عراقية ً كانت الأغنية...
أكتب الآن شطرا ً وأشطبه ُ
ثم أكتبه ُ، وأعيد قراءته ُ مرتين، ثلاثا.. وأشطبه ُ
ليس ثمة أغنية ٌ،
هذه الساعة القلبُ مكتنزٌ بالتوجس ِ
يخرج مني
ويمضي بعيدا ً
ويتركني ملَْ أسئلتي
ما الذي كان يفعله ُ ؟
حين عاد رأيت دما يتقاطر
كانت خطاه تئن ّ على وقع آهته الدامية
وكان يغني
عراقية ً كانت الأغنية...

في إحدى المقابلات الصحفية في الستينات، نـُسب إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب قوله: (إن معظم الأغاني العربية تدور في فلك الأغنية المصرية باستثناء الغناء العراقي). إنها خصوصية كاملة، على الأقل من ناحية الروحية والحنجرة والنغمة المرتبطة بالمكان بما يجعلها خارجة منه وليست آتية إليه من المحيط الجغرافي القريب أو البعيد، هذه الحقيقة ربما تعود إلى أن المطرب العراقي لا يريد أن يغني لأجل الغناء، إنه يعبر عن حالته الحقيقية وهو جزء من أسباب التفرد التاريخي في التعبير..
وتمهيدا، ثمة أغنيتان، في كل بيئة، واحدة تتأثر بالمحيط الجديد وتواكب المناخات الاستهلاكية وتتكئ على معالم عابرة في المتغيرات الفنية والاجتماعية والسياسية، وهذه عادة ما تكون في الواجهة الإعلامية وتمثل فقاعات على سطح الحياة سرعان ما تنطفئ دون أثر، وأخرى أغنية الحالة الخاصة المتصلة مباشرة بالهوية المكانية وهي ابنة بيئتها الداخلية ذات الابتكار المحض دون أية مؤثرات خارجية، هذه الأخيرة هي الأقرب إلى فهم طبيعة المجتمع، والأكثر تعبيرا عن العلاقات والمهن والتقاليد بل وتأثيرات التضاريس والمناخ والتاريخ حتى تصل هذه العلاقة بين الأغنية ومطربها ومتلقيها إلى درجة عالية من الترجمة الحقيقية لرموز البيئة.. في الأغنية الثانية التي نعنيها هنا، ثمة علاقة عضوية مع الحزن، لأن الغناء في الأصل طقس من طقوس التعبير عن الفرح أو الحزن، وهذا الأخير يتوارث لأنه طبيعة ملازمة للبشر، والفرح عكس ذلك تماما، ظاهرة عابرة، لا تمثل حقيقة الصراع من أجل الوجود، ولا تشكل معادلا موضوعيا لحياة الإنسان، وفي الحالة العراقية فإن المساحة التاريخية ليست منبسطة وإنما هي متشابكة إلى حد كبير من التعقيد وبالتالي فإن تراكمات الأحزان شكلت مزيجا عضويا مع الطين النازل بتشكيلات فنية خلاقة في بلاد ما بين النهرين. ففي الأساطير (مثلا) كيف أن تموز عانى مر العذاب على يد قوى شريرة متمثلة بشياطين العالم السفلي الذين أحاطوا به وانهالوا عليه ضربا بشتى أنواع الأسلحة حتى أجهزوا عليه، هذه الصورة لم تكن منعزلة عن المجتمع، فقد استمرت طقوس الغناء والبكاء على تموز في موسم القحط والجفاف بحثا عن أشلائه الممزقة والمبعثرة في الوديان وضفاف الأنهر والصحارى، وهي الصورة السنوية التي رافقتها ابتكارات في التعبير عن الحزن منها تجمع النسوة في مواجهة الشمس وهن ينثرن شعورهن في حركة إيقاعية منتظمة يسارا ويمينا (هذه الحركة موجودة حتى اليوم في أجواء الرقص الاحتفالي المصاحب للغناء أو العزاء) وهي أيضا ذات الصورة الثابتة في عاشوراء.. وعلى صعيد الملاحم حين نتمثل مشهد جلجامش وهو يبطش بالفلاحين والنساء والتجار أو وهو يخوض معركة مع أنكيدو بعد أن بعثت له الآلهة ندا يوقف سطوته الأحادية، ثم وهو يقاتل مع أنكيدو الوحش خمبابا حتى ينتهي باكيا فجوعا بموت صديقه ليرحل وحيدا في أعماق البحار بحثا عن نبتة الخلود... ليست هذه مجرد رؤى عابرة بقدر ما هي تراكمات ثقافية تشكل مفاصل أساسية سوف تكون مرجعية لبشر يتوارثونها عبر عصور متعاقبة، كما أنها ليست حادثة واحدة وينتهي الأمر في طيات الزمن.. فعلى صعيد آخر حين نقترب تاريخيا لنتمثل مأساة انتقال السلطة بشكل دموي في العصر العباسي وانعكاساتها على المجتمع وصولا إلى الوقوع في صراع الأقطاب الخارجية بين السلاجقة والبويهيين وحتى الهيمنة العثمانية المطلقة ولهذه الفترة ذات الأربعمائة سنة حكاية في غاية التعقيد أنتجت مجتمعا غريبا له خصوصية معقدة، من ملامحها نشوء مفهوم شعري غنائي يسمى باللهجة العراقية (الحسجة: والجيم هنا تلفظ على الطريقة الفارسية ومعناها التورية والتلغيز حيث لا يستطيع المطرب أو الشاعر الشعبي أن يعبر بوضوح عما يريد قوله) خوفا من الإفصاح الذي حتما سيقوده إلى الهلاك على يد السلطات العثمانية، وحين نصل إلى بدايات القرن العشرين فإن التقلبات المعروفة للجميع كرست كل ذلك التاريخ المأسوي الدموي وزادت عليه ما لا يوصف وصولا إلى الجمهورية التي أنتجت من المقابر الجماعية أكثر بعشرات المرات ما أنتجته من المدارس والمسارح والحدائق العامة !!!

