كتاب وقضية
محمد مكية وكنعان مكية الأب والابن شخصيتان عراقيتان بارزتان. كلاهما مهندس معماري والثاني كاتب أيضاً ومناضل عتيد في صفوف اليسار. الأب يعيش في لندن منذ عقود والابن عاد الى العراق بعد تحريره من الدكتاتورية، وهو الذي عاش بين امريكا وبريطانيا لعقود عديدة أيضاً. المؤلف هو لورنس ويشلر كاتب وصحفي امريكي رشح لأكبر جائزة امريكية في مجال الابداع الكتابي وهو يكتب في مجلة «نيويورك» الامريكية الواسعة الانتشار كبيرة النفوذ. «مصائب المنفى» هو كتابه الثامن. يجمع فيه بين السرد القصصي وموضعية الباحث ويتناول مسؤولية الكاتب والفنان في مواجهة النظم الشمولية. والكتاب يتناول ثلاثة من كبار المثقفين أولهما العراقي كنعان مكية والثاني جيكوسلوفاكي والثالث جنوب افريقي. ثلاثية في كتاب واجد يجمع بينها موضوع واحد الكاتب والفنان الملتزم المناضل من أجل بشرية أفضل وكيف ينطوي هذا السعي الحميد على تعقيدات لا حصر لها.
الفصل الأول خاص بكنعان مكية الذي برز على الساحة الثقافية والسياسية العالمية بعد أن نشر باسم سمير الخليل كتابه الناجح «جمهورية الخوف» ثم كتب أخرى «النُصب» و«الخوف والقسوة» الفصل بعنوان «أوديب في سامراء» اشارة الى تعقيد العلاقة بين الأب والابن. وموقف كل منهما من النظام البعثي في العراق. الأب وهو واحد من أكبر المهندسين المعماريين العرب كان معنياً ببناء مشاريع معمارية كبرى في العراق من الجامعات الى الجوامع وحتى مشاريع بعثية مباشرة مثل مقر حزب البعث العربي الاشتراكي، ومجالات العروض العسكرية في مختلف أنحاء العراق. حبه للعراق معماره تاريخه وآثاره فوق السياسة.
الابن أكثر جذرية من الأب وكان وثيق الصلة بالحركة اليسارية المتطرفة وبالتحديد التروتسكية خاصة في السنوات التي عاش بها في لندن العاصمة البريطانية.
جمهورية الخوف
صدر كتاب «جمهورية الخوف» في ربيع العام 1989 باسم مستعار كما ذكرنا. ولم يلتفت اليه أحد. وفيه تناول كنعان مكية الوضع السياسي والاجتماعي في العراق وأشار فيه الى طموحات الطاغية صدام حسين الاقليمية، وتحدث فيه عن السياسة الخارجية الامريكية عندئذ التي كانت تعتقد بأن العراق يمكن أن يستفاد منه للوقوف بوجه الثورة الايرانية الاسلامية المتعنتة. وهذا ما حصل. وفي آب (اغسطس) وبالتحديد في الثاني منه في العام 1990 غزا صدام الكويت وكان كتاب «جمهورية الخوف» واحداً من المصادر القليلة التي تحلل بموضوعية ودقة وتفصيل شخصية الطاغية صدام حسين.
وفجأة اهتمت الصحافة والدوائر السياسية بكتاب «سمير الخليل» «جمهورية الخوف» فكتبت مجلة «نيويورك تايمس بوك ريفيوز» مقالاً عنه قالت فيه انه «من الكتب الضروري قراءتها لكل المعنيين بالشأن العراقي ومحركات الديكتاتورية» وأصدرت دار النشر الكبرى «بانثيون» طبعة شعبية من الكتاب بيعت منها 65 ألف نسخة. كما تصدّر الكتاب قائمة أكثر الكتب انتشاراً في بريطانيا وتُرجم الى عدة لغات منها العربية. ورغم ذلك استمر كنعان في اخفاء اسمه الحقيقي مخافة بطش الطاغية به من خلال عملائه العرب والأجانب في مختلف أنحاء العالم.
