خلص حلم آذار
سامحيني يا بيروت..لن أعود
سعيد الحسنية : بدأ يحكي لها عن الليل الطويل، قالت : quot; أنا أحب الليل ككل النساء العاملات في مهنتي ، لكن الليل هنا مريب ، إنه ليل مزور ليس كالليل الحقيقي في وطننا أتذكره ؟ quot;تلعثم لسانه واضطرب حاله، فهو ما اعتاد على مجالسة بنات الهوى ..إنه لا يحسن لغتهم ولا يتقن لعبة إغوائهن . أخذ يشتم نفسه ويلعن حظه في سره ، كيف سيتخلص من ورطته؟ كيف سيكون موقف رجولته عندما يعلم إن فحولته خذلته وتركته بين أحضان غانيته ورحلت.أخذت تنظر إليه وتغويه بعينيها وشفتيها ..وهو مسكين لا يقوى إلا على إطرائها بابتسامة مصطنعة.مضت ساعة على وصولها ولم يفعلا أي شيء بعد ..ماذا سيفعل وفحولته قد اختفت؟
اقترب منها ..لامس جسدها ..وأسدل شعرها ..قبلها ظننا منه أن القليل من المداعبة والملاطفة ستثر فحولته ويجبرها على الخروج من مخبئها والعودة إليه..ولكنه كان مخطئا بحساباته أو بحركاته ..المهم أنه ..quot; ما عرفش quot; وازدادت ورطته وكاد يفضح نفسه ويعلن هزيمته ، لولا تدخل العناية التلفزيونية التي حملت إليهما عبر الأثير صوت الرئيس quot; الإستيذ quot; يعلن تأجيل جلسة الحوار إلى 15 أيار الجاري ، ولم تكن صدمته الكبرى من تأجيل الحوار إنما من ردة فعل غانيته التي انتفضت وقالت : يا أولاد الـ...خلصونا بقا quot;..نظر إليها مليا قبل أن ينفجر من الضحك وهو يخاطب نفسه قائلا : quot; كان هذا ما ينقصنا ان تهتم الغانيات بالسياسةquot;..
تركها في الغرفة مستلقية على السرير وذهب إلى المطبخ لعله يجد ما يعيد إليه فحولته المفقودة...ولكنه سرعان ما عاد خائبا ليجدها جالسة على الكنبة مرتدية ما كانت قد خلعته..ها هي متربعة على الكنبة ممسكة quot; الريموت كونترول quot; بيدها ..تقلب القنوات ..مفضلة الإخبارية منها..متنقلة بين تصريح الحكيم يعلن من أمام صرح بكركي استمرار quot; القوات quot; في حملتها من أجل استعادة رئاسة الجمهورية ويؤكد على تماسك قوى 14 شباط أو آذار ..لا يهم ..وها هي قناة أخرى تنقل تصريحات quot; البيك quot; أمام وفود زارته في دارته المختارة عن ضرورة ترسيم حدود مزارع شبعا وأهمية التمثيل الدبلوماسي بين لبنان وسوريا ..وقناة ثالثة خاصة باستقبالات قريطم ..وتلك تبث مقتطفات من كلمة quot; السيد quot; يعلن تمسك المقاومة بسلاحها ودعمها لسوريا وإيران في مواجهتهما الحملة الأميركية الغاشمة..وقناة أخرى تنقل مؤتمر صحافي للجنرال يعلن فيه استمراره في الترشح للرئاسة الأولى ويشن هجمومه المعتاد على الأكثرية quot; الوهمية quot; ، ولعل الأكثر إثارة للضحك هو حفل استقبالات فخامته اليومي للوجوه quot; السابقة quot; نفسها ، ولعل الملفت هذه المرة في أخبار فخامته هو عودته إلى ممارسة هواية التمثيل ، حيث ظهر مجددا بصورة ذلك quot; القبضاي quot; وهو يعلن انتصاره الكبير في افتتاح جسر في بلدته محاطا بعدد من quot; المصفقين quot;.