quot;حالة حزن عراقيةquot;بريشة الفنانة التشكيلية عشتار

هذه القراءة التاريخية السريعة (تفاصيلها بحاجة إلى بحث آخر) شكلت في المنظور العام إحساسا دفينا عند العراقي حتى وهو لا يدرك معرفة بهذه الأحداث غير أنها فعلت فعلها العميق لتنتج بعدئذ معنى خاصا وسائدا في الوجدان البيئي، وبالتالي فإن النتاج الثقافي يخرج من خلفية هذا المعنى مضافا إليه استمرارية التشابك والإشكاليات دون انقطاع (دون انقطاع) ! إن هذا النتاج ومنه الأغنية يشي بصوت الماضي فنلاحظ المطرب مثلا يصف صبره بأنه مثل (أيوب) أو يقول أنه يعيش مثل واقعة الطف في إشارة إلى مأساة الحسين في كربلاء، وفي إشارة إلى النكبات يقول آخر إنه أصبح كالبرامكة وهكذا.. حتى أن مرحلة النظام الإقطاعي أنتجت مطربين هاربين من سطوة الظلم فسادت أغانيهم وأسست ألوانا وأطوارا من الغناء بقي حتى اليوم، ولم يكن أمام المطرب سوى أن ينوح ويبتكر قوالب شعرية وإيقاعية لنواحه فجاءت البوذية والزهيري والدارمي وغيرها من القوالب الشعرية الأخرى.. لذلك فإن المطرب لم يكن مطربا بالمعنى المجرد وإنما هو حالة حزن، شخص محروم ومستلب يعيش في داخله ومحيطه الخارجي قصة معقدة هي نفس قصة الأغنية التي سينتجها بعد ذلك (تجدر الإشارة هنا إلى تجربة مطربين آخرين في بلدان عربية أخرى مثل فريد الأطرش القادم مع أمه وأخته من جبل العرب إلى القاهرة في حالة اغتراب وعوز وهروب ولم يكن يستطيع التخلص من حزنه طوال ثلاثين عاما، وكذلك عبد الحليم حافظ المريض اليتيم القادم من حياة الترعة والريف الفقير حاملا كل ذلك الحزن الذي انعكس على أغانيه وأفلامه) وفي هذا المعنى ثمة تجربة غنائية عراقية تمثل ذروة الحزن حين ظهرت في الأربعينات من القرن العشرين في مدينة العمارة، صاحب هذه التجربة أطلق على نفسه اسم مسعود العمارتلي، وواضح أنه ينتسب إلى العمارة ولكن في الحقيقة أن هذا المطرب امرأة واسمها مسعودة , عاشت حياة صعبة وصراعا مريرا مع الأهل والمحيط الاجتماعي، فلم تجد أمامها وسيلة تعبير سوى الغناء ! ولكن كيف تغني في بيئة ذكورة محافظة ؟ لابد من طريقة، حيلة، أو هروب من الهروب وليس أمامها سوى (الإسترجال) وسوف نتحدث عنها باسم مسعود الذي وصلت شهرته كامل المدن العراقية والأرياف والمجالس وهو يبتكر لونه الغنائي الخاص شعرا وألحانا وغناء (بوية محمد، شال العزيز، أهل المجر) ومئات الأغاني التي انتشرت حد أن عشقته فتاة لم يستطع التخلص منها، لكنها أمام حدة ممانعته وتهربه من فكرة الزواج لجأت إلى عشرات الحيل والوسائل لتكتشف عن طريق أحد المعارف في مسقط رأسه أنه ليس رجلا، وانتقاما منه سعت إلى دس السم في طعامه لكنه لم يمت بل مات كرجل حين انتشر الخبر بين الناس وافتضح أمره وانتهت الأسطورة.. (حياة هذه المرأة ـ الرجل تحولت إلى مادة تلفزيونية أخرجها في العام 1992 كريم حمزة وجسد الشخصية سعدون جابر).
في هذه الرحلة الموجعة ما الذي كان يمكن أن يقدم هذا المطرب غير الأغاني الحزينة ؟ بل أن الذين جاءوا بعده (حضيري أبو عزيز، داخل حسن و....) وجدوا فيه صورتهم فأعادوها وأضافوا عليها المزيد.. ومهما تجولنا في مناطق العراق سنجد ذات الروح عند جبار عكار (عاشق الربابة والنواح الصحراوي) في الوسط وعند محسن الكوفي في الكوفة (شاب ومطرب خلفي مات وهو يغني إثر مرض الدرن الرئوي) وعند زهور حسين التي كانت في الأصل قارئة في المآتم الحسينية ذات صوت مرتجف فرط حنينها للغناء وفعلا هربت إلى بغداد وقدمت عشرات الأغاني حفرا في الذاكرة العراقية ليلحق بها أخوها ويقتلها على قارعة الطريق، هذه المرأة كانت تدرك نهايتها وكانت تغني وهي ترى من بعيد دمها المسفوك، و.... إنهم ينتحرون على طريقة (جبير الكون) الذي كان يزحف من بداية المجلس وحتى آخره وهو لا يدري.. كان يغني واضعا يدا بيد على طريقة الرحى وهي تدور، لكن هل كانت المنطقة الشمالية في منأى عن هذا الحزن ؟ إن أكثر الأصوات حزنا هناك في جبال ووديان كردستان حيث مقام الصبا الذي يصبغ ألحانهم بلون الدم، وحيث ذات التسلسل المأسوي عبر قرون الإقامة والهجرة.. والهجرة والإقامة. والسؤال بعد ذلك هل انتقلت الأغنية العراقية إلى فضاء جديد تلاشى فيه الحزن ؟
في الخمسينات وما تلاها ظهرت تجربة ناظم الغزالي، وعلى الرغم من شكله الأنيق ولغته الموسيقية الحديثة وأسفاره العربية بين بيروت والقاهرة والكويت ودمشق فإنه بقي وفيا لحزنه.. ومن هناك تبدأ الحكاية:

