يُغريني في هذا المقال أن اتحدث عن أخوة يوسف الذين وقفوا على مقربة من الجبّ.... وهم يتحاورون في أمره بين مؤيد لقذفه وبين رافض، واحسب أن هذا الجدل يؤسس ويثبت أهمية هذه الشخصية في السياق الحياتي لهؤلاء الأشخاص الذين غالبهم الشر في رميه في الجبّ، ولعلي في سحب هذا المعطى التأريخي محاولة من اجل التوقف عند حادثة تقترب من فعل أخوة يوسف، وهي وفاة الشاعر يوسف الصائغ، حينما اصّر مثقفو العراق على دفنه في الحياة والممات لاسباب تخرج عن فعل الابداع ، فلا نحسب من خلالهم إلا المواقف التي تعكر جوّ الحياة الثقافية المليئة بالحب والسعادة..
حينما كانت السلطة الظالمة حاكمة لهذا البلد.... استمرت إذاعة المعارضة تنشد وتناشد بعذابات ذلك المبدع يوسف الصائغ، وحينما تحرر البلد التفوا من حوله ليرموه في الجبّ.
الثقافة العراقية على وفق هذا الأداء ثقافة تتخبط في أجواء الإدانة، بحيث أفضى هذا إلى أن تكون كلمة المثقف خارج سياق الفعل الإبداعي.
مما يزعجني ويعكر قلبي في هذا المقال ان أناقش بعض المقاطع التي اهتمت بتغطية حدث وفاة الصائغ، والتي ابتعدت عن تقييم تجربة هذا الشاعر الذي احسبه قدم للقصيدة ما بعد الريادية الشيء الكثير، وتنطلق اغلب تلك الأخبار من ذلك الوازع الحزبي الذي يتعامل مع خبر وفاة الصائغ لا كأنسان وإنما كرفيق حزبي.... وهي كتابات لن تعكر من اسم الصائغ وتجربته التي ستظل في ضمير هذا الزمان... وتبين إمكانية ما تتمتع به ارض السواد من طاقات شعرية استطاعت تجاوز شعراء الريادة ( السياب، البياتي، نازك ).
هل نقف لحظة صمت حيال ما قدمه الشاعر يوسف الصائغ من ابداع يستحق التميز ؟ ومتى سيكرم هذا البلد مبدعيه ؟
مقالات عدة تكلمت عن الصائغ بعد وفاته ولم تنصفه، وهي تكيل عليه الاتهامات بوصفه بعثيا تارة وخائنا تارة اخرى.... بحيث تحول المبدع العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص الى خصم وحكم في الوقت نفسه، لنقرأ مثلا ما أورده سعدي يوسف في مقالته عن الصائغ : يوسف الصائغ مبتدئا : اوراق الخريف :( كتب الصائغ قصيدته، متأخراً، على مشارف الأربعين تقريباً،قبلَها لم يكن ذا تاريخٍ حتى في محاولة الشعر، لذا تعيَّــنَ عليه أن يبدأ متماسكَ الأداة، جهيرَ الصوت، hellip;
لكنْ، أنّــى له ذلك، وهو مَن هو)) hellip; بلا أوراق اعتمادٍ ؟
اذا كان سعدي يوسف في تقييم صديق الابداع بهذه الصورة، فكيف سيتكلم الاخر عنه، وهو يعلم جيدا ما للصائغ من اضاءات ابداعية تجاوزت حدود الكثير من المبدعين، فضلا عن تمسك الصائغ بمقولة ( انا تلميذ سعدي يوسف ) في اكثر من حوار.
كل الذين تحدثوا عن الشاعر يوسف الصائغ، اجادوا الحديث عنه بوصفه حزبيا، في حين تناسى الكل ما قدمه الصائغ من ابداع يوازي ابداع جيل الريادة، وازيد في قولي... يزيد ما قدمه المتحدثون من اتهامات... فهل استطاع المتحدثون ان ينجزوا في زمن الطاغية رواية مثل رواية السرداب رقم 2 التي دلّت على ابداع صاحبها وادانته الواضحة لمعتقلات السلطة، وهل من شخص استطاع القول وبصراحة وهو داخل بيئة السلطة :
اعطني جواز السفر
وقل لي :
انت حر....
لا تجعل وطني......
سجني
فالمسجون يفرْ
كل من حاول ان يغمد مديته في جسد الصائغ قد تطلع إليه بوصفه كائنا حزبيا، وهذا ادعاء لا يخضع لمقياس الابداع...