اقترب منها بصمت وضمها إلى صدره ...يواسيها في أحزانها وهي تواسيه في خيبته..فكلاهما فرا من وطنهم بسبب أولئك الساسة الذين يتقنون فن التلون والتبدل وكيل السباب والشتائم لبعضهم البعض ، ومن ثم الجلوس معا وتبادل الابتسامات والهمسات ، ومع ذلك وكل فئة منهم تخون الأخرى.
ساد السكون والصمت الغرفة لفترة طويلة قبل أن يقطعه بسؤالها :
-أنت مع مين : 14 آذار أم 8 آذار ؟
-ما بعرف... لم أعد أعرف من منهما على حق .
-وأنا أيضا أصبحت ضائعا ..كنت مقتنعا وما زلت ، بصوابية وأحقية مطالب 14 آذار ..فأنا طالما حلمت بحرية واستقلال لبنان ..ياما تخيلت ذلك اليوم الذي أعود فيه إلى لبنان ولا أجد عسكري غير لبناني على أرضنا ..ظننت أن وعد quot; الحكيم quot; سيتحقق ..وللوهلة الأولى وأنا أسمع كلام quot; البيك quot; ، تخيلت فخامته تاركا الكرسي لمن يمكنه أن يصون لبنان ودستوره وحريته وكرامة شعبه..فظننت فعلا أنه سوف تتحرر مزارع بعبدا ..واليوم اشعر أن أحلامي تلك كانت وهم كبير وجميل..لكنه لا يمكن أن يتحقق طالما لا أحد من هؤلاء القادة مسؤول عن كلمته ومستعد لتنفيذ وعده ..لن يتحقق ذلك الحلم طالما ينظر اللبنانيون إلى رئاسة الجمهورية كملكية حصرية للموارنة كما هو مجلس الوزراء للسنة والنواب للشيعة ..لن يتحقق حلم 14 آذار طالما كل طرف مرتبط بأحلاف خارجية سواء إيرانية أو أميركية ..أجل يا عزيزتي أنا محبط ولا أنتمي إلا إلى فئة المحبطين المغتربين الذين يجلسون على قاب قوسين من اليأس.
شدها إلى صدره محاولا الهروب من السياسة التي زادت فحولته خمولا،ولكنه أيضا quot; ما عرفش quot; ، فما كان أمامه إلا الإدعاء بمغالبة النعاس والغفوة فوق صدرها ، وما كان منها إلا أن مددته بحنان أمومة مفرطة على الكنبة ، وفتحت باب الغرفة وخرجت بعد أن لفحت العباءة السوداء على جسدها، وأنزلت النقاب على عينيها ورحلت ...
وهو.. بقي مرتميا دون حراك ودموعه تنحدر على خديه مخاطبا نفسه قائلا : ما حاجتي لحياتي دون وطن لي؟ ولكن ماذا بقي من لبنان ؟ فها هي بيروت باتت امرأة ميتة تحاول إغوائي وإثارتي ، فبعد أن كانت ربيع دائم أصبحت خريف أبدي ، يتساقط أبنائها على أبواب السفارات كتساقط أوراق الشجر ، وتسأليني ما سبب بقائي هنا بعيدا عنك يا بيروت ؟ وها هي رائحة الموت تعبق بأرجائك ، ورغم ذلك تصرين على احتضاني فأشعر كأن الموت يشدني نحوك ... توقفي يا بيروت عن تقمص دور الثعبان، لن تغويني ولن أعود.. جميعا أخطأنا بحقك يا مدينة النور، وتركنا الموت يعث فيك فسادا ودمارا ، سامحينا.. ولكن لا ترغميني على العودة إليك ..أبعدي عني أشباح الحنين والأشواق...فأنا لن أعود..لقد عزمت أمري واتخذت قراري...لن أعود إليك الآن ..سامحيني يا بيروت..إنني أكرهك بقدر ما أحبك .. أرجوك دعيني بعيدا عنك ..توقفي عن مناداتي للعودة إليك! لن أعود..لن أعود ..لن أعود.




التعليقات