جهادية امرأة فقيرة فاقدة البصر، تسكن وحيدة في غرفة ضيقة في بيت قديم متهالك.. كانت بغداد موغلة في الفقر، مهن أولى وأزياء رثة وطبقات اجتماعية لا تعرف شيئا عن الآخرين، فمن يعرف تلك المرأة العمياء في غرفتها المليئة بالصناديق والفئران ؟ لكنها بدأت تصرخ الآن، تنادي من حولها الجيران، لقد جاءها المخاض، وبغداد في سنة 1921.. لا بأس، قالت لها الجارة وأختها التي بلغها الخبر لا حقا، هذا ولد جميل إنه بين يديك خذيه، أطلقي عليه ما شئت من الأسماء.. قالت: ناظم ووضعته على صدرها. بقي الطفل حتى سن الابتدائية الأولى حين عاد من المدرسة ذات يوم ليجد أمه وسط نسوة وأغراب محمولة إلى الأبد.. ناظم الغزالي اليتيم والغريب والفقير المتنقل بين بيوت الناس والغارق في دوامته الصغيرة، يخبئ بذرة الفن ويرويها بدموعه وحرمانه وعزلته حتى أصبح ذلك الرمز المضيء في تاريخ الأغنية العراقية..
فنيا خرج ناظم الغزالي من معطف المقام العراقي، وهو لون فني يقدمه مطرب متخصص في أدائه، والصحيح أن نقول (قارئ مقام) وليس مطربا، هذا القارئ عندما يبدأ الغناء يظنه المشاهد أنه يبكي ولا يغني لفرط ما تتغير ملامح وجهه، تقطيبا وعبوسا، وعادة ما يمسك بيده المنديل لمسح العرق المتصبب منه بطريقة لافتة، المهم أن الغزالي عايش في بداياته هذه الأجواء لكنه لم يستطع المكوث طويلا فيها، وقالوا عنه قراء المقام أنه غير قادر على (السيكاه) في إشارة فنية إلى خصوصية قارئ المقام، فاتجه إلى لونه الخاص والأغاني الخفيفة على إيقاع الجورجينا، ومع ذلك لم يفارق حزنه الواضح تماما في كل أغانيه واختياراته الشعرية.. لأنه لم ينس يتمه المستمر معه في كل مراحل حياته القصيرة (43 سنة) حتى رحيله بصمت ووحدة..

إن هذه الحكايات تضيء نتاج أصحابها وبالتالي فهي علاقة عضوية ومتكاملة تفتح نافذة واسعة على معنى الحزن في الأغنية العراقية.. مثلا: في مدينة الشطرة التابعة لمحافظة الناصرية كانت تأتي سفينة الجباة العثمانيين عبر نهر الفرات لتأخذ الضرائب من أبناء المنطقة مطلع كل شهر أو موسم زراعي. أحدهم ضاق ذرعا بهذه السرقة العلنية فقرر إطلاق النار على السفينة، وكانت النتيجة أنهم قطعوا رأسه على مرأى من أهله وعشيرته وأبناء المنطقة ليكون عبرة للآخرين.. ذلك الرجل اسمه حسن بن رهيف، الذي ترك ولدين أحدهما اسمه حضيري وكان عمره سنة واحدة، والثاني صار اسمه بغدادي وكان يومها جنينا في رحم أمه.. هكذا يستطيع المتابع أن يرسم صورة تالية: ريف فقير وظروف اجتماعية قاسية وولد يتيم وصوت ينطلق في فضاء الموهبة معجونا بالوجع، ما الذي سوف ينتجه ؟ لقد بدأت السنوات التالية للعام 1900 تسير بطيئة بينما كانت العمة هي الكفيل إلى جانب فقرها وحاجتها، لكن في العام 1920 جاء خاله (حسين محمد) من مدينة الناصرية إلى القرية ليأخذ ابن أخته إلى عالم المدينة وكانت المرة الأولى التي يرى فيها حضيري البيوت والأسواق والنساء، فجلس ذلك الفلاح في دكان خاله الذي كان يعمل في خياطة الملابس وبالضرورة تعلم المهنة بينما الشرارة تزداد توهجا في حنجرته، وكان لا بد من بغداد.. وهناك (عمي يا بياع الورد) والمواويل العذبة والبوذيات والأطوار وذلك الحزن الذي ضاعفه رفض البعض أن يدخل حضيري أبو عزيز الإذاعة، وبقي منبوذا غريبا في بغداد التي من عادتها رفض الغريب وتركه على قارعة الطريق كما فعلت ذلك من قبل وبعد حضيري بالمئات من الفنانين والشعراء. إن ما حققه هذا الفنان من نجومية جعلته في معترك يومي بين رافض لدخول مطرب الريف إلى الحياة المدنية وبين مؤيد لهذا اللون الفني، حتى حسم الأمر، في ذلك الوقت السيد محمد رضا الشبيبي لمصلحة دخول حضيري إلى دار الإذاعة فكان دخوله انتصارا له ولزملائه الذين ظلوا سنوات ليس لهم سوى الحفلات الخاصة ومناسبات الأعراس في المناطق الشعبية الفقيرة.. لكن اللافت أن سنوات المجد التي عاشها هذا الفنان لم تدم له حتى وجد نفسه يعمل في أواخر أيام حياته ضمن الكورال الذين يرددون وراء المطربين الجدد !! وحتى رحيله في العام 1971..

هؤلاء بقيت أغانيهم عناوين ثابتة، لأنها نتاج بيئة ثابتة، وتعبير أكيد عن ذائقة ثقافية ضاربة في العمق، مثلا حين يمازحنا صديق عربي من هنا أو هناك، يقول مترنما (فوق النخل..) وحين يعاتبنا آخر يقول (لماذا ياعمي يا بياع الورد ؟) وحين يتساءل ثالث عن معنى (على جسر المسيب سيبوني).. ما يؤكد أهمية الأغنية وقبل ذلك منتجها الذي لم يكن مجرد مطرب أو شاعر أو ملحن وإنما هم حياة وسط إشكاليات معقدة غاية التعقيد..
ومن هذا التراكم ظهرت في الستينات موجة جديدة من المطربين كان من المفترض أنها تشكل حالة مغايرة لمعاناة الرواد لأنهم يعيشون واقعا مختلفا فيه شيء من التطور وفق معطيات الزمن على الأقل، ولكن النتيجة جاءت عكس ذلك فقد عاش فؤاد سالم أقسى أشكال الغربة بين عشرات العواصم وعلى مدى ثلاثين عاما، ومعه شوقية وحميد البصري وكل أصوات أغنية (يا عشقنا.. فرحة الطير اليرد لعشوشه عصاري) وهي الأغنية التي يفترض أن تكون علامة بارزة في واجهة التفاخر بالعطاء الإبداعي المتميز، لا أن يكافأ مبدعوها بالنفي والتهجير والتجاهل !