الكل اغمض قلبه عن الصائغ المبدع، بما فيهم اتحاد الادباء الذي يعدّ الصائغ احد مؤسسيه، بحيث بخلوا عليه حتى بقطعة قماش سوداء تؤبنه..... وهذا ديدن الاتحاد الحزبي، واخلاق امينه العام الذي رفض - آنذاك - وهو في سجن الحلة الاحتفاء بالشاعر الكبير بدر شاكر السياب،لانه خارج اسوار الحزب الشيوعي وبعيد عن منطقة انتمائه...
حينما التف اخوة يوسف حوله، كان ثمة تفاوض بين القبول برميه في الجبّ ودون ذلك، لكننا في العراق الجديد قد اتفقنا وباجماع على قبره في الحياة والموت...
واليكم ما كتبته الاقلام حول وفاة الصائغ بين مؤيد وعدو ... لتطلّعوا على الطريقة التي عُذّت بها مسرحية اعدام الصائغ العظيم، والغريب في امر هذه المسرحية مطالبة بعض الكتاب والشعراء المغفرة ليوسف وهو في قبره.... وهذه هي نكتة العصر.... فبماذا ستفيد المغفرة للصائغ...وهو في القبر يئن من غدر الاصدقاء ؟ وهو الذي قال لي في لقائي معه ( اخوتي سيتخلون عنّي ويبيعونني للغرباء ) :
اعداؤه ومناصروه :
1- جريدة السفير -محمد سعيد الصكار -تحت عنوان يوسف الصائغ يغادرني بلا وداع 20/12/2005
- لندع ملابسات الظروف التي ذهبت به بعيداً عن مسافة الحلم، ولننظر الى ذلك العطاء الثر المتوهج لهذا الشاعر الذي خلق شاعراً، واتكأ على كونه شاعراً فأبدع وأنجز، وتجاوز، ضعفاً او عناداً، ما كنا نشترك في تأسيسه، وترك لنا، رغم ذلك، ذخيرة ثمينة من ثروته الأدبية.
2- نبيل ياسين - ايلاف - يوسف الصائغ - لاقل وداعا رغم كل شيء - 18/12/2005
-كان ضحية الاستخفاف بحياة الاخرين من قبل حزب اخطأت سياسته في التقدير والسلوك ومن قبل حزب حاكم يعتبر اسالة دماء ضحاياه تطهيرا مقدسا وقربانا لصنم الوهم الايديولوجي.
-لقد سامحوا جلاديه ولم يسامحوه.
-اذا كان يوسف قد اصبح بعثيا مرة فقد اصبح الحزب بعثيا مرتين.
3- الاخطاء في تقدير حياة الصائغ، فالصائغ لم يكن مقيما في سوريا..، لان زيارته كانت لتغيير الجو :باسم النبريص - ايلاف - المظلوم مرتين - 18/12/2005
-بعد الحرب ورحيله إلى دمشق، بدأت متاعبه الصحية الحقيقية، وبدأ الجسد يتهاوى تحت ثقل السنين، والربو، وثقل تداعيات الحرب والرحيل.
المغفرة ليوسف بعد موته :
- ربما لا يغفر له المثقفون العراقيون هذا الموقف، وأنا أعذرهم ههنا أيضاً. لكني، مع ذلك، أطالبهم بالمغفرة.
- إننا نطالب باحتضان يوسف الصائغ من قبل مثقفي العراق، رغم زلات الرجل وهفواته. فهو لم يكن بالمنافح الأيدولوجي عن الطاغية، بل كان يتقي شره وبطشه، ما أجبره على مديحه أحيانا.
4- ومن اكثر المتابعات سخرية ما كتبه ماجد السامرائي جريدة الحياة - يوسف الصائغ راحلا بقسوة - 16/12/2005، حيث انطلق في التعبير عن رؤية الصائغ للحياة وما يدور في العراق من خلال رؤيته هو... لا من خلال تصور الصائغ :
- كان حزيناً لما يرى من تدهور أصاب الحياة وخراب عمّ بعض النفوس، كما كان حزيناً على laquo;أيامraquo; راهن على قوتها، فإذا به يجدها اضعف من قصبة تنكسر أمام أول ريح هبت عاصفة على ارض عرف الوقوف عليها بثبات.
