مناجيات هاملت السبع: الأولى/ الثانية / الثالثة / الرابعة / الخامسة /

قد يمثّل الفصلُ الثالث في مسرحيّة هاملت خريفاً له فزعُ نواقيس الموت. الأوراق تنفصم مشيماتها. تسقط وتتعفن. الثمار تنضج متفلعة. تمامها نهايتها. البشر، بالمثل، يتفكّكون ويتساقطون جارحةً جارحة. قال هاملت
مخاطباً أمّه:
quot;hellip;أيّ شيطانٍ أغواكِ
وأنتِ تلعبين معصوبة العينيْن؟
بصرٌ بلا بصيرة وبصيرةٌ بلا بصر
سمع بلا يديْن أو عينيْن، شمٌّ بدونهما جميعاً
أو لو كان هناك أيّ جزءٍ
من إحدى الحواس يعمل، لمنع حالة ًبليدةً كهذهquot;.

تفسّخٌ وتحلّل. العفونة عامّة. زاكمة. صادمة. quot;مستنقعات عفنةquot; بنباتاتها. متفحّمة باليرقان. العفونة في اللحم النباتي، كما هي في اللحم البشري. القُبُل quot;كريهة الأبخرةquot;. quot;القيح المتعفّن يدمّر كلّ شئquot;. حتى الملكة quot;تعيش في العرق الزنخ لفراش ذفِرquot;. الملك بدوره يصيح:

quot; جريمتي نتنة، بلغت رائحتها السماء
نزلتْ أقدمُ اللعنات على البشر
من جرّاء قتل الأخ لأخيهquot;

(أنظر سفر التكوين : حينما قتل قايين أخاه هابيلquot;.)

بعد اعترافات الملك هذه تأتي المناجاة السادسة. توقيت دقيق لا ريب. ولكنْ لماذا لم يقتلْه هاملت بعد اعترافاته؟ من المعروف في الديانة المسيحية، أنّ المذنب إنْ ندم وتاب فعلاً، فقد تُغفر ذنوبه، ويذهب إلى الجنّة، كما جاء في إنجيل لوقا: 5 : 30 ndash;32: quot;فأجاب يسوع وقال لهم لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى.لم آتِ لأدعوَ أبراراً بل خطاة إلى التوبةquot;. وجاء في إنجيل متّى: 6 ndash;15 :quot; وإن لم تغفروا للناس زلاّتهم لا يغفر لكم أبوكم زلاّتكمhellip;quot;
لهذا السبب الديني في الظاهر، أحجم هاملت عن القتل، فالملك كان يصلّي ويطلب الغفران:

quot; ماذا لو هذه اليدُ اللعينة
باتت أثخنَ مما هي، بدماء أخي، أما
من مطرٍ كافٍ فيك أيّتها السماء الرحيمة
ليغسلها بيضاء كبياض الثلجquot;
ثمّ يقول:
إذنْ لأتشجعْ. سيُغفر لي جرمي
إذا طلبتُ رحمة السماء ndash;آه،
أيّة صلاة ستعينني في حالتي؟quot;

كان هاملت يسمع آبتهالات الملك وتضرعاته، فإنْ هو قتله، فإنّما ستصعد روحه إلى الجنّة، وهذا ما لا يريده هاملت. المفارقة أنّ الملك الأصلي حينما قُتِل كان quot;منغمساً في الملذّاتquot; Full of bread . ولم يَدَعْ له قاتله وقتاً للتوبة أو طلب الغفران. في المقاطع التالية المترجمة نرى كيف سرد شبح الملك (الفصل الأوّل ndash;المشهد الخامس) لهاملت قصّة قتله:

quot;هكذا وأنا نائم، حَرَمَتْني يدُ أخي
من حياتي، من التاج، من الملِكة
قُطِعْتُ وأنا حتى في عنفوان خطيئتي
لم أعترفْ بخطاياي ولم أطلبِ الغفران
ولم أتطيّبْ بالزيت
وأُرْسِلْتُ إلى السماء
وكلّ ذنوبي فوق رأسيquot;

لهذا السبب وُضِعَ في المطهر للتخلّص من تلك الذنوب. بكلمات أخرى، إنّه لم يتسلّم القربان المقدّس. يبدو أنّ الظروف بكاملها كانت مهيّأة لهاملت لأخذ الثأر لأبيه من عمّه. فمن ناحية فإنّه تأكّد الآن مَنْ فاعل الجريمة، وأنّ زواج أمّه سفاح. بالإضافة إلى تنكّر أوفيليا له وإنْ على مضض. لم يبقَ له إلاّ منفذٌ واحد. فهل سيُقْدِم على قتل عمّه؟ ولكن عمّه كان يصلّي ويطلب الغفران. ما الذي سيقوم به هاملت؟ الغريب أنّ هاملت يتصرّف بحكمة في أشدّ الظروف انفعالية. لا ينتهك عرفاً ولا قانوناً ولا معتقداً دينياً مهما اختلف معه، ومهما اصطبغ موقفه الفلسفي من الحياة وبالأخص من البشر باللا جدوى. وإذا كان هناك تجاوز فعذره أنّه كان يمثّل دور المجنون. لكنْ هل تلبّسّه دور المجنون؟ هل الدور بحدّ ذاته أثّر فيه؟ أم أنّه هو الذي، دون وعي، أعطى أبعاداً جديدة للجنون؟
أهمّ الأدوار التي مثّلها هاملت لحدّ الآن وأصبحت منصهرة في شخصيته هي أوّلاً كفره بالبشر، كجنس ،وبعدها، وثِق من لا جدوى الحياة، وبعدها العبثية.لم يبقَ في الدنيا من يقين في نظر هامات كما يبدو إلاّ الفنّ. إنّه الصدق الوحيد. مهما دار الأمر، أراد هاملت أن يعيش الحياة بشروطه هو، وتلك مأساته الأصلية، أمّا مأساته الآن، فكيف يعيشها بشروطها، كما سنرى في هذه المناجاة:

المناجاة السادسة

quot;قد أفعلُها في هذا التوقيت المناسب، وهو يصلّي الآن
والآنَ سأفعلُها. ( يستلّ خنجره)
وهكذا تصعدُ روحُهُ إلى السماء.
وهكذا أكونُ قد أخذتُ بثأري.
الأمرُ يحتاجُ إلى التروّي:
رجلٌ شرّيرٌ يقتلُ أبي، ومن أجلِ ذلكَ
سأقوم أنا آبنُهُ الوحيد بنفس ما قام به الشرّير
وأُرْسلُهُ إلى الجنّة.
ليس هذا ثأراً بلْ مكافأة
قَتَلَ أبي وكان غارقاً في ملذّاته
لم يجدْ وقتاً للتكفير عن ذنوبِهِ
وكلّ خطاياه متفتحة مثل ريعان النباتات في شهر مايو
وكيف سيكون حسابه، لا يدري إلاّ الله.
ولكنْ في تقديرِنا سيكون حساباً عسيراً.
وهل أكون قد ثأرتُ إنْ أنا أخذتُ روحَهُ وهي مطهّرة،
وحين يكون جاهزاً للآخرة.
لا.
إلى غمدِك يا سيفُ، انتظرْ فرصةُ أكثرَ هولاً،
حينما يكون نائماً مخموراً، أو فريسة شهوةٍ جامحة
أو في متعةِ سفاحٍ في فراشه
أو في لعبة قمارٍ شاتماً، على وشك القيام
لا أمل له بعدَهُ بالجنّة
عندئذ إضربْه يا سيفُ، وليرْفسْ بعقب قدميْه السماء
ولتكنْ روحه لعينةً وسوداء
كالجحيم الذي هي ذاهبة إليه. أمّي تنتظرُ
صلاتك دواءٌ يطيلُ أيامك السقيمةquot;.

ثمة اختلافات في الترجمات العربية لكثير من المصطلحات الإنكليزية في هذه المناجاة. على سبيل المثال، ترجم جبرا إبراهيم جبرا السطرين التالييْن:
A took my father grossly, full of bread,
With all his crimes broad blown, as flush as may;

quot;لقد أتى أبي غرّة، وهو ملئ بخبزه
وخطاياه مفتحة الأكمام كلّها محمرّة كخدّ أيّارquot;

أمّا محمد مصطفى بدوي فترجمها على المنسوقية التالية:

quot;لقد اغتال أبي حين امتلأت بطنه بالطعام والشراب
وكانت ذنوبه في أوجها وعنفوانهاquot;

ما معنى، أو ما أهميّة أن يُقْتل الإنسان وهو ممتلئ بالخبز؟ هل لها دلالة دينية؟ وإلاّ هل لها ثقل أدبي؟ في ترجمة جبرا خلا المغزيان، الديني والأدبي. وما دام هذا المعنى الحرفي غير مقبول وسطحي فلماذا لم يراجع جبرا الشروح الشيكسبيرية وما أكثرها! أما السطر الثاني :quot;وخطاياه مفتحة الأكمام كلّها محمرّة كخدّ أيّارquot;، فقد اجتهد المترجم فأضاف ثلاث كلمات: الأكمام، ومحمرّة، وخدّ.
ما من أكمام في الصورة لأن الأزهار في كامل عنفوانها. و في : quot;كلّها محمرةquot; جعل المترجم الربيع بلون واحد وهذا ما يتعارض مع ألوان الملذات المختلفة.بالإضافة، لا وجود للون الأحمر في الأصل. الحمرة كما هو معروف تدلّ على الشهوة، ولم تكنْ هذه من صفات الملك القتيل. الأغرب كيف حشر المترجم : الخدّ؟ من أين جاء بها؟ كيف تحوّلت الصورة النباتية إلى صورةٍ لحمية؟
يبدو أنّ هاملت أراد أن يخفّف من خطايا والده فشبّهها بمخاوقات الربيع النباتية التي لا بدّ منها في هذا الفصل. أما ترجمة محمد مصطفى بدوي quot;لقد اغتال أبي حين امتلأت بطنه بالطعام والشرابquot; فهي مثل ترجمة جبرا أخطأت في فهم المصطلح الإنكليزي Full of bread أي غارق أو منغمس بالملذّات. وعلى خطئها ثمّة خطأ فنّي آخر. فكلمة :quot;حينquot; تدلّ على أنّ القاتل كان ينتظر الضحية إلى أن تمتلئ (كذا!) بطنه بالطعام والشراب. لماذا انتظر؟ هل ثمّة مغزى ديني أو أدبي؟ أمّا السطر الثاني:quot;وكانت ذنوبه في أوجها وعنفوانهاquot; فقد حذف المترجم شهر مايو، بلا مبرر. الربيع بما يبث في عروق النبات والحيوان من حيوية يجعل الملذات جزءأ من الطبيعية وكأنّ ذنوب الملك كانت عفوية لم يُقصدْ بها إيذاء أحد. ترجمة عبد القادر القطّ هي الأقرب إلى النصّ الأصليّ:

quot;لقد أخذ والدي غيلة وهو منغمس في لذائذ الحياة
كل خطاياه مزدهرة كازدهار الربيعquot;