بيروت (رويترز) - قبيل قراءة الشاعر اللبناني الياس نقولا في مجموعته "عن لمسة سقطت" قد تخطر في البال فكرة مسبقة تتوقع ان يأتي شعره ذا زخرف ويهتم بالشكل لمجرد ان الشاعر يعمل في المجال الدبلوماسي. الا ان هذه الفكرة .. شأنها شأن معظم الافكار المسبقة .. سرعان ما تعلن اندحارها امام الواقع وهو هنا شعر يتسم في مجمله بالعمق والموسيقى المتنوعة والصورة ذات الجدة والتفرد.
انه في النتيجة شعر يعيد الى الذاكرة .. هو وامثال له ليست بكثيرة هذه الاونة .. ان عالم الشعر الذي يهز النفس والمخيلة والذاكرة والذي يقول دون تسطيح ويحجب بايحاء حيث يحجب .. ما زال في صحة جيدة وان كانت اطلالاته قليلة وتبدو كانها تعاني من بعض حياء. صدرت مجموعة نقولا عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في 85 صفحة متوسطة القطع اشتملت على ما لا يقل عن 34 قصيدة صغيرة اجمالا قال الشاعر انها كتبت مابين سنة 1999 وسنة 2003 في بيروت وسيدني ونيودلهي. قبل القصيدة الاولى يقدم الشاعر لمجموعته بشطر اي بصدر بيت للمتنبي هو "وكثير من السؤال اشتياق..." والشطر كي يتم تصور الحال والمعني المقصودين هو من قصيدة لابي الطيب منها البيتان التاليان.. "نحن ادرى وقد سألنا بنجد اطويل طريقنا ام يطول .. وكثير من السؤال اشتياق وكثير من رده تعليل."
قصائد المجموعة هي قصائد "حديثة" بمعنى "شقي" الحداثة في الشعر العربي اي شعر التفعيلة في تعدد للقوافي والاوزان لكن دون الوقوع في نمطية ما. وقصيدة النثر في اعتمادها الابرز على الموسيقى الداخلية وعلى الصور.
الواقع ان قراءة عنوان المجموعة نفسه.. اذا قرأناه بعيدا عن السياق الذي اخذ منه.. يوحي بل ينبىء وبشكل شبه الزامي بتقفية ووزن اي بموسيقى "مضبوطة" ايقاعيا.
العنوان "عن لمسة سقطت" يحمل الى الذهن وقع "مستفعلن فعلن." لكنه ليس كذلك في القصيدة التي جاءت خاتمة للمجموعة .. فما سبقه وتلاه يدخله في قصيدة النثر لكن ذلك لا يضير القصيدة فما لم يحقق التوقعات في موسيقي "مضبوطة" يعوض القارىء بمتعة أكبر من حيث الرموز والصور الغريبة المشحونة بمشاعر هادئة هدوءا محركا للنفس.
يقول الشاعر في تصوير موفق للعمر الافل والذكريات التي كادت السنون تجعلها رمادية وكادت "تسقطها" في النسيان .. وتصوير للحلاوات التي حجبتها المرارات اذ غدت صاحبة اليد الطولى في سفر الايام الحزين. يقول "حين امر هناك في الشارع ذاته ... تتمرد ذاكرتي عليّ ... تهرب تبحث في الهواء عن ضحكة .. عن لمسة سقطت .. دون انتباه .. من يدي."
اما القصيدة الاولى فتراوح بين اجواء قصائد التفعيلة واجواء الشعر الحر الذي يتخلى عن القافية بعض الاحيان ولا يتخلى نوع من الوزن اي عن الموسيقى المنتظمة دون رتابة. والقصيدة فكرية وجدانية. فكريتها تضرب بعيدا في الزمن لتصل الى "العناصر الاولى" .. فتنطلق عبر افلاطون واخرين ومرورا بالرومانسيين وحتى الصوفيين الى شريعة الحب التي تحيي الجماد وتسيل الجليد وتشكل التعويض الاهم في الحياة كما يرى الشاعر. اما عنوانها فهو "اخرنا" وفيها يقول ..
"ما الوقت الا ... رغبة الاشياء.. رغبتنا الدفينة ذاتها بالانعتاق.. من الوجود ... وما المكان .. سوى الكثافة في الزمان... اثنان نحن ..وثالث الاثنين .. نحن معا.. واخرنا غياب ... لكنّ اجمل ما خلقنا .. منذ ان عتق الجليد عروقنا .. تلك العلاقة .. بين حلم صار كونا والتراب."
وتستمر بعدها نسمة ذات رمزية شفيفة من التساؤل المشبع بالحزن كما تعبق به قصيدة "نخلة" التي يقول فيها "بيني وبينك .. لا تراب ولا سماء ظل .. على لغة تشيخ.. واحرف ينتابها عطش الى صمت ... اذا كنا اقترفنا ذا الوجود معا فايهما لنا ... عطر المساء ام المساء الماء ام سحر الاناء بيني وبينك نخلة ..نبتت على سطح الخواء."
وفي ما يمكن ان يوصف بانه "تموزية" تتحدث في هدوء عن دورة الحياة الواحدة التي توهم بالتعدد والكثرة والتغير نقرأ في قصيدة "العبور الى جسد اخر قوله "لم يرحلوا .. يعبرون الى جسدي ..نيسان غاب ... ليأتي نيسان اخر .. والقادمون معا من اخر الجرح لم يصلوا... لكنهم قادمون..
"وحده .. عن اماكنهم .. يفتش المطر المتخفي بالغبار ... بالامس كانوا زنبقا .. غصن زيتون هوى .. وها هو الزمن المتمزق يرتعش.. الوقت يحبو .. يعشعش في العيون.. يبحث عن موته .. عن قصة اخرى .. وهم لم يرحلوا .. عبروا الموت فجرا الى جسدي في سكون."
وفي قصيدة "ربما" نقرأ مع الياس نقولا ما يتناول "اللا ادريات" القديمة كتساؤل "شوان تزو" عن نفسه وعن الفراشة وصولا الى تساؤل ايليا ابي ماضي "هل انا السائر ام الدرب تسير ... ام كلانا واقف والدهر يجري.. لست ادري." ونقرأ مع نقولا التساؤل عن اشكال الموت. يقول "ربما الاشياء تجري..او نحن.. عبث الكلمات.. حكاياتنا ... يصطادنا الامل من مدننا الكثيفة والشاهقة.. يمارس هوايته من جيل لاخر دون ان ندري ... في العدم لا شيء يتلاشى سوى الحل.. هذا هو الموت ربما."