يا طيور الطايرة..
(يا طيور الطايرة مري بْهلي.. ويا شمسنا الدايرة ضوي لـْهلي) هذه الأغنية الخالدة من ألحان كوكب حمزة، العراقي البابلي، الذي أوجعته الغربة في روحه منذ أواخر السبعينات وحتى اليوم، قرابة الثلاثين عاما بين عواصم الدنيا، في الفنادق الشعبية داخل الأسواق المتسخة ببقايا المتسوقين الفقراء، وفي غرف ضيقة ليس فيها مكان للنوم أو الجلوس، بل وحتى الوقوف ! وبين أناس غرباء لا يعرفهم، بعضهم طوقه بجميل الاهتمام والوقفة النبيلة، وبعضهم طوقه بقيود التجاهل ونكران الجميل والعزلة، هذا الفنان قدم أجمل الألحان التي نبعت من أعماق الروح العراقية، وقد فضّل في السنوات الأولى الحياة بين دمشق وبيروت والقاهرة على أساس أنها بيئته العربية التي تفهم لغته، لكنه وبعد مرارة العيش وشظفه، عبر بحر البلطيق إلى هولندة..

كوكب حمزة وطالب غالي وقحطان العطار وسامي كمال وغيرهم جمدت أقدامهم ثلوج الشمال الأوروبي بينما بقي من بقي في صمته أو استجابته القاتلة لطلبات و شروط أغاني الحرب والحزب والثورة والقائد الضرورة والسابع عشر من تموز والثامن من شباط والسابع من نيسان.. ولنا أن نتخيل كيف يمكن أن يغني مطرب للحياة والتفاؤل وهو في هذه الحالات ؟ وذات يوم خرج قحطان العطار في انطلاقته الجميلة بأغنية (يقولون غن بفرح.. وأنا الهموم غناي) وهي من أروع الأغاني التي تحمل إجابة شافية عن الحالة العراقية والوجدان العراقي، وكأن الشاعر جبار الغزي الذي كتب هذه الأغنية كان يدرك نهايته وهو يعيشها كل يوم حتى وجدوه متجمدا في برميل للقمامة ببغداد وقد فارق الحياة، هذا الشاعر من الناصرية، لم يجد في العاصمة ملجأ يليق بإنسان وشاعر مثله وبقي حتى نهايته المأسوية مشردا، وذلك ما حدث مع المطرب الذي غنى قصيدته، فقد رحل قحطان العطار إلى الكويت ولم يكن شغله سوى البكاء كلما تذكر أمه، وفي حين كان ينتظر العودة، كان الوطن يبتعد عشرات السنين حتى انتهى لاجئا في هولندا ! وما الذي كان سيفعله لو عاد ؟ ذلك زميله الفنان صباح السهل صاحب أغنية (نوبة شمالي الهوى ونوبة الهوى جنوبي) يجلس في العام 1984 مع قريبين له ويتحدث بشيء من الضجر عن الأوضاع السائدة، ودون أن يعلم من الذي أوصل هذا الحديث إلى الجهات إياها، وجد نفسه في مواجهة حكم الإعدام ! مطرب بسيط يُعدم ! والشاعر الذي غنى له صباح السهل وزملاؤه، في العام التالي، كان أيضا في جلسة أصدقاء وتحدث بما لا يعجب أحدهم ليواجه حكم الإعدام، وأصبح من يسأل عن غازي ثجيل، يقال له لا تذكر اسمه لكي لا تواجه المصير ذاته !!
هل تتذكرون أغنية حميد منصور (سلامات...) ؟ كانت واحدة من أغاني الحزن العراقية في السبعينات، لحنها عبد الحسين السماوي بروحية من يدرك أنه سوف يعيش غربة ! وحدث ذلك فعلا بعد سنوات حين رمته موجة عاتية على شواطئ استراليا ! ملحن عذب، نشأ في أزقة وبساتين السماوة، وتربى على لهجة الدارمي وقوافي البوذية وأصوات الفلاحين، انتهى في ركن بعيد، في مقهى، في أحد شوارع سيدني.. يا الله ! كم مرة صادفت عراقيا في أحد شوارع العالم ولم أكلمه لأنني في النظرة العابرة لم أعرفه جيدا، وفي الساعة التالية أو اليوم التالي، وفجأة يقفز إلى الذاكرة اسمه ! إنه مطرب، لم يجد مسرحا يغني فيه، في وطنه، وهذا هو على رصيف مزدحم بالناس والغياب يحرك يديه ويكلم نفسه دون أن يكون معه أحد، ويغني ! كل العراقيين يغنون (يا طيور الطايرة.. روحي لهلي) هذه الأغنية نشيد عراقي مثل (نبعة الريحان، وخدك القيمر، والريل وحمد..).
زاهد محمد شاعر بصري وسياسي وباحث، له حضور إبداعي لافت في الأغنية العراقية، خاصة حين يكتبها مثقف مثله، عاش حياته بين الفقراء والناس الطيبين في البصرة بكل أجوائها المنفتحة على الفن وكل خصوصيتها التي حين يفارقها ابنها فإنه مثل سمكة تخرج من الماء، ومع ذلك خرج زاهد محمد إلى لندن ومات هناك ! وربما لا بد من ذكر نماذج من شعره الخاص بالأغنية العراقية (خاصة بالنسبة للعراقيين) ومنها أغنية (هربجي كرد وعرب رمز النضال) وكلمة هربجي باللغة الكردية تعني سلام وتوافق وأخوة.. هذه الأغنية من أشهر الأغاني في العراق، التي أسهمت في تلاحم العراقيين، أما في اللون العاطفي فلا أحد ينسى كلمات الأغنية التي لحنها الفنان عباس جميل وغنتها وحيدة خليل ثم غناها هو أيضا وهي من كلمات زاهد محمد (عين بعين عالشاطي تلاقينا، غير القمر ما واحد عرف بينا).. هذا الشاعر حين مات لا أحد عرف بموته، بل وما من أحد عرف بحياته في الغربة غير نفر قليل من أصدقائه الأوفياء القلائل، تماما مثل موت شاعر أغنية فؤاد سالم (يا سوار الذهب لا تعذب المعصم، معصمها رقيق وخاف يتألم) وهو الشاعر هاشم محمد الجواهري الذي رحل في الكويت وهو يحلم بالعودة إلى الوطن مع الطيور العائدة ذات حلم ! هؤلاء ليس فقط لا يمتلكون بيوتا في وطنهم وإنما لا يمتلكون قبورا أيضا !
في مساء من العام 1984 في الكويت، جمعني والشاعر العذب زهير الدجيلي، تحدثنا عن العراق والشعر والمصير والمنافي، وتساءلنا كثيرا دون جواب، عما يجري ومتى وكيف ؟ وتلك الأسطوانة العراقية المعروفة التي تدور حول نفسها عبثا لكن المفاجئ هو ذلك الصمت المفعم بالحزن حين بدأ البكاء يتعالى في نشيج مشوب بالحسرة، يا الله كم كانت تلك الليلة قاتلة، وعراقية بامتياز، حين تذكرنا أغناني زهير الدجيلي التي هي نقلة نوعية في مسيرة الأغنية العراقية، فقد أدخل الوطن ضمن مسار كتابته النص الشعري والعلاقة الحميمة بين الإنسان والأرض (يا نجوى، ياطيور الطايرة، مراضيتك، يمتة تسافر ياقمر وأوصيك، هوى الناس، المطار) ومرت عشرون سنة، أصبح خلالها الشاعر مشردا هنا وهناك حتى وصل إلى الولايات المتحدة الأميركية.. وذات مناسبة في الشارقة، سألته بعد أن رأينا في ملامحنا علامات السنين: ألا يستطيع هذا العراق الممتد طولا وعرضا أن يجمعنا تحت سمائه ؟ هذا السؤال المر أصبح هاجس كل عراقي، وفوجئت عندما سمعته بالحرف الواحد من الصديق جمال حيدر، وهو صديق الأيام اليونانية حيث كنا نقيم بين أعمدة الأكروبولس، في العام 1986، ثم افترقنا، هو إلى لندن وأنا إلى دبي، وأثناء كتابة هذه السطور، وبعد نحو عشرين سنة جاءني صوته عبر هاتف محلي من دبي، والتقينا وكان ذات السؤال: ألا يستطيع هذا العراق الممتد أن يجمعنا تحت سمائه؟
مرة أخرى: لماذا الحزن في الغناء العراقي؟
أو ليكن السؤال: لماذا الأغنية العراقية حزينة؟
بل أن السؤال الأصح: لماذا المغني العراقي حزين؟

