وقع بيدي كتاب صادر عن لجنة الأحتفال بذكرى الأمام علي ( ع ) في المعقل بالبصرة صادر في العام 1957 تصدرت الكتاب صورة للعلامة الشيخ محمد جواد السهلاني رحمه الله وصور للعديد من الوجوة الرسمية والأجتماعية في البصرة، ابتداءا من الاستاذ سامي فتاح مدير الموانيء الذي صار وزيرا للداخلية ومزاحم ماهر متصرف اللواء السابق والسيد محمد جواد جلال مدرس الادب العربي بثانوية العشار والحاكم ضياء شكارة والعلامة الحجة محمد جمال الهاشمي والاستاذ جعفر الخليلي والشاعر الشيخ عبد المنعم الفرطوسي والنائب عبد الجبار الملاك والكاتب غالب الناهي وحفيد امير عربستان الشيخ سلمان عبد الكريم، غير أن ما أستوقفني في الصفحة ( 54 ) من الكتاب المذكور عنوان في دوامة الذكرى، وكانت الصورة لشاب نحيف ورشيق لم يكن الا الفنان المبدع والشاعر الأستاذ محمد سعيد الصكار، وهو نفسه الفنان الكبير والشاعر والقاص محمد سعيد الصكار، وكنت قد كتبت مادة عن الأستاذ المذكور أعبر فيها عن أعتزازي بفنه وشعره ونضاله السياسي ومواقفه الوطنية، وكانت للشاعر المذكور قصيدة بهذه المناسبة يقول فيها :
إمام الهدى، ذكراك مفخرة الهدى ستبقى على الدنيا حديثا مخلدا
لك المجد يروي قصة سرمدية تزيد على مر الدهور تجددا
وتنفح أرجاء الوجود بطيبها وماطيبها الا البطولة والندى
فلله عمر ضم تاريخ أمــة أقامت على هام الكواكب سؤددا
ودكت صروح الظلم وهي فتية وشقت دياجير الضلالة بالهدى
وباتت تذيب الظلم في عتماتها وأضحت لأبصار الحقيقة مرودا
يكحل أجفان الأنام بنوره ويستل منها زيفها والتمردا
تبارك سيف في يمينك مشهر به ضل مقياس الضلال فما أهتدى
وهبت لرفع الحق نفسك راضيا وجاهدت حتى ضج من سيفك العدى
وأثبت دين الله بين عباده ونظمت من آياته ما تبددا
فهل ينكر التاريخ فيك مجاهدا أقام على الكفر الوجود وأقعدا
وهل ينكر الحق الذي كنت صنوه نضالك أو ينسى لك الفضل واليدا
وأنت الذي أثلجت صدر محمد بما سر بين العالمين محمدا
ففي كل نصر كنت تبعث غصة يخر لها قلب الضلالة مجهدا
وتمنح للأسلام عينا قريرة وتترك للباغين طرفا مسهدا
وماهي الا طرفة من حسابه بنيت بها للحق صرحا مشيدا
إمام الهدى، مالي إذا كنت ملهمي أرى الشعر يكبو والشعور مقيدا
وإن رمت قولا فيك غابت معالمي بأفقك حتى لا أكاد أرى مدى
كأن آله العالمين أذا أرتأى وجودك. آلى أن تكون معقدا
لذلك أولاك الثناء فأفحمت مشاعرنا حتى أستحالت تبلدا
هو المجد فلينعم فؤادك أنه جدير بأن يبقى الحياة ممجدا
تذكرنا ذكراك سالف عزنا وليت لنا عزا ndash; لعمري ndash; مجددا
وأنى نرى للعز ظلا وبيننا نفوس ترى في صفقة العز موردا
سنجتر ماضينا ونعلن للورى بأن بقايا أمسنا تكفل الغـــــدا
وأنى لنا مما أشاد جدودنا طريقا الى صحن الخلود معبدا
فما شأننا فيما يسمى (( تقدما )) وما شأننا فيما يسمى (( تجددا ))
هو الفخر، الا ان فيه مرارة هو العيش الا انه يشبه الردى
وكنت قد نشرت مادة بتاريخ 7 شباط 2002 في جريدة الزمان بعنوان ( محمد سعيد الصكار.. تجربة متميزة في جماليات الخط ) بينت فيها جزء من موهبة هذا الفنان الشاعر العراقي الرائع والشامل المتوزع بين الخط والرسم والشعر والقصة والترجمة، وضمنتها بعضاً مما يستحقه منا نحن المتابعين لمواهبه المتعددة، وهو بالأضافة لكل هذا مبعث أعتزاز لكل عراقي غيور ولم يزل حاملاً لمشعل الأبداع والعطاء.
ومن مفارقات الزمن أن تصلني في لحظة المطالعة رسالة محبة من الأستاذ الكبير محمد سعيد الصكار، فأتصلت بالشاعر هاتفياً لأتحدث معه بخبر الكتاب والقصيدة، وأستذكر معي ظروف القصيدة والشعر والشعور الوطني المتنامي في تلك الفترة، وكان الشاعر في بواكير شبابه يتعرض لمضايقة الشرطة السرية والأجهزة الأمنية بسبب مواقفه الوطنية، كما كانت السلطات في العهد الملكي تمنع عليه ألقاء القصائد دون أن يمررها على الرقيب، مما يدفعه احيانا الى ألقاء قصيدة غير القصيدة التي دفعها للرقيب، وقد أهداني الشاعر قصيدة القيت في العام 1956 بعنوان ( قفوا ) خصني بها و يقول فيها :
أفق وأبعث أمانينا وعطر جــو نادينا
وطف نغما من الخلاق أبــــدع فيه تكوينا
وعد أنشودة حمراء في ثغــــــر المفدينا
وسل عنا طيوف المجد : هــل خابت مساعينا
وهل أنا أبتدأنا بالأذى مـــــن ليس يؤذينا ؟
أبا الأحرار لست أروم في ذكراك تأبيـــنا
فسخف أن نؤبن من سيبقى الدهر هادينا
فلست بغائب عنا وطيفك في مآقيـنا
وهاهي روحك السمحاء أيمانـــاً تغذينا
وصوتك داعياً للحق ينشرنا ويطوينــــا
ودعوتك التي دوت لها أرجاء واديــــنا
غدت صخابة هوجاء تنتظم الملاييـنا
وها نحن هنا في حمأة الطغيان باقونـــا
هنا نستلهم العـــزم الذي أيقظته فينا

