حتى لا يموت الطفل فيك..
عن الموت والقتل يقول وليم شكسبير على لسان ابن دانكن في رائعة ماكبث: laquo;في المكان الذي نحن فيه توجد خناجر في كل البسمات، والأقرب إلينا بقرابة الدم هو أكثرنا استعدادا لسفكه...raquo; وعن القضاء والقدر يقول نزار قباني: laquo;ما الذي عند السماء؟ لكسالى.. ضعفاء.. يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمرْ.. ويهزّون قبور الأولياءْ.. علها ترزقهم رزا.. وأطفالا.. قبورُ الأولياءْ ويمدّون السجاجيد الأنيقات الطررْ.. يتسلون بأفيون نسمّيه قدرْ.. وقضاءْ.. في بلادي.. في بلاد البسطاءْ..raquo;
ويتحدث زميلنا محمد كاديك عن القضاء والقدر وعن الحياة والموت، فيقول: laquo;الموت قد يخطئ أيضا.. لكن خطأ الموت لا يعني الحياة.. ربما يكون الموت أقسى. أقسى الموت.. أن يموت الطفل فيك..
قراءة: أسامة إفراح: هي كلمات من ديوان laquo;بالحياة مع وقف التنفيذraquo; الصادر حديثا للشاعر محمد كاديك، ديوان حاول فيه الشاعر إيصال رسالة هي خلاصة ما عاشه من تجارب فاختار الشعر رسولا، وسنحاول إلقاء الضوء على ما رأيناه مهمّا في الديوان، لافتا للنظر والأذهان.
موازنة بين القلب والقالب..
أما اللغة فقد جاءت حسب ما يحتاجه النص والموضوع، حيث نجدها في بعض الأحيان ثقيلة حاضرة بمفرداتها وتراكيبها، وهذا ما قد نلمسه أكثر في الشعر العمودي عند الشاعر محمد كاديك، وفي أحيان أخرى نجد اللغة سهلة بسيطة خاصة في شعره الحر، وعلى العموم فإن اللغة جاءت سلسة ولكنها تسير بالموازاة مع تراكيب شعرية معقدة، ومن هنا نستخلص فكرتين: الأولى هي أن اللغة جاءت لتجعل التراكيب مفهومة، فإن لجأ الشاعر إلى الرمزية والكنايات وفي ذات الآن إلى لغة صعبة لكانت سهولة فهم المقال ضربا من ضروب الخيال، أما الأمر الثاني فهو أن هدف الشاعر لم يكن أصلا صناعة الشعر وترتيب القوافي وإنما صناعة الفكرة، وما الشعر إلا وسيلة توصل رسالة الشاعر إلى قرّائه في قالب جميل، والجمالية هي ما يجعل الكلام شعرا، والصوت غناء، ومجموعة الألوان المبعثرة لوحة تسرّ الناظرين. وفي هذا كنا قد قلنا في مقال سبق نشره: laquo;مثلما تكون وظيفة الطعام الأولى هي أن يؤكل ويسهل أكله ويستساغ طعمه، ووظيفة الآلة الأولى هي أن تسهّل على الناس حياتهم، فإن وظيفة الكلام الأولى هي أن يُفهم، والشاعر يضيف الصبغة الجمالية والفنية على الكلام لكنه يبقي على وظيفته الأساسية وهي أن يكون مفهوما...raquo;
ولكنّ هذا لمْ يَعْن إهمالَ الشاعر للجانب الإستيتيكي لقصائده، ولم يجعل من التركيز على المعنى والفكرة مبررا لاغتيال جمال اللغة، ولا من العناية بالشكل المنمّق حجة لإهمال المضمون كما كان عليه الشعر أيام عصر الضعف والانحطاط، وإنما ارتأى محمد كاديك أن لا إفراط ولا تفريط فأبقى على الموازنة بين سلاسة اللغة وعمق الرسالة.
وفي بعض زوايا الديوان نجد ما قد يسميه البعض laquo;تكراراraquo;، وإن كنا نراه غير ذلك، وكمثال يقول الشاعر في قصيدة laquo;وسامraquo;: laquo;دمٌ.. دمٌ.. دمٌ.. دمُ.. في قلب أرضنا دمُ.. وفي سحابنا دمُ..raquo; نجد كلمة laquo;دمraquo; تعود ست مرات في مساحة تضم 11 كلمة، وقد يبدو الأمر غير مقبول حسابيا ولكنه يخدم المضمون بصفة كبيرة، فالشاعر إذ يكرر كلمة laquo;دمraquo; إنما ينقل للقارئ الصورة الفعلية لحقيقة عاشها الشاعر كما أغلب الجزائريين في فترة من الفترات، والقراءة السيميائية لهذه الأبيات تظهر لنا أن الشاعر إنما يقول: laquo;الدم في كل مكان..raquo; أو laquo;الدم يعمّ الأجواء..raquo; ولكن بطريقة جمالية بطبيعة الحال، وما يظهر على أنه تكرار إنما هو توكيد، الهدف منه نقل الواقع إلى القارئ أو نقل القارئ إلى الواقع، وكلاهما صحيح.
صدق العاطفة..
