كان الملا هاشمي رفسنجاني و لا يزال واحدا من أهم أركان النظام الإيراني منذ أيامه ألأولى قبل ثلاثين حولا، و كانت المعارضة الإيرانية قد فطنت لأهميته القيادية منذ بواكير النظام لذلك كان من أوائل الذين تعرضوا لعمليات الإغتيال و في بيته بالتحديد و قد فشلت جميع المحاولات الهادفة للنيل منه و ظل أحد أهم الأرقام الصعبة في المعادلة القيادية للنظام الإيراني، وتاجر الفستق هذا المعتمر العمامة لعب أخطر و أهم الأدوار في المسيرة السياسية الإيرانية خلال العقود الأخيرة، فهو بإعتباره الإمام السابق لجمعة طهران وممثل الولي الفقيه ( الخميني ) في القيادة العسكرية الإيرانية المشتركة ( الجيش و الحرس الثوري ) و رئيس الجمهورية و القائد العام للقوات المسلحة، فهو قد إستطاع أن يفلت من مصير العديد من الصف الأول من قادة النظام، فهو كان الناجي الأكبر من إنفجار مقر الحزب الجمهوري الإسلامي عام 1981 و الذي أودى بحياة آية الله ( بهشتي )، كما نجا من الإغتيال الذي طال رئيس الجمهورية السابق محمد علي رجائي و رئيس الوزراء الأسبق ( باهنر )!!
ثم صعد صعودا تاريخيا غير مسبوق في هرم السلطة الإيرانية و كان من المقربين جدا لمؤسس النظام آية الله الراحل الخميني الذي أوكل إليه مسألة إدارة شؤون الحرب مع العراق منذ سبتمبر / أيلول 1980 و التي جاء إندلاعها متطابقا بالكامل مع مصلحة النظام، فهو قد تمكن تحت غطاء الحرب من تصفية كل القوى الوطنية الإيرانية المعارضة و أباد تحت ضجيج مدافعها و أزيز طائراتها كل المعارضين و المخالفين، و ثبت قواعد النظام الديني على أسس قمعية متقنة جلبت حصانة ذاتية كبيرة للنظام و أدت لإستمراره طيلة هذه العقود الطويلة والتحولات الدولية التاريخية.
و لعل أهم مسؤوليات الملا رفسنجاني كانت في إدارة الحرب مع العراق و حيث كانت خطبه الأسبوعية تحمل للجماهير أنباء الحرب و التطورات على الجبهات العسكرية إضافة لدوره التاريخي في إقناع الولي الفقيه بضرورة إستمرار الحرب بعد إنسحاب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية في حزيران/ يونيو 1982 !
و إعداد الخطط لنقل المعركة العسكرية للعمق العراقي تمهيدا لإسقاط نظام صدام و إقامة البديل ( الإسلامي )!! و هو المطلب الرئيس و الشرط الإيراني الأساسي لإنهاء الحرب وقتها ؟ و هو كما ترون شرط مستحيل التحقيق وقتذاك لأن موازين القوى الميدانية و الرياح الدولية لم تكن محبذة أبدا لذلك الخيار فطالت الحرب التي أعتبرت وقتها حربا منسية لأطول مدى ممكن حتى صيف عام 1988 و كان يمكن لتلك الحرب الإستنزافية أن تطول أكثر لولا الموقف الدولي الصارم و تشديد الضغوط النفسية و العسكرية على النظام الإيراني مما أجبرهم بالتالي على إيقاف الحرب و ( تجرع كأس السم ) و القبول بالقرار الدولي رقم 598 بعد أن أخذت الأمور مجرى آخر يعرف أسرارها و تفاصيلها الملا رفسنجاني و لم تعلن كل التفاصيل بشكل واضح و صريح حتى اليوم رغم مرور أكثر من عشرين عاما على نهاية تلك المأساة الإغريقية، وقتها كان الرافسنجاني يضع الخطط لإقامة النظام الديني في العراق عن طريق بناء الخطوات المؤدية لذلك من خلال دعم الجماعات العراقية المسلحة المؤمنة بالمشروع الإيراني و الإستعانة بجيوش الأسرى العراقيين الذين تشكلت منهم بعد غسل أدمغتهم ( فرقة التوابين الجدد ) أما الرافضين من الأسرى لغسيل الدماغ فقد تعرضوا لمجزرة مهولة و لتغييب فظيع و لطمر للأسرار و أختفت أخبار الآلاف منهم في ظل فوضى الحرب !!