الخوف على الأب
بعد «جمهورية الخوف» أصدر الكاتب «النُصب: الفن والسوقية والمسؤولية في العراق» وهو بالاسم المستعار نفسه. النصب هو بالطبع «قوس النصر» على ايران ويتكون من يدين تحملان سيفين يلتقيان في الفضاء مكونين قوساً وما يزال موجوداً في وسط بغداد. بعد صدور الكتاب بدأ القراء يعتقدون بأن الكاتب لابد أن يكون مهندساً معمارياً اتخذ من النصب مناسبة لتعرية عقلية الطاغية ومشاريعه الفاشية الجديدة في الترويج لعظمة مزيفة لا مبررات لها تماماً على طريقة الدكتاتوريين الذين سبقوه من ستالين الى موسوليني.
بعد أن بلغت حرب الكويت ذروتها بطرد الطاغية وجيشه من هذا البلد العربي الشقيق، أعلن كنعان في آذار (مارس) من العام 1990 عن اسمه الحقيقي. نعم انه مهدس معماري، كما اعتقدنا، وهو، وهذا الأهم، ابن المهندس المعماري العراقي الكبير: محمد مكية.
وهنا لابد من الاشارة الى ان كنعان كشف عن اسمه الحقيقي وفي نفسه خوف على أبيه الذي تعاون في الثمانينات مع النظام البطشي في العراق وساهم في انجاز عدد من المشاريع المعمارية الكبيرة له وبتكليف منه، خوفه من ان يطال الطاغية الأب وهو الذي أصبح يعرف بأن الابن يختلف في موقفه من النظام الارهابي في العراق، وعمل جاهداً في كتابين من أجل فضح ممارسته التي حوّلت الشعب العراقي الى شعب خائف سليب الارادة فاقدها. نظام زج البلاد في حربين أدتا الى موت مئات الآلاف من العراقيين من دون طائل.
بغداد القرون الوسطى
وُلد كنعان في بغداد من العام 1949. ومكية الأب ولد قبل ثلاثين سنة من ذلك. وفي لقاء للمؤلف مع المعماري الكبير قال له انه ولد في «بغداد القرون الوسطى» وكان ذلك في العام 1916. وقد انتقل الأب الى لندن في العام 1974 وفيها أسس مكتباً للمعمار باسم «مكية وشركاه». وعندما التقى به المؤلف في أواخر الثمانينات لم يكن المكتب مأهولاـً كما كان في السبعينات والاشغال ليست على ما يرام وذلك بسبب انشغال صدام حسين بالحرب العراقية ـ الايرانية وبسبب قلة الموارد المالية بسبب تكاليف الحرب الباهضة ولم يكن يستطيع صدام أن ينفق الملايين على مشاريع معمارية ضخمة كعهده بالسابق. واذا دخلت الى مكتب مكية الأب ستدهش لامحالة من عدد الكتب النادرة عن تاريخ العراق والبلدان العربية. فهو أيضاً جامع متحمس للمخطوطات والكتب النادرة.
وتاريخه الشخصي حافل بالشخصيات واللقاءات. ولأنه متفوق وفنان وكان ناشطاً في الحركة الفنية. وهناك صورة فوتوغرافية يعود تاريخها الى عام 1957 يظهر فيها محمد مكية مع الملك الراحل فيصل الثاني عند افتتاح معرض جمعية الفنانين الذي ساهم مكية في تنظيمه. وفي الصورة نرى أيضاً الوصي عبد الاله والرسام العراقي جواد سليم والنحات خالد الرحال.
وبعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 استمر مكية الأب في تجاهل الواقع السياسي ويكرس نفسه للفن المعماري والفن بصورة عامة. في العام 1959 أسس مدرسة الهندسة المعمارية في جامعة بغداد، وكان على علاقة قوية بكبار المعماريين العالميين في تلك الفترة وحتى الآن. وهو متزوج من سيدة بريطانية ترافقه في حله وترحاله سواء في العراق أو خارجه. ورغم ان كتاب لورنس ويشلر وبالأحرى الفصل الخاص بمكية الأب ومكية الابن بعنوان «أوديب في سامراء» الا انك لا تجد في السرد الدراما الاغريقية المعروفة بين الأب والابن من ناحية والأم من ناحية أخرى.
والتوتر بين الأب والابن سياسي بالدرجة الأولى. الأب يضع الفن فوق السياسة وحب العراق فوق كراهية البعثيين. أما الابن فهو يطالب الفنان بالالتزام وبالعمل، على الأقل، على فضح الطغاة، خاصة بعد انقلاب 1963 واغتيال عبد الكريم قاسم وعرض جثته المخترقة بالرصاص مرات عديدة على التلفزيون العراقي. وهو يصف في كتابه «جمهورية الخوف» تلك الحادثة التي تتكرر وتتكرر بأشكال أخرى وشخصيات عراقية أخرى في مسلسل العنف المخيف الذي يشهده العراق من 1958 وحتى الآن. كانت تلك المشاهد الدموية في العام 1963 هي التي وطدت في أعماق كنعان التوجس والكراهية للبعثيين جملة وتفصيلا. وحملهما معه أينما ذهب.
السياسة والفن
بعد وصول صدام وزمرته المجرمة الى الحكم تغير كل شيء. وبدأ البعثيون يسيطرون على كل شيء ويصوغوه على هواهم وكان المعمار والفن الضحية الأولى. توقف مشروع بناء جامعة الكوفة. وجاء البعثيون الى محمد مكية يطلبون منه ان يحول آثار بابل الى مجمع سياحي. يقول مكية ان البعثي الذي ألغى مشروع جامعة الكوفة هو نفسه الذي جاء اليه يطلب منه اعادة بناء بابل على الصورة التي ذكرنا. رد عليه بعنف قال له انه مجنون «انك تريد ان تحول آثار بابل الى فندق على شكل زقورة. انها جريمة ضد التاريخ». هذا المسوول البعثي يذكر محمد قُتل في ما بعد على يد البعثيين انفسهم في مسلسل تصفيات رهيبة في جو من البارانويا لم تشهد له المنطقة العربية مثالاً.
في الوقت نفسه بدأت شهرة المعماري الكبير بالانتشار في البلدان العربية في البحرين وعمان وقطر. ومن الثابت ان مكية عندما كان في زيارة الى البحرين في العام 1972 وجد اسمه على قائمة «الطابور الخامس» وأشخاص ضالعين في مؤامرة ماسونية. فطلبت منه زوجته البريطانية مارغريت عدم العودة الى العراق.
ويلاحظ المؤلف في هذا السياق ان صدام حسين لم يكن متديناً أصلاً، الا ان وصول الخميني الى الحكم في ايران دفعه الى تمثيل دور المسلم التقي الورع المسلم الزاهد الذي يزور الجوامع ويحرص على الصلاة وزيارة الأضرحة الدينية. كما يلاحظ المؤلف ان محمد مكية رغم انه يعطي الأولوية للمعمار وبناء العراق لم ينج من تصرفات البعثيين بصورة عامة وصدام بصورة خاصة الذي كان يريد ان يكون زعيماً لكتلة عدم الانحياز وكان يريد ان يبني في بغداد ما يجعلها منارة جديرة بالمؤتمر لكتلة دول عدم الانحياز المقرر عقده في العاصمة العراقية في العام 1982. وعندما سأل صدام أعوانه من هو الجدير بالقيام ببناء بغداد بمناسبة المؤتمر قالوا له «هناك اثنان: الأول في السجن ـ رفعت الجادرجي ـ والثاني هو محمد مكية خارج السجن».