ذات يوم مر الشاعر امرؤ القيس على الأطلال وبكى، فكانت قصيدته الشهيرة علامة حزن لم تنطفئ جمرته بعد ألف وخمسمائة سنة وظل الناس يرددون (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل...) قلت إنه مر على الأطلال، فكيف الأمر عند من يعيش في الأطلال عشرات بل مئات السنين ؟؟
إن الأطلال لها دلالات عديدة، منها التصحر، أي هدم المكان، أي هدم الذاكرة، وهي الذكرى عند امرئ القيس، والتصحر عكس البناء: الأول حزن والثاني فرح، والإنسان يبكي على بنائه حين يُهدم، لكن البناء ليس فقط ما يرتفع فوق سطح الأرض، بل هناك القيم والمعرفة التي تتعرض للهدم من خلال هدم المكان.. وفي العراق كلما حدث بناء هنا وهناك هبت رياح ومتغيرات سياسية ومشكلات شتى جذرية وطارئة، ويبدأ الهدم، حتى القبور لم تسلم من الهدم، ففي كل معركة أو اختلاف فكري أو سطوة دموية من حاكم لم يكتف بدم الأحياء، تنقلب الأرض على ظهرها، فلا القبور ولا المدن ولا الأجيال، ولا القلاع، ولا الأبراج، ولا المآذن، ولا المدارس، ولا... الذاكرة !
في كل مرحلة يعود العراق إلى التصحر ! من الجنائن المعلقة إلى (الجنائز المعلقة) ومن (عيون المها بين الرصافة والجسر) إلى المدن المتربة كأنها خارجة من قمامة الأزمنة، حتى الحياة اليومية العادية لم تسلم من التصحر، وقد كانت في العراق عشرات الأصوات الغنائية النسائية، انتهت بحكم التصحر الاجتماعي والثقافي وسيطرة العسكر والذكورة، ومنذ الأربعينات وحتى الستينات كانت الساحة الغنائية تعرف العديد من هذه الأصوات (سلطانة يوسف، منيرة الهوزوز، زكية جورج، سليمة مراد، زهور حسين، عفيفة اسكندر وحيدة خليل، لميعة توفيق، صديقة الملايا، أنصاف منير، غادة سالم، فينوس، بل أن الساحة الفنية العراقية شهدت في ذلك الوقت مرور العديد من المطربات العربيات أمثال سميرة توفيق، نجاح سلام، فائزة أحمد، وقد غنين من ألحان الموسيقار رضا علي، وكذلك نرجس شوقي ونهاوند، بينما المطربات العراقيات اليوم يقمن خارج الوطن أمثال فريدة، سحر طه، سيتاهاكوبيان، أنوار عبد الوهاب.. هذه الصورة واحدة من الملامح القاسية التي تندرج ضمن عملية التصحر الشاملة في العراق الحزين..
حكمة الحزن..
كلمات الأغاني العراقية نابعة من الحياة الصعبة، وهي عادة ما تبعث نكهة تلك الصعوبات، لأنها أصلا تحمل غموض الألم الذي يتحول إلى حكمة، ومن هنا لا تتوقف الأغنية عند كونها مادة من جنس فني فحسب، وإنما تذهب بين الناس أمثلة يومية بين كافة الشرائح الاجتماعية بما فيها رجل الدين والمدرس وصاحب المطعم، مثلا، وأثناء حديث بين اثنين تفاجأ وأنت تسترق السمع صدفة، بأن أحدهما يقول للآخر:

عد وآنا اعد ونشوف يا هو اكثر هموم
من عمري ســـبع سنين وقليبي مهموم


إن روحية الحكمة تتبدى في جميع الأغاني العراقية، لكن هذه الحكمة لم تكن جافة، باردة، وإنما مصاغة بنفس الحنين العراقي والشجن الفاضح الذي يقترب من الأنين، وقد برع الملحن محمد جواد أموري في التآلف الفني والموضوعي بين الكلمات وألحانه حتى لتقول إن هذه الكلمات لا يمكن أن تلحن إلا ّ بهذا الشكل..
وعندما بدأ ياس خضر رحلته الفنية الأولى من النجف إلى بغداد في أوائل الستينات، قدم ضمن ما قدمه من ألحان محمد جواد أموري أغنية (الهدل) وهي من الأغاني التي تتضمن الحكمة والتي يوصف بها جزء كبير من الغناء العراقي، بل ومن الخصوصيات النادرة في الأغنية العربية.. ومفردة (الهدل) تعني الثوب المفتوح من الصدر وتقول الأغنية (منين أجيب أزرار للزيقة هدل) ! أي من أين وكيف نأتي بأزرار للذي ثوبه مفتوح ؟ بمعنى أن صاحب الحظ الرديء لا تنفع معه محاولات إنقاذه ولذلك يبقى في صراع مع دنياه، كلما يغلق مكانا ينفتح آخر أو العكس ! هنا حكمة، وهي حالة من الحزن أيضا، بل هي نابعة تماما من تجارب الحياة المليئة بالأحزان، وعندما يأتي ياس خضر من النجف فإنه بالضرورة يحمل تاريخا من البكاء والأنين مثلما تحمل حنجرته مساحات واسعة من نغمات الريف الحزينة، هذا المزيج العجيب سوف ينتج بالضرورة لونا جديدا ولكنه يضاف إلى ذات التراكم الحزين في الأغنية العراقية، بل ويغذيها بأعنف ما كانت عليه من قبل، لأن النجف تاريخ من الجدية العالية المليئة بالحركية في أعلى حالات التناقض، والريف تاريخ من الانتظار، انتظار الماء، المطر، الحصاد، المصير، وهكذا تنبع الحكمة في الأغنية، من هناك حين يصرخ المطرب ناصر حكيم بأغنيته الشهيرة (يا الشاتل العودين خضّر فرد عود) وهي الأغنية التي أعادها بعد ذلك بسنوات حسين نعمة، والمعنى في نفس الإطار الذي يفيض منه الحزن، حيث تقول: إن رمانتين في يد واحدة لا يمكن لهما المكوث طويلا، أو لنقل إن اليد الواحدة لا تستطيع حمل رمانتين في آن واحد..
تقول الدكتورة نازك الملائكة في مقال نادر لها نشرته في العام 1990 مجلة التراث الشعبي بعنوان: العطش والتعطش في الأغاني العراقية، وكانت الملائكة كتبته في العام 1959 (إن العراقي يندفع إلى الغناء اندفاع إنسان الطبيعة القديم الذي لا يغني بدافع التسلية واللهو والطرب وإنما تهزه حاجة ملحة تجعل الأغنية ضرورة حياة ينفق بها عواطفه الدافقة ويتخلص بها من طاقة جائشة ).. هذه الحاجة تبدو في الحالة العراقية أكثر إلحاحا ولذلك يستطيع المتابع الجيد أن يلحظ أن كما هائلا من هذه الأغاني ليس تغزلا، مثلما جرت العادة في مناطق أخرى، وإنما تقوم على عمق الاستعارات والإشارات والرموز التاريخية والدينية والأمثال بحيث تحدث عملية تناص لولادة نص جديد، وفي هذه الحالة تدخل الأغنية في مجال آخر مفعم برائحة الرصد الذكي للظواهر الاجتماعية مثل التمييز الطبقي والطائفي والعرقي، مثلا هناك أغنية تقول (مثل الدرج دنياك شي أعلى من شي) (يالبشمس ظليت هم يكسر الفي) أي لا بد من دوران الأرض وبالتالي تأتيك الظلال، وتقول أغنية أخرى ما معناه: لو خالفك صديقك في الرأي قل له أنت على دينك وأنا على ديني، أي ثمة مفهوم شعبي لقبول الآخر المختلف، وهذه القصيدة للشاعر عبد الحسين أبو شبع غناها ياس خضر، وبالمناسبة هناك طبيعة في الأغنية العراقية أن شاعرها أحيانا يكتب أيضا لخطباء المنبر الحسيني أمثال أبو شبع، والمطرب أيضا أمثال زهور حسين وصديق الملاية ومحمد القبانجي، ما يعني أن ثمة انسحاب طقس على آخر، الأمر الذي يصبح معه الحزن حالة عامة بل ويشمل هذا التوصيف ملحنين سواء من الشمال أو الوسط أو الجنوب، فالكثير من الملحنين استخدموا إيقاعات طقوس انتماءاتهم الدينية أو لنقل مناخات الذاكرة المكانية مثل الرفاعية والقادرية والحسينية، ومن خلال هذه الأجواء تولد القصائد في مناخ الحكمة الموجعة..
واللافت أن العاشق يقف في إحدى الأغاني أمام النهر ويدعو عليه بأن يكون ماؤه إلى حد الساق، بمعنى أن يجف إلا ّ قليلا، فلا يروي الظمآن ولا يصل إلى الأرض المزروعة وبذلك سوف يعاقـَب النهر لأنه يفصل بين العاشق وحبيبه (ياشط عسنّك مايك لحدر الساق) ! حيث يعتقد الفلاح العراقي بأن كل شيء في الحياة موجود للعطاء وحين ينتفي هذا السبب فإن الحياة أيضا تنتفي وتصبح دون معنى، إن حياته قائمة على العطاء، وهو ما تم استغلاله من قبل السلطة التي وظفت هذا الحس الإنساني في إذكاء الحروب فكان ذلك الفلاح المعطاء حطبا لها هو وأغانيه..
ومن خلال قالب شعري معروف على نطاق واسع في العراق ويسمى (الدارمي) تطورت واتسعت أجواء الحكمة في الأغنية العراقية، هذا الرافد المهم حرك الأغنية وأعطاها خيارات واسعة خاصة وأنه ذو إيقاع سهل التناول والتنويع عليه في مختلف الإيقاعات فهو (مستفعلن فاعل.. مستفعلاتن):