ولعل من أهم الملاحظات التي يمكن أن نخرج بها من قراءتنا لديوان laquo;بالحياة مع وقف التنفيذraquo; هي صدق العاطفة التي كتب بها laquo;محمد كاديكraquo; أشعاره، ولن يكون من الصعب التدليل على ذلك، لأن الشاعر عاش وعايش فعلا كل حدث ينقله لنا من خلال أشعاره، سواء فيما يخصّ الأحداث الدامية، أو التركيز على الطفل بالذات ـ وللشاعر تجربة فريدة مع الأطفال وأدب الأطفال ـ أو بخصوص الأشعار الأخرى التي تتخذ السياسي والاجتماعي قالبا لها، وعندما يعبر الشاعر عن أحداث عاشها واغترف بكلتا يديه من عنصرها، فإنه لا يكون بوسعنا حينها إلا أن نقول إن أشعاره نابعة من صميم الفؤاد.
فلسفة laquo;أحياraquo; وlaquo;أعيشraquo;..
ولكن الأهم من هذه وتلك، هو الفلسفة التي يقوم عليها ديوان laquo;بالحياة مع وقف التنفيذraquo;، ونقول هنا laquo;فلسفةraquo; لأن الشاعر هو معدّ الديوان والمتصرف فيه بنسبة تقارب المائة بالمائة، فهو صاحب الأشعار وناظمها ولكنه كذلك من وضع ترتيب القصائد ومن عنون الديوان، وهو الذي أنجز الغلاف وكل هذا يعطينا أدوات أكثر لقراءة ما وراء السطور والألوان، ولكي نقول إن صاحبه يعرف ويقصد ما يفعله.. فالديوان تحت عنوان: laquo;بالحياة مع وقف التنفيذraquo; وهو عنوان يعطينا بادئ الأمر إحساسا بأن الحياة ـ حسب إحداثيات الشاعر ـ صارت عقوبة، ويجعلنا ندخل في جوّ المحاكم دون أن ندري من هو القاضي، وإن كنا ندرك من هي الضحية ومن هو المعتدي.. ثم يكتشف القارئ أن محمد كاديك يركز ويؤكد على تمييزه بين laquo;أحياraquo; وraquo;أعيشraquo;، وهنا يظهر الصراع الدراماتيكي بين الحياة والموت، حيث تختلط المفاهيم وتصير الحياة شكلا من الهلاك، ويدخل المرء في حلقة مفرغة كونه صار laquo;فائدةraquo;.. هو جو من الـraquo;لا يقينraquo; يجعل المرء يمشي ويأكل ويتنفس وهو يدري أنه مشروع جثة هامدة، ولكنه مع ذلك ـ بفطرة الإنسان ـ يتشبث بـ laquo;أحياraquo; وإن كان الشاعر يفضل laquo;أعيشraquo; بما تحمله الكلمة من معاني الكرامة والأمل والطمأنينة...
هذا الصراع بين الحياة والموت، وبين الحياة وشبه الحياة، نجده مكرسا في ترتيب القصائد، ففي البداية نجد قصيدة عن مولد laquo;أفلحraquo; وهو نجل الشاعر، بينما نجد في الختام قصيدتين ينعي فيهما كاديك شاعرين أحبهما واحترمهما، كما نجد الحرص على أن تحمل كل قصيدة إحساسا بالمرارة يعقبه إحساس بالفرح، أو إحساسا بالقنوط يأتي بعده تشبث بالأمل، ممّا يخدم laquo;فلسفة الديوانraquo; كما سبق وقلنا.
فلسفة تظهر بجلاء أكثر من خلال الغلاف الذي صممه ونفذه الشاعر نفسه حيث نجد استعمال القيمتين الأسود والأبيض، وفي الأمر إيحاء بذات الصراع والعلاقة الجدلية التي تحمل فيها الفكرة نقيضها كما يقول ماركس.. ولكننا نجد في ذات الغلاف الشمعة المتقدة وهي رمز لأمرين متضادين كذلك: الوجد والحزن من جهة، والأمل من جهة أخرى، وكأنّا بالشاعر يريد أن يقول:raquo;أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلامraquo; ولكنه يقوم بهما معا فيلعن الظلام ويوقد الشمعة في ذات الآن.
النطق بالحُكم..
بعد كل هذا نقول إن ديوان laquo;بالحياة مع وقف التنفيذraquo; حقيق بأن يقتنى، خليق بأن يقرأ، جدير بأن يُفهم ويحظى بالتمعّن، بل وأن تحفظ بعض أشعاره، لأنه نتاج جهد فكري وإبداعي وخلاصة مخاض عاطفي ووجداني، رُكِز فيه على الرسالة دون إهمال رونق اللغة وما لها من مقام رفيع، ودون الوقوع في الهلوسة والسكيزوفرينيا التي بتنا نلاحظها عند بعض الشعراء في أيامنا هذه... ولأنه ـ أي الديوان ـ فسحة من الكلام الهادف والمتنوع، بين سياسي واجتماعي وعاطفي، وعمودي وحرّ، يحكي ما عاشته الجزائر من مأساة في السابق ولا ينسى أن يرفع تحية إجلال للعراق... وهكذا فإن ديوان laquo;بالحياة مع وقف التنفيذraquo; لجدير بأن laquo;يُقرأ مع سبق الإصرار والترصدraquo;..
التعليقات