التوتر بين الأب والابن
في ربيع العام 1980 وصلت رسالة من الحكومة العراقية الى مكتب محمد مكية في لندن تطلب منه ان يوافق على بناء مشروع إحياء بغداد بمناسبة مؤتمر عدم الانحياز. وهنا يروي كنعان انه كان ضد المشروع منذ البداية وباصرار. الا ان الأب كان بين بين. اعادة بناء بغداد مشروع كان وما يزال يحلم به الا انه جاء من طرف حكومة بعثية سبق ان وضعت اسمه في قائمة جواسيس «الطابور الخامس» والمحفل الماسوني، خاصة ان رفض العرض أمر خطير فقد يدفع بالبعثيين الى ملاحقة المعماري الأب مكية وتصفيته جسدياً كما فعلوا بالآلاف من أعوانهم والمواطنين العراقيين الذين لم يصطفوا مع الحكم.
رفض مكتب مكية العرض، وبعد فترة قصيرة من ذلك وصلت اليه رسالة أخرى موقعة من «مجلس قيادة الثورة» تطلب منه الموافقة مع ضمانات «بعودته الى لندن سالماً... وبعد تردد سافر محمد مكية الى بغداد الا ان أجزاء كبيرة من المشروع لم تنفذ بسبب اندلاع الحرب العراقية ـ الايرانية ونقل المؤتمر الى مدينة هندية.
واذا كان محمد الأب كرس نفسه تماماً للمعمار وبناء العراق الى سابق عهده العباسي، الا انه، على خلاف كنعان، لم يكن مسيساً. كان كنعان وثيق الصلة بالحركة التروتسكية وحركة اليسار الجديد في بريطانيا والبلدان العربية. وهو قارئ دقيق لأعمال فلاسفة العصر وكتابه من الكاتبة هانا ارندت وكتابها الشهير «اصول التوتاليتارية» الى والتر بنجامين والشاعر البريطاني الملتزم دبليو. هـ. اودن والفرنسي بول فاليري. ومن الأسباب الأخرى للتوتر بين الأب والابن. ان الأب متدين والابن علماني.
الهدم البناء
في كتابه «جمهورية الخوف» يسعى كنعان الى وصف الايديولوجية البعثية. يراها قائمة على صهر الفرد في الجماعة وتحويل العنف الى مؤسسة أو ما يسميه المؤلف العنف المؤسساتي من خلال السجون والمراقبة وغرف التعذيب ورغم ان البعثيين يؤمنون بسلطة الجماعة الا انهم يعملون ليل نهار وبمختلف الأساليب اللاانسانية الى عزل الفرد العراقي وتعميق احساسه بعدم الأمان. وكما قال كنعان «مثال النظام كان تحويل كل مواطن الى مخبر».
ثم يناقش كيف تحولت الأمور الى هذا الحد من السوء، وبصفته معمارياً فانه يبدأ عملية بحث آثاري عن الأسباب فيستعرض تاريخ العراق بما فيه ما بناه الأب فيه ليهدّم هذا البناء بلغة الحداثة وليهدم أيضاً فكرة العروبة التي اعتبرها البعثيون عصب الجماعة. هم بالطبع عندهم صورة عن ماهية «العربي» يقصون ويقبلون هذا أو ذاك على هواهم انطلاقاً من فكرة ان الحرية تتوفر في الجماعة العروبية التي يتصورون. بعبارة أخرى تراهم يتداولون فكرة الحرية الا انها بالنسبة لهم تذويب شخصية المواطن الفردية في كتلة جماهيرية منقّاة.