قالوا لي كلْ من هاي وْورّطونــــــــي
مثــل آدم آ نغريــــت ومنها آطردوني

الواضح من هذا البيت أن ثمة مرجلا يغلي فيه التاريخ بكل أحداثه ورموزه، وما على الشاعر سوى أن يمد ذاكرته من غير جهد ويغرف من الخزين الذي لا ينضب، وبالعودة إلى خصوصية المناطق العراقية فإن ثمة مشكلة (مشكلة) تتلخص بعدم وجود منطقة واحدة في العراق ليست ذات أبعاد ثلاثة ! كل المناطق معقدة، وضاربة في التاريخ الأبعد والبعيد والقريب والحاضر والمستقبل قبل أوانه ! ويكفي أن نقول الكوفة ليصعد إلى الذهن فجر المحراب وعبد الرحمن بن ملجم وهو يسدد الطعنة في عنق علي بن أبي طالب، كما نتذكر المتنبي المهاجر و ميثم التمار المصلوب وقصر الإمارة الذي شهد رمي مسلم بن عقيل من أعلاه، ومن الصعب أن نعدد ما نتذكره هنا وهناك، ويكفي (مثلا) أن نقول سر من رأى، أو ميسان أو الموصل وذي قار وبابل... إننا فعلا أمام مشكلة تاريخية تفاقمت عصرا بعد آخر لتصل إلينا على شكل سؤال عصي على الإجابة، و ما نقصده هنا أن الأغنية العراقية هي نتاج هذه المشكلة على أساس أنها الفاضح الأول لأسرار المجتمع..
من هذه الأسرار الناتجة عن التراكمات التاريخية إن الأغنية العراقية لم تكن يوما من نتاج النخبة ولم تشتغل أو تقترب الطبقة الميسورة وصاحبة النفوذ السلطوي من الغناء، إنها نتاج الناس البسيطين ذوي الدخول المتدنية والفلاحين بل وحتى أفراد الشرطة من الرتب الأخيرة أو أصحاب المهن اليدوية كالنجارين والخياطين والحدادين وحتى من العاملين في بعض الرياضات التقليدية مثل المصارعة ورياضة الزور خانة، وأجد نفسي عاجزا عن تعداد أسماء تؤكد هذه الحقيقة ولكن هنا نموذج (محمد نوشي، سعيد العجلاوي، جبار عكار، حضيري أبو عزيز، داخل حسن، عبد الأمير الطويرجاوي، سعدي الحلي، جبار ونيسة) إضافة إلى ما ورد من أسماء في سطور أخرى، وحتى الجيل التالي من بعض المطربين والشعراء والملحنين (فؤاد سالم، حسين نعمة، ياس خضر، رياض أحمد، بل وحتى كاظم الساهر) وغيرهم المئات هم في الأصل أبناء بيئات فقيرة ومعدمة لا تزال مؤثرة في أصواتهم وحياتهم ومشاعرهم الحزينة.. أما النخبة (إذا وجدت) في المجال الغنائي والموسيقي فهي ذات دور تنظيري غير مؤثرة ولا تمثل الأرضية الواسعة لإنتاج أغنية..
إن الذي يغني، ذلك الوحيد البائس في غرفة رطبة في مدينة الثورة ليس فيها سوى حصير، حتى أخرج جثمانه نفر من العابرين، وما من أحد مر عليه وقال هنا ينام عبد الأمير الطويرجاوي، الذي ابتكر لونا غنائيا خاصا لم يسبقه إليه أحد، ومع ذلك ربما حاله أفضل من تلك المسكينة (صديقة الملاية) التي انتهت في إحدى ساحات بغداد تجلس في ذلك الطقس الحار وأمامها (طاسة) صغيرة فيها كمية قليلة جدا من المكسرات (الحَب) وعلبة سجائر من نوع (بغداد) لبيعها بالمفرد، بينما المارة يتندرون وهم يرددون أغانيها الرائعة (الأفندي، خدري الشاي خدري).. وبالمناسبة إن صديقة الملايا من جيل المطربة المصرية فائدة كامل التي تجلس على مقاعد البرلمان المصري منذ أربع وعشرين سنة.. وهل نتذكر حضيري في شوارع الكويت يسأل الناس إمكانية مساعدته للعلاج في المستشفى الأميري، الذي رقد فيه بدر شاكر السياب رقدته الأخيرة ؟ بل هناك عشرات المطربين الذين عاشوا في ظل نظام الإقطاع وكانوا عبيدا بمعنى الكلمة عند مُلاك الأراضي في العمارة والناصرية والبصرة وغيرها من مدن الوسط والجنوب..
وعلى امتداد مئات السنين عانى هؤلاء ومن قبلهم شظف العيش، وهو مدعاة للحزن الذي أصبح متأصلا في الروح لأن الحرمان يولّد ذلك الأنين القاتل الذي يعبر عن مرارة المقارنة بين واقع الحال وبين عراق غني عبر التاريخ بموارده الطبيعية وثرواته الهائلة التي دعت القريب والبعيد يتساءل بألف علامة استفهام عن وطن يستوعب عشرات الملايين من البشر ولكنه عاجز عن إطعام أهله !! وإذا وضعنا مرآة تعكس ردود فعل هذه الحقيقة فإن الأغنية واحدة من هذه الصور التي تعكس ديمومة الحرمان.. لكن ثمة مشكلة أخرى ناتجة عن الحقيقة الأولى وهي أن الحرمان الطويل والمتأصل سوف يفعل فعله المربك اجتماعيا، وسوف يولد حالات من القلق اليومي في العلاقات الاجتماعية وبالتالي تتولد ردود أفعال مؤلمة تنعكس على النتاج الإبداعي، وحتى ردود الأفعال الشخصية العنيفة بين المجتمع و... بين أفراد الأسرة الواحدة.. هذه الجروح سوف تتوارثها الأجيال وتتربى عليها لأنها أيضا ستعيش ذات البيئة، بل وتزداد هذه البيئة ترديا وسوف يدخل المجتمع في مآزق أخرى أكثر تعقيدا بعد أن ينجب هذا المجتمع ـ عصرا بعد عصر ـ طغاة أكثر استبدادا وظلما وقتلا وسرقة لموارد البلاد..
إن أبرز نتائج هذه الحقيقة، غربة الإنسان في وطنه، وربما هي أقسى من الغربة خارجه، تقول أغنية (دارمي):