أبا الأحرار نحن هنا أناس ترهب الدينا
هنا نحن صنوف العسف والطغيان تصلينا
هنا نحن ضروب الكبت والحرمان تشقينا
ففينا زمرة تغري على الجهل المساكينا
الأ يازمرة جهلت وحتى كيف تغويــــنا
تخذتم من مجال الدين سهما فيه ترمونــا
وشرعتم لتمتصوا مواردنـــا القوانينا
فما شئتم هو النهج الصحيح وليـس ما شينا
كأن الدين لم يخلق ليسعدنا ويحمينـــا
ولكن خلق الدين ليحمي المستغلينـــــا
كفى أخجلتم الأخلاق والقانون والدينــــا

هنا نحن أبا الأحرار لا أرهاب يثنينا
هنا نحن الدم الفوار يلتهم الشرايينا
هنا نحن أنبثاق الثأر من أعماق ماضينا
هنا نحن الصدى الهدار يصرخ بالمضلينا :
قفوا ! لابوركت كف سقتنا البؤس تلوينــا
قفوا ! قد آن أن تجني ثمار الجهد أيدينـا
قفوا ! قد آن أن تنعم بالخصب مراعينـــا
قفوا ! لاتكفروا في من تخلى عنكم حينــا
قفوا ! لاشيء بعد اليوم بالأحلاف يغرينـــا
سنرمي حمم الحقــــــد بوجه المستبدينا
ونسقي الباغي الختال زقوماً وغسلينـــــا
فما الصمت الذي أستمرأ منا أو تغاضينــــا
سوى لين رجونا أن نرد به أعادينــا
ولكن ليس في الباغين من يستأهل الليــنا

وقد وجدت في هذه القصيدة التي كتبها الصكار في العام 1956 عند زيارة رئيس الوزراء التركي التركي عدنان مندريس لترتيب أتفاقية حلف بغداد، و تجسيدا لما يعانيه الأنسان اليوم في العراق من أرهاب، ومن يتابع كلماتها سيجد أن الشاعر جسد حالات التحدي والتصدي للأرهاب الذي يعيشه العراقي اليوم قبل حوالي 50 عاماً، وقد تم القبض عليه بسببها وتمت أحالته الى المحاكم بتهمة بث روح البغضاء والتحريض ضد الحكومة، الا أن وجود العناصر الوطنية التي تدافع عن الوطنيين وتتعاطف معهم ومنهم حاكم التحقيق الاستاذ مهدي العمار الذي أطلق سراح الشاعر بعد 12 يوما من التوقيف.
ومن الجدير بالذكر أن هذه القصيدة تم تهريبها الى المنصة ليلقيها الشاعر بعد ان كان قد سلم اللجنة الأمنية قصيدة أخرى، والقصيدة غير منشورة، ومن يتمعن في كلماتها والزمن الذي قيلت فيه يدرك ليس فقط الشعور الوطني المتنامي في روح الشاعر، وليس فقط الشجاعة ، انما تتجسد فيها روح التحدي والجرأة في تلك الفترة، ونتمنى أن يتم تدوينها ضمن أوراق المذكرات التي يكتبها الشاعر الفنان محمد سعيد الصكار الذي أصدر باكورة أعماله الشعرية في ديوان ( أمطار ) في بغداد، ثم أعقبه في العام 1968 في بيروت مجموعته ( برتقالة في سورة الماء )، ولعله يجسد بعض ملامح تجربته بشكل مختزل في كتابه ( القلم وماكتب ) وهو مجموعة من مقالات في الشعر واللغة ومشاكلها وعن الوطن والهجرة فيختزل ذاكرة ويطرح مواقف، كما أن أخوانيات الصكار تشكل معلماً من معالم شخصية الصكار المحببة للنفس والتي تحتوي ذطرياته مع بعض الشعراء والأدباء، كما أن كتابه ( أيام عبد الحق البغدادي ) المليء بالمفارقات والشعر والتوثيق الساخر لأحداث عشناها جميهنا ومرت علينا، غير أن الصكار دونها بطريقته الحلوة والتي تشيع البهجة والراحة في النفس التواقة لأحاديثة وشعره وقصصه وسرده للأحداث كما في خطوطه الساحرة التي تشكلها أصابعه العراقية الطاهرة.
ولم يتوقف العطاء الإنساني لدى محمد سعيد الصكار، فيرسم لوحاته البهيجة ويلوي حروفه المتميزة الجميلة ويرسل أبياته الشعريه مع شموع الفرح فوق صفحة الماء ويمعن في أن يجعل حتى جهاز الكمبيوتر يتحدث بلغة ترسمها أنامل الصكار بأمتياز، كما يجعل السخرية وحبه للطرفة مبعثاً للتوثيق في قصصه المليئة بالمفارقات والحكمة، وتجد في كل تلك العطاءات الأنسانية والمواهب الفريدة والأبداع الرائع يتجسد أسم العراق فوق حروف أسم محمد سعيد الصكار المنذور للعراق ابداً.