5- تعدّ مقالة الاستاذ عبد الاله الصائغ صادقة في مساراتها ومضامينها لانه تحدث عن الصائغ المبدع بصدق، لاسيما قوله : ( لم يمت يوم الاربعاء 14 ديسمبر كانون اول 2005 ولم يدفن في مقبرة الغرباء العراقيين في سوريا، لم يمت يوسف كما يبدو لمن رثاه وحزن لرحيله وأيمن الكلمة ! مات الفتى يوسف حين ماتت زوجته الأروع ( جولي ) سيدة التفاحات الأربع في 14 آذار 1976 ! لقد بكاها مر البكاء ورثاها أعظم الرثاء وبعد ان حم الليل فتح يوسف قبر زوجته ونام الى جانبها واغمض عينيه الى الأبد كما فعل احدب نوتردام حين دفنت حبيبته غجرية المعزى!! ) يوسف الصائغ اهذا اذن كل ما قد تبقى- عبد الاله الصائغ - كتابات 19/12/2005
وهو من زاوية اخرى يتحدث عن صورة الصائغ خارج فعل الابداع ( من قال ان يوسف الصائغ كان شيوعيا فقد صدق ومن قال ان يوسف كان عراقيا حميما فقد اصاب ومن قال ان يوسف الصائغ صار بعثيا فقد جانبه الصواب ! نعم يوسف مالأ البعث وتغزل بصدام كما فعل عبد الرزاق عبد الواحد لكنهما ويا للمفارقة لم يشتما صداما بعد سقوطه) !
.
6- من اغرب ما كتب من تغطية لحياة الصائغ ما جاء في جريدة الحياة - رحيل الصائغ شاعر الحداد والخيانة والحروب الخاسرة - 15/12/2005،بيار ابي صعب، حيث ذكر ولادة الصائغ في البصرة في حين ولادته: الموصل، اضافة الى اعتبار سوريا المنفى الاخير له، في حين كانت زيارة الصائغ لسوريا لتغيير الجو لا اكثر، وانا على دراية بالامر عبر اكثر من اتصال بالشاعر، ومن اكثر الادعاءات سخرية التي يذكرها الخبر( عرف يوسف الصائغ السجن في ستينات القرن العشرين، أيّام انتمائه الى الحزب الشيوعي، ولازمته أطياف زنزانته في laquo;نقرة السلمانraquo; طويلاً، حتّى بعدما صار من أعيان نظام صدّام حسين إلى جانب حميد سعيد وعبد الرزاق عبد الواحد وآخرين) فكلمة (اعيان) تخرج الصحفي عن دوره في الاتزان في كتابة الخبر، والذي لا يعلمه الصحفي :ان الصائغ قد سجن إبان البعث وتم اخصاؤه، وجاءتني هذه المعلومة من خلال زوجته صباح الخفاجي - قبل وفاته وفي زمن حكم البعث - في بيته الذي يقع في حي اور ، فضلا عن قتلهم حبيبته ( هيام ) نكاية به ndash; وكان يحدثني الصائغ عنها ولحظة الحزن ترافقه...وهو يقول : اتوقع يا اثير ان تدق هيام باب بيتي في ايّما لحظة.... لقد اختفت فجأة.
ويذكر الصحفي:إن الصائغ من اصحاب الجبهة الوطنية آنذاك... وبحسب علمي من الصائغ نفسه... فانه: كان من اشد المعارضين لها...
7- مقالة الشاعر محمد علي شمس الدين: ثمة غرابة حقيقية من هذه المقالة... تنبع من غفلة الشاعر العربي في تقييم قصيدة معلم الصائغ... إذ يعتبرها انموذجا مدحيا بحق الطاغية... وهذا ما لا احسبه.... واقول للشاعر الذي احبّه كثيرا محمد علي شمس الدين... - على مهلك - يا شاعرنا .... معلم الصائغ... هو ذلك المعلم الذي يدرس طلابه حب الوطن والمظاهرات... والموت من اجله، لكن وللاسف يموت المعلم - في متن النص -(فالمعلّمُ مات.../ ولم يبقَ/ غيرُ غبار الطباشير،/ والكلمات ) .... اقول للشاعر الذي احبه- مرة اخرى -..... هل قرأت حقا معلم الصائغ؟، ولو كان المعلم صدام حسين لما قال عنه الصائغ داخل النص ndash; مات المعلم - ....اليكم ما اورده الشاعر محمد علي شمس الدين :
عودة الى laquo;مالك بن الريبraquo;... الشاعر العراقي يوسف الصائغ حياً وميتاً
محمد علي شمس الدين الحياة - 08/01/06//
أقول: إن يوسف الصائغ في مراثيه لزوجته جولي التي كانت معه في حادث سيارة في أضنة في تركيا، وكانت قد اشترت أربع تفاحات، انتثرت على التراب بعد موتها، فرثاها في قصائد laquo;سيدة التفاحات الأربعraquo; هو يوسف صائغ (آخر) حقيقي، غير شاعر laquo;المعلمraquo; والمدائح الصدامية.
واخيرا... ثمة حاجة لتدوين سيرة الصائغ الحياتية التي تنطوي على الكثير من المغامرات والتي تحمل طابعا اشكاليا جديدا من اشكاليات الراهن الشعري... رحمة الله عليك يا يوسف...
ملاحظة: هنالك الكثير من المقالات التي لا تستحق ان نتوقف عندها.
بكاميرا كاتب المقال
التعليقات