عندك عقل لليــــل وآتعدة ساعات
خي عونك ابدنياك بفراشك اتبات

يبدو أن أحدهم يشكو للآخر طول ليله، وإنه يعد الساعات على فراشه وهو في حالة أرق، فيرد عليه الأول بتعجب وحسد من أنه يستطيع النوم في فراشه، فهو لا يمتلك فراشا ولا بيتا ولا مكانا يلجأ إليه ! أما لماذا ؟ فلأن المصائب أكثر من أن تعد وتحصى، وهو ما يغنيه آخر:

لا وحدة لا هي اثنين بلواتي بلوات
أتـــنازع ويَ الروح منازع المات

وبالإشارة إلى إفقار الغني، فإن مرادفات وأسماء أخرى تحوم حول هذا الفعل الطويل الأمد، منها التهميش، والتجاهل، والتصغير، وهو ما تعرضت له بالفعل مناطق شاسعة من العراق فيها من الكثافة السكانية ما يؤسس مجتمعا يشترك في ذات الصفات، وهي الوقوف لفترات ثقيلة في تاريخها دون أهمية أو انشغال اقتصادي وسياسي إلا ما ندر، وبالتالي فإن البحث عن دور كان دائما يصب في المزيد من الغناء والإبداع وقصص الحب، وبدلا من إن يؤدي التهميش والتجاهل والإفقار إلى الكراهية والحقد والعنف، فإن المجتمع العراقي وبسبب تجذر القيم الإنسانية فيه أصبح من أعنف المحبين والعشاق، وعكست هذه الحقيقة طبيعة الأغنية، ويقول المفكر الدكتور هادي العلوي في كتابه (ديوان الوجد): عندما يفرغ الذهن من مصارفات المال وما يلحق به من لوازم السلطة والجاه يمتلئ بالحب، حب المجردات كالقيم الفاضلة والجمال الأنسي المُرَوْحَن ويتشبع بروح النضال من أجل الإبداع والخلق الذي يجد فيه سعادته. إنه يسمح للهوى أن يهزه بكل قوة فيذهب معه إلى النهاية، وذلك ما تقوله الأغنية:
هزْني الهوى بـْـكل حيلة لن شاعر مْـسوّيني
وهذه الحقيقة لا توجد في عموم مناطق العراق. حيث هناك مفاهيم أخرى ذات قيم نسقية متوارثة لا تسمح بالخضوع للنزعات الرومانسية، بل هي معروفة بأسلوب قاس في تربية أبنائها، مثلا يؤخذ الولد في سن السابعة من أحضان أمه وخالته، ليودع في أحضان عمته، زعما أن هذه الأخيرة تقسو عليه فيما الخالة تحن ! وبعد ذلك يبدأ مسلسل الدم، ذبح الدجاجة ثم ذبح الخروف، وعندما يكبر عليه أن يذبح ! كل ذلك سعي لقتل إنسانية الإنسان التي أساسها الحب وما يتبعه من أجواء عاطفية وأسرية ومجتمعية. هذا التمايز المناطقي في العراق، صارخ وحاد إلى درجة عالية بحيث يشعر العراقي بالغربة الشديدة عندما تضطره الحالة المعيشية (الوظيفة) لترك مدينته والإقامة في مدينة أخرى داخل البلاد !! وهو أيضا ينعكس بوضوح على الغناء حيث يقل أو يزيد الشجن تبعا لطبيعة المكان وانتشار الألوان الشعرية الشائعة في الأغنية.. والمعروف أن كل القوالب الشعرية التي تستوعب الحكمة والحزن ولدت في العراق، ويعرف الجميع أن الموال بكل شحناته الحزينة ومساحته الإيقاعية، انطلق من العراق، بقدرته الفائقة على تجسيد الفجيعة، سواء في العصر العباسي إبان نكبة البرامكة، أو قبل ذلك بكثير أو بعده (حسب العديد من المؤرخين) أو على يد الملا جادر الزهيري، المهم أن الموال عراقي، ويسمى أيضا (زهيري).. هذا النواح الطويل الذي يمتد (شكلا) على سبعة أشطر، هي كافية لتصاعد الأنين إلى أعمق منطقة في الروح عبر مساحة الترديد والتكرار، كما يمتد (مضمونا) على كل عناوين البيئة الحزينة ومفرداتها: العتاب، الهجر، الفقر، الكرامة، الهيام (لا يوجد حب في العراق بل عشق فما فوق حسب تصنيفات فقه اللغة للثعالبي لأنواع الجنون) وقد دخل الموال في عمق التكوين الشعري للأغنية العراقية من باب الهيام والوله إلى درجة الغياب الكامل عن الوعي..

المقال فصل من كتاب يصدر قريبا بعنوان: فصول من كتاب الحزن العراقي.