كنعان وغيره من المعنيين بالشأن العراقي لا ينكرون ان النظام البعثي كان يبني في العراق وانه حسّن نسبة المتعلمين في البلاد، الا انهم وجدوا أنفسهم لا يقرأون الا شيئاً واحداً ونمطاً معيناً من الخطاب الايديولوجي البعثي. ورغم ان حالة المرأة العراقية كالرجل مجرد من حقوقه الضمنية، وان السلطة أخذت تقتصر على أقلية الى ان أصبحت بيد رجل واجد هو صدام حسين «الرجل الحر الوحيد في العراق» ثم يلتفت الى الصراع بين العراق البعثي وايران الخمينية فيرى ان سعيهما الحثيث لفرض رؤياهم الشمولية خارج حدودهما هو الذي أدى الى الحرب بينهما.
وللتاريخ نقول ان محمد مكية واحد من أكبر المعماريين العرب أنهى علاقته بالنظام في العام 1988 عندما استدرج النظام السيد مهدي الحكيم واحد من كبار علماء الشيعة الى مؤتمر اسلامي في الخرطوم واغتاله في صالة استقبال فندق الهلتون في العاصمة السودانية المذكورة. ولأول مرة في تاريخه يشارك مكية الأب في مظاهرة احتجاج امام السفارة العراقية في لندن. هذه الفترة شهدت انطواء مكية على نفسه وازداد تعلقه بالدين الاسلامي في أوقات عصيبة جداً على العراق.
التراث والحداثة
في تلك السنوات كان كنعان قد انفصل عن زوجته الايرانية التي كانت رفيقته في الحركة التروتسكية، وكان يقسّم وقته بين أمريكا وبريطانيا. وكان يحرص على زيارة أبية ومكتبه المعماري في لندن. وفي كتابه الثاني «النُصب» تجد سبع اشارات الى محمد مكية، ويناقش تاريخ العراق المعماري والثقافي منذ القديم حتى تاريخ صدور الكتاب. وتلمس فيه مواقف انتقادية مما يسمى «التراث» واعجاباً بالحركة التجديدية التي شهدتها البلاد في مجالات الآداب والفنون في الأربعينات والخمسينات. ويقول الكاتب ويشلر ان الملاحظات التي ساقها كنعان حول أبيه مبطنة وانه هو المستهدف وان كان كنعان يشير بالاسم الى الرسام العراقي جواد سليم أي انه يضعهما في سلة واحدة باعتبارهما اثنين من رواد التراث أو التقليد مقابل التجديد والحداثة المطلوبتين.
وفي محاضرة ألقاها كنعان في لندن في الفترة المذكورة كان رفعت الچادرچي المعماري العراقي البارز حاضراً، اذ ان النظام البعثي أطلق سراحه وسمح له بالهجرة. ويروي المؤلف ويشلر ان رفعت كان مرتاحاً لما جاء في المحاضرة «وصفق لها في مواقع معينة منها» خاصة عندما كرر كنعان فيها انتقاداته المبطنة والصريحة للتراث ودعا الى التجديد والحداثة.أما الأب فقد استمر كما كان وبحماس وتكريس كامل لرؤاه لبناء العراق واعادته الى ماضيه العباسي الباهر. وتجد في مكتبه وفي بيته تخطيطات معمارية لبغداد جديدة بغداده وبغدادنا الحبيبة. وقد جمع مكية الأب هذه التخطيطات في مخطوطة واحدة بعنوان «ألف صورة وصورة من بغداد».
الكويت والعرب
في السابع عشر من كانون الثاني (يناير) من العام 1991 وعندما بدأ الحلفاء يقصفون العراق كان كنعان مكية في مصر بمناسبة معرض القاهرة للكتب السنوي. هناك وجد طبعتين مقرصنتين من كتابه «جمهورية الخوف» بالاضافة الى الطبعة القانونية التي وافق عليها. واحدة من الطبعتين أضيفت لها مواد كثيرة مثل بروتوكولات حكماء صهيون وتوقعات فلكية وخطابات دينية متعصبة وطبعة مقرصنة أخرى بعنوان «البترول والدم» تريد ان تثبت ان استفحال البعث في العراق سببه وجود اليهود في قيادة البعث.
