العادي والثوب المستعمل والغرائبي وعلم النفس
من جورج جحا (رويترز) - رواية الكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق الاخيرة quot;اكتشاف الشهوةquot; تنقل القارىء بين عدد من المناخات التي يمكن ان تعبر عنها عناوين بينها اعادة انتاج quot;العاديquot;.. والثوب المستعمل وتداخل حدود مشتركة بين الغرائبي وعلم النفس. ومنذ بدء قراءة الرواية يشعر القاريء بأنه امام أمر عرفه قبلا او عرف مثله بضع مرات في السابق. ويشعر في احيان اخرى انه امام ما يمكن تشبيهه بتلك الثياب المستعملة التي تستورد من الغرب وبينها الجميل والانيق.. لكنه ما زال quot;مستعملاquot; وقد سبق مشاهدته بالاناقة نفسها او اقل منها عند اخرين. ولكن في الصفحات الاربعين الاخيرة من الرواية نشهد تغيرا في الوضع يكاد يكون كليا. فمن العادي والمستعمل ننتقل فجأة الى عالم تتداخل حدوده المشتركة التي تقع بين الغرائبي وعلم النفس فتنتهي الامور كما في اجواء الاحلام. الا ان الكاتبة في كل ما تقدمه تحمل فكرا تغييريا لكنه يركز على الامور الجنسية. لها لغة شعرية تتجلى بقوة في الغالب وقدرة على الوصف السردي في احيان كثيرة.
الرواية هي العمل القصصي الرابع لفضيلة الفاروق الاديبة المولودة في الجزائر في عام 1967 والتي عملت في الصحافة المكتوبة والمسموعة في الجزائر وانتقلت الى لبنان سنة 1995 بعد زواجها من لبناني. وقد جاء عملها الروائي هذا في 142 صفحة متوسطة القطع وصدر عن دار quot;رياض الريس للكتب والنشر.quot; من بداية الرواية نجد أن الامور تبدو كأنها قيلت كلها تقريبا من البدايات وتحول الامر الى ما يشبه نظرية يجري عرضها في محاضرة سردية. نقرأ السطور الاولى فنكاد نفهم الرواية كلها ونتصور ما سيجري فما يرد فيها ليس بجديد. لا جديد في الاحداث ولا في الافكار ولا في المشاعر. يرافقنا هذا الشعور الى ان نصل -قبل نهايتها- الى وضع تتغير فيه الامور كلها. نقرأ مع الكاتبة قصتها في اسطر قليلة. تبدأ بالقول quot;جمعتنا الجدران وقرار عائلي بال وغير ذلك لا شيء اخر يجمعنا. فبيني وبينه ازمنة متراكمة واجيال على وشك الانقراض. لم يكن الرجل الذي أريد... ولم اكن حتما المرأة التي يريد ولكننا تزوجنا. تزوجنا وسافرنا ومن يومها انقلبت حياتي رأسا على عقبquot;.
وتشرح السبب الذي جعلها في هذه الحال فتوضح ذلك بقول ألفته اسماعنا شكلا ومضمونا. ويبدو لنا الامر على الشكل التالي.. نحن امام نظرية اجتماعية شائعة وشبه مسلم بها ترد عند الكاتبة وامام محاولة تطبيق quot;روائيةquot; لهذه النظرية. نقرأ معها عن وضعها فزوجها مودود او مود quot;الغريب ووالدي واخي الياس وقبضة الحديد التي يخنقني بها النظام الابوي الذي نعيش تحت رحمتهquot;.
في باريس التي سافرا اليها يتحول quot;مودquot; الى زان سكير مبتذل في علاقاته الجنسية يعاملها بطرق شبه حيوانية جنسيا واجتماعيا ويعود مخمورا قبيل الفجر الى البيت او لا يعود. لا كلام ولا تفاهم. عند صديقة لها لبنانية تدعي ماري تعرفت الى quot;ايسquot; وهو لبناني متزوج وquot;دون جوانquot; او زير نساء في الوقت نفسه. وتبدلا الامور في التغير. تقيم معه علاقة تجعلها تكتشف نفسها وجسدها وتحولها الى شخص جنسي الى حد الهوس. تعلقت به مع انه عاملها كأنها عاهرة.
تقول quot;اكثر ما جذبني اليه طريقته الخاصة في جعل كل شيء مأساويا حوله.quot; حذرتها ماري منه وقالت لها ان هذا هو quot;الخدعة الاولى التي تنطلي على المرأة ... نحن العربيات نميل دائما الى المعطوبين عاطفيا.quot; الا ان النصيحة لم تؤثر فيها. التقت به اول مرة تحت المطر الباريسي فذكرتها الشوارع بقسنطينة. ثم اخذ يتجاهلها فتزداد تعلقا به. اقامت علاقة مع شخص اخر يدعى شرف لكنه لم يستهوها. زوجها كان يضربها بوحشية لاسباب غير معقولة. التقت في المبنى الذي تقيم فيه بشاب جزائري من بلدها ومن القسم الثري من عائلتها لم تكن تعرفه هو توفيق. بعد ضرب زوجها لها وتدخل الشرطة تخلى عنها الزوج ثم طلقها. كان توفيق حاضرا ومهتما برقة وتفهم. اقامت معه علاقة وتعلقت به.
