريف للنفاق لتحليل المواقف التي تعمل هذه المقالات على تعميمها بين الناس.؟
كيف وصلت الكتابة لهذا المنزلق المعزول و اختفى الاكتراث بفهم ما يحدث بيننا من جهالة..؟ كيف يمكننا أن نقرظ الوعي مرة أخرى أمام الاجتياح العاصف للكثرة الجاهلة لمساحة الكلام المرئي و المسموع و المقروء..؟ نعم. اعلم بوجود قلة مناصرة للمبدأ الإنساني المجرد من كل عرقية، لكن مشكلتي تكمن في الكثرة التي تعم و تقتل. إننا ننجب في تجربتنا الحياتية كلها طفلا أو إثنين لنتمكن من تعليمهم و تربيتهم، و هم ينجبون بالجملة الأعداد الإجرامية للجهل الذي سيفرض على المدينة صأو وحيد القرن و قسوته.
سامي داوود
[email protected]
[email protected]
* أنوه بأنه لا يمكن تعميم تصور الآخر المجاور إلا بفرزه و تحديده. بمعنى أي آخر نقصده في الآخر المجاور لنا، لذلك لا يمكن إسقاط أو استخلاص مفهوم الآخر المجاور لنا من هذه الدراسة المخصوصة فقط بالآخر المأخوذ باختزال الكرد إلى أوهامه و معتقداته. و في المقابل لا يجوز قياس تصورنا عن ذاتنا في الحالة التي نكون فيها آخرا بالنسبة لجوارنا، لأنه بين الكرد أيضا نزعة اختزالية مضادة، و هناك دائما بين الأضداد الحدية، مماهة في الحدية.
مصادر:
1- إدغار موران. سبع ثقوب سوداء. موقع معابر. على الرابط التالي: http://maaber.50megs.com/issue_september05/epistemology2.htmhttp://
2- أيمانويل كانت. ما هو التنوير. موقع سؤال التنوير. على الرابط التالي http://www.assuaal.com/politic/politic.19.htm
3- هذه روابط المقالات بالتتالي:
ـ http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20080816/Con20080816217152.htm
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20080816/Con20080816217151.htm
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20080818/Con20080818217699.htm
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20080818/Con20080818217700.htm
4- ص ( 359 ). مفهوم العقل. عبد الله العروي. المركز الثقافي العربي. دار البيضاء. المغرب العربي. الطبعة الثالثة. 2001.
التعليقات