ورغم ان كنعان شعر بالفرح لأن نهاية صدام اقتربت بسبب «سوء التقدير» والقيام بغزو دولة عربية جارة، الا انه، من ناحية أخرى، انزعج بشدة من قسوة القصف. وفي هذا يشترك مع قطاعات واسعة من العراقيين، بما فيهم محمد مكية الأب الذي تساءل بحزن وانفعال عن سبب قصف جسور بغداد ومعالم بغداد الأخرى لأن من شأن ذلك أن يؤثر على حياة المواطنين العاديين ويدمر المعمار العراقي. كما ان ترسانة الحلفاء من الأسلحة المتطورة الرهيبة استهدفت أيضاً الجنود العراقيين على جبهة القتال وهم جنود أجبروا ولم يختاروا الانخراط في الجيش الصدامي. كما ان تدمير البنية التقنية التحتية للعراق كان وما يزال مصدر حزن وانزعاج من قبل العراقيين.
ويرى كنعان ان ادارة جورج بوش الأب لم تعطِ الاهتمام الكافي لمرحلة ما بعد الحرب. ورغم هذا كان العدو الرئيسي هو صدام حسين ونظامه القمعي التوسعي.
وفي وقت كان الرئيس جورج بوش يدعو العراقيين الى الثورة للتخلص من «صدام حسين الديكتاتور» كانت وزارة الخارجية الامريكية ترفض الاجتماع بالشخصيات العراقية المعارضة. وعندما انتفض الجنوب العراقي والشمال الكردي على النظام، لم يحرك الحلفاء ساكناً واكتفوا بالتفرج على الثورة المسلحة والمجازر والمقابر الجماعية التي أعقبتها.
بالصوت والصورة
وفي السابع من آذار (مارس) من العام 1991 نظم «مركز هارفرد للدراسات الشرق أوسطية» ندوة حول العراق. وفيها ظهر «سمير الخليل» للملأ صوتاً وصورة. وساهم في الندوة ثلاثة عراقيين من وجوه المعارضة.
وفي الندوة وما أعقبها في كتابات ومقابلات في الصحف الامريكية النافذة تساءل كنعان بقلق وغضب عن تدمير العراق وسبب موت آلاف الجنود العراقيين في حرب اجبروا على خوضها كما أشار الى معاناة المواطنين نساء وأطفالاً وتحويل بغداد الى أرض خراب. كما أشار أكثر من مرة الى انتفاضة الجنوب ومحق الانتفاضة من مدينة أخرى وبوحشية لم يعرف لها العالم العربي مثيلاً منذ قرون.
وفي وقت لاحق من العام المذكور جاء كنعان الى مكية وفي نفسه الاصرار على عمل شيء ما لانقاذ العراق من الحالة المزرية التي انتهى اليها. صدام ما يزال في الحكم والمقابر الجماعية في الجنوب ماتزال تكبر وتكبر والغرب ما يزال يتفرج وعاجز عن ايجاد حل للمعضلة.
"بيان 91"
عقد كنعان في لندن عدداً من اللقاءات مع أشقائه وأصدقائه العراقيين وتمخضت هذه اللقاءات عن صدور «بيان 91» تذكيراً بـ «بيان 77» الذي أصدره الرئيس التشيكي فاكلاف هافل أيام كان في المعارضة لقلب النظام التوتاليتاري السوفياتي في البلاد وهو البيان الذي مهّد للثورة المخملية وحقق لها الانتصار في العام 1989.
وفي البيان الذي أعقب المداولات والاجتماعات طرح كنعان رؤياه لعراق جديد عراق ديمقراطي يحترم الحريات الفردية، عراق يصار فيه الى تقليل دور الجيش في الحياة السياسية. وكان على رأس الموقعين محمد مكية، الذي صرّح للمؤلف ان كتاب «جمهورية الخوف» هو «المساهمة التي قدمتها عائلتنا لعراق جديد عراق ديمقراطي».
التعليقات