نجد حتى الان ان كل ما تتحدث عنه الرواية هو الجنس وان الحياة لم تكن اكثر من حفلات تؤدي الى ممارسات جنسية. الا ان علاقتها مع توفيق جعلتها تشعر بانها quot;اغتسلتquot; وان العلاقة جعلتها تدرك quot;ما يمكن ان تعانيه كل النساء وهن يمارسن الجنس بلا عاطفة فقط لانهن متزوجات من رجال يثيرون الشفقة.quot;
وتقرر السفر الى قسنطينة لابلاغ اهلها بطلاقها على أن تعود الى توفيق. جن جنون الاهل وضربها اخوها. وتصف النساء في بلدها وبلسان اختها بأن حال نساء المجتمع كلهن مثل حالها وتستغرب انها ارادت الطلاق اصلا. ابلغتها الاخت ان زوجها لا يسأل عن متعتها الجنسية ويقول لها quot;من علمك ان المرأة تشعر بالمتعة من علمك هذه الخرافات.quot; وقال انه يمارس الجنس quot;حسب شرع الله وهذا هو المطلوب منه لا اكثر.quot; كانت تخطط للعودة الممنوعة عليها.. الى باريس. وتبدأ quot;الغرابةquot; هنا.
تستفيق في مستشفى للامراض النفسية يقول لها الطبيب انها فيه من ثلاث سنوات وهي تصر على انها كانت في بيتها امس. يخبرها الطبيب ان الامطار الشديدة التي هطلت قبل ثلاث سنوات اي سنة 2000 هدمت منازل عديدة في مناطق عديدة ومنها بيتهم وان اهلها لم يكونوا في المنزل وانها نجت من الموت وفقدت ذاكرتها. ابلغها ان جميع من ذكرتهم اي مود وايس وماري كانوا في باريس فعلا لكنهم موتى منذ سنوات باستثناء توفيق فهو حي ولايزال في فرنسا. وابلغها ان زوجها هو المهندس مهدي عجاني الذي قتل سنة 2000 .
وأضاف الطبيب النفسي quot;هناك شيء في حكايتك يفوق الطبيعة وانا لم اتوصل اليه. سفرك اثناء غيبوبتك. تواصلك مع الاموات. الحياة الاخرى التي عشتها. كل شيء اصدقه منك لكنني لا اجد له تفسيرا.quot; ترد بقولها quot;ثلاث سنوات طارت من عمري. سنة من المعاناة مع مود لم تكن سوى وهم. ايس ومعبري نحو الشهوة كان وهما هو الاخر ومهدي عجاني هذا الذي اجهل عنه كل شيء كيف تزوجته وكيف مات... هؤلاء الذين تعج بهم سنتي الوهمية من اين جاءوا واقتحموا غيبوبتي وحولوا سكينتي المرضية الى ايام صاخبة.quot;
وعند خروجها قصدت منزل اهل زوجها الراحل فأكدوا لها زواجها منه وحصلت منهم على صورة لها وله.. كما اكد اهلها ذلك لها. الطبيب خالد سليم سلمها ما كانت تكتبه في حالات معينة وروت به قصتها التي نشرتها رواية. سألته quot;هل يمكن للمخيلة ان تسخر من الجسد بهذا القدر.quot; فأجاب quot;بالعكس. المخيلة هي جزؤنا الذي لم يدجّن بعد. اما اجسادنا.. عقولنا.. عواطفنا.. احلامنا.. كلها اودعت سجون التدجين.quot;
قالت له انها كانت مطلقة quot;وسعيدة لانني عرفت اي طريق اسلك وقد تخلصت من قوقعتي العائلية.. من أسمال المجتمع... تريد ان تقول ان ما حدث لم يكن اكثر من مخيلة. ايعقل هذا.quot; الطبيب الذي يحترمها رد قائلا quot;نحن مجتمع يحتاج الى من يوقظ مخيلته.quot; اما جوابها فكان quot;انت تخيفني مرة اخرى فهذا يعني انني لن استنشق الحرية التي اريد الا بمقدار حجم مخيلتي.quot;
اما كيف انتهت الرواية فبعجائبية جاءت على الشكل التالي. في اخر جلسة لها مع الطبيب سلمها امرا بانها تستطيع الخروج نهائيا من المستشفى معربا عن اسفه quot;لانني اخرتكما كل هذا الوقت.quot; تنظر كي ترى من هو الثاني فاذا به توفيق. توفيق الذي كان في باريس. باريس التي لم تعرفها ولم تزرها الا خلال غيبوبة السنوات الثلاث. quot;ركبنا السيارة معا وحين تحركت بنا احتضنت ذراعه واسندت راسي الى كتفه وانا اشم رائحته. نفسها تلك الرائحة التي جعلتني اشتهيه واستسلم له واتمناه دائما ان يكون بقربي.quot;
التعليقات