ولد دان باغيس عام 1930 في مدينة بوكوفينا، من عائلة يهودية ناطقة بالألمانية. قضى فترة من مراهقته في أحد معسكرات الاعتقال النازية. ذهب إلى فلسطين عام 1946 وقضى فترة في كيبوتز وتعلم العبرية وما إن مضت بضع سنوات حتى أخذ يكتب شعرا بها. استقر في القدس اعتبارا من 1956، حيث أصبح فيما بعد أستاذا في جامعة القدس متخصصا في الأدب العبري في العصر الوسيط. وله كتاب يتناول الجانب الدنيوي (الحب واللذة) للشعر العبري في العصور الوسطى خصوصا شعر موسى بن عزرا، يودا هلفي وسولومون بن غابيرول. والكتاب أحدث عند صدوره مطلع سبعينات القرن الماضي ضجة وسجالا دينيا ضده. يعتبر واحدا من كبار الشعر العبري المعاصر، وهو من الشعراء القلائل الذين مارسوا قصيدة النثر بمعناها الكتلوي الأوروبي. هنا قصيدتان ترجمها لنا مشكورا البروفيسور رؤوبين سنير عن الأصل العبري، على أمل أن ننشر له قريبا مجموعة من قصائده النثرية.

التذكار
المدينة التي وُلدت فيها، "رداؤتس" في محافظة "بوكوبينا"، تقيّأتني عندما كنت في العاشرة من عمري، وفي اليوم ذاته نسيتني، وكأنني ميّت، وأنا كذلك نسيتها، هكذا كل منا كان مطمئنا.
أمس، بعد أربعين سنة، أرسلت إليّ تذكارا. وكأنها امرأة مزعجة من أفراد العائلة، تطالب بالمحبّة بفضل قرابة الدم. تلقّيت منها صورة شمسية، مشهد شتائها الأخير. مركبة مع هودج تنتظر غي الساحة. الحصان يلتفت ويحدّق بتعاطف بالرجل العجوز الذي يغلق بوّابة. هذه، إذًا، جنازة. عضوان فقط ما زالا ينتميان إلى "حبرا قدّيشا"*: حفّار القبور والحصان.
بيد أن الجنازة فاخرة: من كلّ جانب، في الريح الكبيرة، آلاف الفتاتات الثلجية، كلّ واحد منها نجمة في قالبها البلّوري. ما زالت هناك نفس الرغبة لإحراز التميّز، ما زالت هناك نفس الأوهام. فكلّ نجوم الشمس تتمتّع بهيكل عظمي واحد: ستّة أطراف، بالفعل، نجمة داود. بعد لحظة كلّها تتلاشى، تنصهر إلى كتل، إلى كتلة ثلجية واحدة ليس إلاّ. وفي وسطها حفرت مدينتي العجوز من أجلي أيضا، قبرا.

* "حبرا قدّيشا" - الجمعية التي تتولّى شؤون دفن الموتى.
من ديوان "كلمات مترادفة" (1982)

فنّ الاختزال

في البدء يعتقد بأن هذا المرج الغزيز أعطي له برمّته، ألاف المفاجآت الخضراء. بعد ذلك يرى أنه لا يستطيع أن يعيش في هذه الفوضى. صحيح أن أوراق الأعشاب ليست طويلة، لا تصل إلا إلى ركبتيه، بل إلى رسغيه فقط. إلا أن هذا هي متاهة ملتوية: ليس هنا درب، هناك عدد لا يحصى من الدروب: هو حرّ لأن يتوجّه إلى أي اتجاه يرتئيه، حرّ لأن يتيه.
يختار، إذًا، الاختزال! ليس المرج، بل قطعة عشبية صغيرة؛ لا، ليس قطعة، ثلاث أوراق عشبية؛ لا، ليس ثلاث، بل ليس ورقة واحدة (وهنا يبدو أنه وصل إلى الصميم)، حتّى لا ورقة واحدة، ولكن رسم لورقة. هذا هو الموجود.
في النهاية فقط، بعد أن علّقه على الحائط، يستطيع أن يرى: رسم الورقة الذي يشمل المرج بأكمله، هو الذي ينكر المرج بأكمله.

من ديوان "قصائد أخيرة" (1987)