كان من الممكن، أن نلتقي، قبل عشر سنوات: صانع تورتات مع زبونة مراهقة. وأن يتمّ ذلك، في تل أبيب، حيث تسكنين، أو بات يام حيث كنت أعمل. لكننا، بدلاً من هذا وذاك، ها نحن نلتقي بالصدفة، في لوديف الفرنسية، كشاعر يمثل بلده المغصوبة، وشاعرة تمثل بلدها الغاصب! إنه، حقاً، موقف كلاسيكي، لا نُحسدُ عليه كلانا! موقف، دعا غيري، إلى مقاطعةٍ وبيان استنكار، ودعا سواي، من الواقعيين العقلانيين، إلى [التحفظ] كحد أدنى. أما أنا وأنتِ، القادمان من هواء واحد، وتربة واحدة، ومزاج واحد ربما..فكان مُلتبساً علينا، أن نتصرّف، كما يليق بشعراء، ينتمون إلى أقلية نادرة، داخل شعبيهما. كان ذلك صعباً، ومُستهجَناً كذلك. مستهجناً من قِبل جزء من نفسي، قَبل استهجان الشعراء الفلسطينيين و العرب. المسألة إذن، تحتاج إلى تروٍ، وتمحيص أمور! لكنني، كما تذكرين، بادرت وتعرّفتُ عليكِ، لثقة أقرب إلى الحدس، بأشياء أخذتها من الكتب، لا الواقع. [ أشياء، تعب كاتبوها، وسهروا الليالي، وشحنوا بطارياتهم، لكي يكتبوها، على النحو الذي كُتبت به ] أشياء تقول بأن ما يجمعه الشعرُ لا تفرقه السياسة. وأن التحالف مع الشعر، أبقى من تحالفات السياسة، لأنه تحالفُ جمالٍ بالدرجة الأولى. إلتقينا، إذاً، يا تال. ربما على ريبة، للوهلة الأولى، وربما على برود متحفظ. لكننا التقينا مع ذلك. أي كسرنا حاجزاً، إن لم يكن موجوداً عندك، فهو موجود عندي، وعند معظم شعرائنا. كنت رقيقة نوعاً. وكنتُ أنا متحمساً، فهي مرتي الأولى، ألتقي شاعرة إسرائيلية، فيزيائياً. بعدما قابلت عشرات آلاف النساء من بني جلدتك كزبونات.
تال! وأنا أكتب الآن هذه الكلمات، أشعر بالأسى، لأننا لا نستطيع شرب كأس جعة معاً، في مقهى رصيفي، رغم أن ما يفصلنا من مسافة، لا يبلغ ال70 كيلومتراً. 70 كيلومتراً، لكنها سبعين سنة ضوئية!
أشعر، أيضاً، بالضجر. الضجر، من رواية كلينا للتاريخ! الضجر، من هواء بحر غزة الرطب والمالح. الضجر من ذاتي، وهو كما تعرفين، أسوأ وأسخف أنواع الضجر! يا لنا يا ال! لم يأخذ كلانا من اسمه ما يستحقه. أنتِ [ تالْ ] أي: [ ندى ] بالعربي، وأنا..إلخ. لا شك كانت عائلتانا متفائلتين باختيار هذين الإسميْن، دون سند من الواقع. وهي عادة المحبطين أيضاً: ما ينقصهم في الواقع، يراهنون عليه مستقبلاً، حاشرينه في الإسم، على أمل أن يعدي المُسمّى. حسناً تال. لدينا، كلانا، ما ينشغل به. أنت بكتابة ديوانك الشعري الثاني أو الثالث، وبالترجمة عن الإسبانية، رواياتٍ وشعراً، وأنا بكتابة مقالات سياسية وثقافية صحافية، بعدما هجرني الشعرُ، إثر عودتي من لوديف! هل تتصورين يا تال، شاعراً محترماً، يكتب مقالات سياسية وفكرية عابرة؟ أنا نفسي لم أكن أتمنى لغيري هذا المآل، ومع ذلك وقعتُ فيه! إنه شيء مؤسف قليلاً، ربما. في السابق، كنت أسخر من زملائي الشعراء، ممن يكتبون للصحف، وكنت أوبخهم ساخراً: ما لكم والوقوع في حمأة الفاني؟ هل لديكم فائض من الصحة والوقت، لتبذيرهما في ما يضيع بغروب شمس نهار النشر؟ طبعاً كانوا يردّون، وكأنهم أنصاف مُرسلين: إنه واجبنا الأخلاقي تجاه الحاضر! أي حاضر أيها الطيبون! الحاضر مقتلة المبدع، وشبكة عنكبوته القاتلة! لكنني، في الخامسة والأربعين من العمر، وهي سن أول الرماد ومبتداه، وقعت في محظورهم، وانبريت لمقارعة الحاضر، كنوع من التزام أخلاقي تجاه العالم! أهو انتكاس يا تال؟ على الأغلب، وبالأخص في واقع مزر كواقعنا. واقع يهين كرامتك الآدمية، ما إن تخرج من باب بيتك. إنه ضربٌ من المراهنة على quot; الخسران quot; والخاسر، كما يليق بشاعر وجودي، يرى الحق والنبل فيهما. مراهنة، أعمق غوراً في جيناتي، من غيرها. فأنا أحب هذا النوع من المراهنات أو الانهماكات، ولعلّ السبب أيضاً، يقيني اللازمني بعدمية وعبثية هذا الوجود من أصله. وبأن لا شيء يسوى، فالكل باطل وقبض ريح في الآخِر، مهما حاولنا توسل العزاءات والغنائم. لذا، فلنبق بجانب الحق والخير والجمال، ولو صاروا مطاريدَ هذا العالم. تال. الوضعُ التاريخي، وضعَ كلاً منا في مواجهة الآخر: واحد ضحية، والثاني جلاد. ولن نقترب من بعضنا بعضاً، إلا إذا وقف الجلاد [وهو هنا أنتِ بالطبع] في صف الضحية [أنا]. فبقدر اقترابك مني، كصاحب حق، بقدر ما تتكوّن وتتطوّر علاقتنا. مآل غير طبيعي بداهة، ولكنه واقعي مع ذلك. ومن حسن الحظ، أنك بمواقفك، تقتربين مني كثيراً. هذا على المستوى السياسي، فماذا عن الشعري؟ هنا، يأتي الإسنادُ والمدد. فما من شاعر حق، إلا ويعرف، أعمق وأنبل مما يعرف السياسيون. لذلك، فلا مشكلة لديك ولا لديّ في هذه المنطقة. فالجمال أو المثال، يوحّد أكثر من أطروحات وروايات السياسيين. هنا، أشعر فعلاً، برخاء ووفرة الأكسجين، فأتنفس راضياً مطمئناً. ولعل من حسن طالعي، أنني، منذ وهلة لقائنا الأول، راهنت عليكِ، كشاعرة وكمثقفة وكأنثى وكأم. والحق أنك لم تخذليني، لم تخذليني أبداً. فقد وجدت عندك، ثقافةً وإحساساً ومزاجاً ووعياً، ما أكد لي بأن مراهنتي رابحة. وبأن الشعر، هذا الرقيق اليوتوبي مكسور الجناح، من الممكن أن يربح أحياناً، وسط الأنقاض والعواصف. يربح، وبالأخص، إذا كان حامله ومنتجه واحدةً مثلك، تتمتع بجمال روحي هو ندرة بين البشر. تال. أقرأ هذه الأيام، فيلسوفكم العظيم باروخ سبينوزا. وأكتشف على فجاءة، مرور 350 سنة بالضبط، على تكفيره ونبذه ولعنه، من قِبل الكنيس اليهودي في ذلك الوقت. لكَم يعجبني ويؤثر فيّ رجل العقل والسلوك هذا. كنت دائماً مفتوناً به، وبصرامة وألمعية عقله الجبار. ولعل ما زاد من فتنتي به، سلوكه في الحياة، وتمسكه بمواقفه الكبرى، رغم ما دفع إزاءها، من ثمن أكثر من باهظ. الآن، في العام 2006، تمر الذكرى ال 350، لتجريد سبينوزا من يهوديته. ولا أجد أحداً يكتب عنها، لا من جانبكم ولا من جانبنا. أنتم، معذورون ربما، فهذا بالنسبة لكم، صار شيئاً من الماضي البعيد الميت. ولا يتصور يهودي الآن، أن يأتي يهودي آخر، ويكفّره. لكن هذا للأسف، ما يزال يحدث معنا. لكأننا، كمثقفين ومفكرين عرب، ما زلنا نعيش في العام 1656. ربما تندهشين من هذا القول. مع ذلك، إليك الأدلة والبراهين: لقد كفّروا نصر حامد أبو زيد، وهو مفكر عربي، وفرّقوا زوجته عنه، فقط لأنه اجتهد، وحاول النظر إلى الإسلام، من منظور تاريخي عقلاني. وقبله، قتلوا فرج فودة، وطعنوا نجيب محفوظ، والبقية تأتي. فهل ترين إذاً؟ نحن ما زلنا يا صديقتي نعيش في العام 1656، رغم أننا، مثل كل السلالة البشرية، نتنفس من هواء الألفية الثالثة! تال. ربما تستغربين هذه الطريقة في التفكير. لا بأس فأنا أعرف كيف تفكرين وبأي منطق عقلاني صارم. لكنها طريقتنا نحن يا تال ولا شك أنك تعرفينها! فنحن لم ندخل بعد في ملكوت العقل، ولم نؤسس تقاليد تحترمه وتضعه فوق كل اعتبار. لذلك تكثر انفعالاتنا ويكثر صخبنا الفارغ، دونما محصول، غير محصول ومنتوج الرثاثة. لديكم الصورة مختلفة: العقل أولاً وربما أخيراً، وبين الأول والأخير، ثمة الهناءات والإنجازات، وثمة الآداب والفنون، باختصار: ثمة الحياة الكريمة. فكل شيء لديكم معافى أو يكاد. على العكس تماماً منا، فنحن كل شيء لدينا مريض أو يكاد. لذا يعاني النخبوي العربي ما يعانيه المواطن البسيط، فكلاهما يعيش نفس الظروف، ويعاني من نقص الضرورات. ومع ذلك، هناك من يتهم هذا النخبوي بأنه مغترب عن سياقه التاريخي، وبأنه يعيش ترفَ البرج العاجي! يا لها من تهم! ليست ظالمة فحسب، بل هي داعرة ومسفّة، وقائلها مثلها. فعن أي برج عاجي يتحدثون! إن المثقف العربي، غالباً ما يكون مهمّشاً، محارباً حتى في لقمة أولاده. فهو أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يطبل للسلطة الفاسدة، أو يُضيّق عليه، حتى يحلم كل يوم بيوتوبيا الهجرة. وأنا على ثقة مدعومة بالوقائع، أن باب الهجرة لو فُتح، لهاجر المثقفون العرب في أول مركب أو طائرة. فهم، بوعيهم الشقي، أكثر الناس معاناة في هذا الجزء المريض من العالم. لكن هيهات أن تُتاح لهم هذه الأمنية. فباب الهجرة مغلق، أو موارب في أحسن الأحوال. عزيزتي تال: ما هي أخبار ديوانك الشعري الثاني؟ هل تتقدمين في كتابته؟ وهل تسير معك الأمور بشكل جيد؟ آمل لك ذلك. أما عن نفسي، فقد هجرني الشعرُ لأنني هجرته. ولذا لا أشكو منه، بل أشكو من بخلي النفسي، فالشعر بقدر ما تهتمين به وتعطيه، يعطيكِ. هذه هي قناعتي منذ عرفت نشوة كتابة البيت الأول، قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً. أنا الآن مشغول بمتابعة تفاصيل السياسة من حولي، وهي بحر محيط كما تعلمين، بحر يمكن له أن يغرقك، في أية لحظة. لقد صدق القائل بأن السياسة قذرة. ومع هذا، أجد نفسي مجبراً على متابعة نشرات الأخبار في الفضائيات، كل ساعة. فمن يدري: ربما يجيء أخيراً quot; غودو quot;! آه يا تال: ما أسوأ أن يتحوّل الشاعر منا إلى حيوان سياسي! لكَم أتمنى ألا يقع أحد من سلالتنا المقدسة في هذا المآل الوعر. مالنا نحن والسياسة؟ إنه سؤال يفتح على القرف، وإن كان غير واقعي بالمرة. فالسياسة خبزنا اليومي، وبالذات في هذه المنطقة الساخنة من العالم. تال: أمس اتصلت بك، وأودعت تلفونك رسالةً مسجلة، وأعرف أنك اتصلت في نفس اليوم بتلفون بيتي، لكنه يا صديقتي مقطوع، لذا هأنذا أتصل بك، اليوم، من تلفون العمل، ولكم أسعدني هذا الاتصال، فقد أخبرتني أن ديوانك الثاني، خرج أخيراً إلى النور، وقلت لي بأنك أهديت نسخة منه، لصديقنا المشترك، الشاعر سلمان مصالحة، وإنك لتأملين بأن يترجم لي بعضاً منه، للإطلاع، ومعرفة مناخاتك الشعرية. حسناً، سأتصل بالصديق سلمان، رغم مشاغله، وأطلب منه هذا. إلى ذلك، كَم فرحتُ لكِ، لأنك حصلت مؤخراً على جائزة محترمة، مادياً ومعنوياً، عن جهودك في الترجمة، من الأسبانية إلى العبرية. ما يساعدك على تدبير أمور معيشتك، ومتطلبات حياتك اليومية، كأم وكمواطنة، خصوصاً في بلد مرتفع الأسعار كإسرائيل. لكن ما أحزنني يا تال، هو حالك، كمترجمة، لا تأخذ ما تستحق من جزاء مادي، رغم تميزك في هذا المجال، ورغم أنك واحدة من أفضل وأكفأ المترجمين في بلادك. كنت أعتقد، وبعض الاعتقاد وهم، أن حالكم أفضل من حالنا، لكنك أخبرتني، أنك، كلما وصلت إلى التفكير الجدي، في الكفّ عن الترجمة، وترك هذه المهنة النبيلة القاسية، إلى غير رجعة _ جاءتك جائزة ما، من مكان ما، مثل غوث أو نجدة، كي تواصلي المسير الصعب في هذا الطريق. عموماً لعلك أحسن حالاً، نوعاً ما، من حال زملائك العرب. فأنا أعرف مثلاً، والأمر بالأمر يذكر، أن مواطني صالح علماني، أحد أفضل المترجمين العرب، من الإسبانية إلى العربية، يتدبر أموره المعيشية بالكاد! وهو إلى اليوم، وقد نيّف على التاسعة والخمسين، لم يتسلم جائزة واحدة، بعد! لقد تشابه وضعانا إذاً يا تال، ففي بلاد، لا مكان فيها، ولا لقمة عيش محترمة، لرجال الثقافة، تحدث مثل هذه الأمور! فنحن، كما قلتِ، لسنا رجال إعلام، ولا نجوم سينما. بل مجرد [ كومبارس ثقافي ] يعمل في خلفية المسرح، وفي المنطقة المظلمة منه، ويقدم أشياء لا يحتاجها المجتمع. لذا، عليك يا صديقتي، وأنت المتفرغة للكتابة والترجمة، والعاملة من بيتك، أن تتدبري أمرك، للعمل كمدرّسة ترجمة في إحدى جامعاتكم أو معاهدكم. وأظن أنك أخبرتني بمسعى من هذا القبيل، لذا أتمنى لك التوفيق فيه. تال: أما عن الوضع السياسي المتأزم، على جانبي أرض الميعاد، كما يقال، فلم تفاجئيني، وإن كنتِ أحزنتني، لما يحدث في طرفكم، من هيمنة اليمين الفاشي، ومن تراجع وذوبان اليسار العلماني. لدينا أيضاً نفس الحال ولكن بطبعة أكثر سوءاً! ومع ذلك، فلتظلي تصوّتين إلى حزب [ ميرتس ]، فهذا أفضل الموجود، في ساحتكم. وهو جدير بك، كمثقفة وشاعرة وداعية سلام. حدثتني أيضاً عن موت داليا رابوكوفتش، التي هي أهم وأكبر صوت شعري في بلادكم. وعن الردود التي كُتبت بعد موتها، ومطالبة العديد من اليمينيين الفاشست، المعادين لإنسانية الثقافة، بدفنها في غزة، عند أصدقائها العرب! لا بأس. ذلك هو قدرنا، أن نُشتم ونطرد وأن تلاحق بعضنا اللعنات، حتى في الممات! سأحاول المحافظة على حياتي، كما ناشدتِني. فقط من أجل الأولاد ومن أجل الثقافة. فلولا هذين، ما كانت لي حياة، وما كان لها معنى. شكراً لك عزيزتي، وسأوصل سلاماتك لزوجتي وللأولاد.