و كان ظل الرفسنجاني حاضرا في تلك الأحداث، و من عجائب القدر بأن أمنية النظام الإيراني الذي لم يستطع تحقيقها بيده حققها له ( شيطان بزرك ) أو الشيطان الأمريكي الأكبر بحسب العرف الإيراني حيث أزاح الأميركان نظام صدام و قدموا العراق فيما بعد على طبق من ذهب لإيران و أتباعها ليكونوا هم الأئمة وهم الوارثين!!
و تلك واحدة من أغرب الحالات في تاريخ العلاقات الدولية، و الغريب أن براغماتية رفسنجاني لم تنقطع عن الإبداع رغم مرارة وقف الحرب على العراق، فقد تعامل رفسنجاني شخصيا مع نظام صدام حسين تعاملا تجاريا سخيا من خلال بوابات الحصار الدولي السابق وكانت تعاملات ولده ( ياسر ) مع أبناء صدام عدي وقصي معروفة للجميع ولم تكن سرا من الأسرار، كما أنه بعد إحتلال الكويت عام 1990 أرسل صدام حسين رسالة مفتوحة لرفسنجاني يعترف له فيها بكل المطالب الإيرانية السابقة و يطلب تعاونا معه لمقاومة الهجمة الإمبريالية!!!،
و تحسنت العلاقات ظاهريا وقتها و تم تجميد نشاط المعارضة العراقية المقيمة في إيران التي إستسلمت لليأس قبل أن يعيدها غزو الكويت لواجهة الأحداث، الرفسنجاني في زيارته الأخيرة للعراق جاء ليحتفل بنصر نظامه الكبير بعد أن أصبحت الكوادر التي رباها وحماها و رعاها منذ الثمانينيات هي التي تحكم العراق فعلا ؟
لقد جاء الرفسنجاني ليتفقد إمبراطوريته الممتدة لأرض السواد و ليحقق حلم نظامه المؤجل و ليسرع في تنفيذ الصفحة الثانية من ألأجندة وهو طرد جماعة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة من العراق بعد أن أصبحت تشكل حالة قلق ستراتيجي يقض مضاجع النظام ضمن مسلسل إدارة الصراع مع الغرب بشأن الملف النووي، براغماتية رفسنجاني المتعددة الصيغ و الوجوه لا يمكن أن تمحو ذكريات تصريحاته السابقة و سياساته و توجهاته، و لكن ما يثير العجب حقيقة ليس صفحات التاريخ الماضية فقد بل التصريحات العجيبة لرئيس الجمهورية العراقية المتحدة السيد جلال طالباني الذي أعرب عن أمله ببركات السيد رفسنجاني؟
وهو التصريح اللغز الذي لم يستطع أحد فك طلاسمه بعد، فصحيح أن حزب السيد طالباني ( الإتحاد الوطني ) كان مسلحا بالكامل من النظام الإيراني و لكنه ذو آيديولوجية علمانية إشتراكية لا تؤمن بالبركات و الكرامات ؟
و لكن أي بركة يمكن أن تأتي من قادة نظام لا يخفي مصالحه الحقيقية و لا وجهه السافر و لعب أدورا في العراق. كما أنه مصدر دائم لتهديد دول المنطقة و إثارة المشاكل و النزاعات و الحروب..
عن أية بركات يتحدث السيد الرئيس و العراق بصدد التحول لمجرد محافظة إيرانية ؟... فعلا لا نستطيع إلا أن نقر بالنصر الإيراني المبين الذي جاء بعد عشرين عاما من الهزيمة..
و لكنه نصر لن يدوم طويلا، فدوام الحال من المحال.
داود البصري
التعليقات