تال: حين عدت للبيت، ودخلت الفراش، بعد يوم طويل من العمل والكتابة، فكرتُ بما دار خلال حديثنا التلفوني. ساءني ما سمعته منكِ، عن حال المثقف الإسرائيلي، المغرد خارج سرب الشعبوية الديماغوجية، لديكم. وعن ندرة قرائه، بل تجاهله من قِبل الأغلبية. إنه نفس حالنا، وإن كان مثقفونا من هذه السلالة، سلالة من يقول الحقيقة، حتى لو ضحى بالكثير، شبه منقرضة أو تكاد. فنحن، ليس لدينا تقاليد يُركن إليها في هذا الجانب. بل نحن، بالأحرى، لدينا مثقفون رعاع، يجيدون اللعب على وتر الشارع، ويزيدونه تجهيلاً، بدلاً من قول الحقيقة العارية له، ورفع مستواه. من أجل بضع مصالح صغيرة، وشخصية، هي في التحليل الأخير جد تافهة ولا تليق بأي مثقف. ساءني يا تال، كلامك. فعلى ما يبدو، فإن مزاج الجميع واحد: لدينا ولديكم! فالكل مشغول عن الثقافة المحترمة الجادة: الثقافة الإنسانية بكلمة. بل لا أحد يريدها، على الجانبين. لذا أقول لكِ، إنني التقطت ذبذبات صوتك، وأنت تتكلمين عن كل هذه الآلام. لقد تهدج صوتك على نحو ما، وأنتِ تصارحينني بالمكبوت. حقاً، كم تتماهى هموم المثقفين الصادرين في رؤاهم من ذات المنطقة. أنت تعانين في بلادك وأنا أعاني في بلادي، هذا هو الحال. ومع ذلك، وكما قلت لك في المكالمة، لا بد من استدعاء القوة في داخلنا، لكي نواصل. فالأوضاع معقدة، وصراعنا غاية في البؤس والتعقيد. ولهذا ولغيره من الأسباب، لا مفر من الاستنجاد بمقولة غرامشي المضيئة: [ تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة ]. نعم: فما أحوجنا لهذه الحكمة، وبالذات في هذه الظروف. أتعرفين يا تال؟ منذ ربع قرن، وكلما قرأت مقولة المناضل الإيطالي الإنساني، قلت في خاطري، كأنه قالها لمثل هذا الوقت بالذات! وكما ترين، إن العقل يتشاءم دائماً في بلدينا. بل كلما مر الوقت، تشاءم العقلُ أكثر. فإلى متى يا صديقتي، إلى متى يا شريكتي في وحل الواقع وفي حرير الأحلام؟ حقاً إلى متى؟ ألم يئن الأوان بعد، لإسدال الستارة، على هذه المسرحية الإغريقية الأطول والأبشع فصولاً في التاريخ الحديث؟ ألم يئن أوان أن نرتاح، وأن نجرب هذا الشيء الغريب، الذي يسمونه، في البلاد البعيدة ب [ الحياة الطبيعية ]؟ إن الأمور، تتعقد، يوماً بعد يوم. وقوى اليمين، الوطني لديكم، الديني الأصولي لدينا، تكسب مقاعد جديدة، مطلع كل صباح. ماذا يعني هذا يا تال؟ يعني إننا فشلنا جميعاً، كمثقفين، في إشاعة روح العقلانية والتسامح، لدى شعبينا. نحن لن نتساوى بكم، بطبيعة الحال. فنحن كما تعلمين وتؤمنين، هم الضحية. ولا يمكن أن تتساوى الضحية مع الجلاد. لكن الحكاية وما فيها، أننا مللنا وضجرنا وأصابنا فالج الإحباط الأبدي. على الأقل أتكلم باسمينا أنتِ وأنا ومن شابهنا. حقاً، لقد طفح كيل احتمالنا. نحن في واد، وبلدَانا وشعبانا في واد آخر. وكما قلتِ يائسة: ليس أمامنا إلا أن نكتب ما نؤمن به، ولا يهمّ إن قرؤونا أم لا، أو أعجبتهم كتابتنا أم لا. فالكاتب يقول ما لديه، وينسحب أو يتوارى، وليس له أن يفرض وجهة نظره، سواء في السياسة أو الأدب. ذلك حق. ومع أنه حق، فإننا نتألّم. فقد كان بالإمكان، أن نلاقي مصيراً أقل قسوة. وألا تندلع نزعات التطرف في كلا الجانبين. إن أسوأ ما نعاني الآن، هو تفشي اليمين كالوباء، وتغوّل قواه ورموزه لدى الجانبين. يمين مجنون، جاهز لأخذ المنطقة، في أية لحظة، إلى الجحيم. يمين عندنا وعندكم وفي الولايات المتحدة الأمريكية. يمين يمين، يتفاقم ويتعاظم، كخلايا السرطان، ويضرب في كل اتجاه. فماذا يتبقى لنا نحن إذاً؟ عليكم بالجلوس في بيوتكم وإراحتنا من هراء ما تكتبون! هكذا يواجهونكِ ويواجهوني أنا أيضاً. حسناً... سنجلس في بيوتنا، وسنكتفي بقليل ما لدينا، من زخرف الدنيا، ولكننا أبداً، لن نتخلى عن قناعاتنا ورؤانا، حتى لو لُعنّا، حياةً وممات. تال: سأكلمك يا صديقتي بعد أسبوع. فإلى ذلك الحين، حافظي على صحتكِ، كما تطالبينني دائماً، ونامي جيداً، حتى لو كثرت في مناماتكِ الكوابيس!