في الذكري الـ 150 لميلاد فرويد

كان الصدام الاستعماري بين التمركز الأوربي والثقافات غير الغربية التي أعيد إحياؤها، السبب في تعجيل المنعطف ما بعد الديكارتي نحو quot;الغيريةquot; وquot;الآخريةquot;، أو قل quot;مابعد الحداثةquot; Postmodernism في الفلسفة، حيث عمل فلاسفة الاختلاف في فرنسا تحديدًا على انتقاد quot;فلسفة الذاتquot; أو الهوية باعتبارها أداة لتهميش quot;الآخرquot; سواء كان هذا quot;الآخرquot; كتابة (دريدا) أو رغبة (دولوز) أو حمقى (فوكو)hellip; ومن ثم فإن مفهوم quot;الذاتquot; بما هو كلية متجانسة قد زحزح عن مركزه، مفسحًا المجال أمام ذات متموضعة، أو بالأحرى متشذرة، يعاد بناؤها باطراد.
وحسب quot;هومي بهاباquot; - Bhabha: quot;فإن الهوية ليست شيئًا مسبقًا، ولا إنتاجًا نهائيًا وإنما هي فقط سيرورة إشكالية من الارتقاء إلى صورة للشمولية. ومهما يكن تبدو صورة شمولية، من هذا القبيل، عصية الاستشراف، رغم سعي الإنسان الدائم إلى الامتلاء والكمال. تستدعي الذات الإنسانية إذن، وفي آن واحد، الذات والموضوع. فهو موضوع للتاريخ في حدود كونها ذاتًا فاعلة في سياقه. في حين يغدو quot;الآخرquot; البؤرة التي تتموضع فيها سلسلة الدوال التي توجه كل ما من شأنه أن يشكل حضورًا للذات. إنه الحقل الخاص بهذا الكائن الحي الذي ينبغي للذات أن تتمظهر من خلاله. وعبر مسار الرغبة في الآخر، لا يتحقق الفهم المؤقت لهذه الذات، وإنما يتموضع الاختلاف بين الذات والآخر. ويشدد دريدا على أن التأكيد يعبر عن ذاته من خلال مسار الآخر: quot;فالآخر باعتباره آخرًا غير الذات، أي الآخر الذي يقابل الهوية الذاتية، ليس شيئًا يمكن رصده وتمثله داخل الفضاء الفلسفي للاستعانة بنبراس فلسفي. ذلك أن الآخر سبق الفلسفة، وهو يحتوي مستثيرًا بالضرورة quot;الذاتquot; قبل أن يكون في مستطاع أية مساءلة عبقرية أن تبدأ. وفي سياق هذا الارتباط بالآخر يفصح التأكيد عن ذاته.quot;وبذلك يعتبر هذا التأكيد للذاتية كما يقترحها دريدا محصلة الصدام بالآخر. فهو في البدء والمنتهى صدام أنطولوجي بين الذات والآخر.
إن كتابات ما بعد الحداثة، كما هو شأن كتابات ما بعد الاستعمار، تتبنى نزوعًا عامًا نحو تفضيل انتشار [quot;الاختلافquot; Differ(a)nce-] أكثر من إنتاج الثنائيات المتعارضة، وهو ما يقوض quot;الحضورquot; من أساسه. ولعل هذا ما عناه quot;جيل دولوزquot; - Deleuze بقوله: quot;إن الآخر ليس هو ذلك الموضوع المرئي، وليس ذلك الآخر. إن الآخر بنية الحقل الإدراكي، كما أنه نظام من التفاعلات بين الأفراد كأغيار. فحين تدرك الذات شيئًا ما، فإنها لا تستطيع أن تحيط به في كليته إلا من خلال الآخرين، فالآخر هو الذي يتمم إدراكي للأشياءquot;.
أما جاك لاكان - Lacan فقد أعتبر quot;الآخرquot; البؤرة التي تتشكل داخلها quot;الأناquot; الذي يخاطب الآخر الذي يستمع. وبعبارة أخرى، تبنى الهوية والغيرية، والذات والآخر، داخل فضاء التمثيل hellip; يقول quot;لاكانquot; في كتابه quot;لغة الذاتquot; - Le langage du soi: quot;في حدود أن quot;أنا الذاتquot; مدمجة في جدليات النرجسية والتماهي باعتبارها مراحل حاسمة في حياتها، يمكن القول أن الذات مدرجة في موضوعية المحور المتخيل في الوقت نفسه بما هي علاقة رمزية ولا واعية بين الذات والآخر.quot;
بيد أن فلاسفة الاختلاف قد ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ عمدوا إلى التشويش على وحدة الميتافيزيقا، وذلك من عدة وجوه، منها محاولة دريدا الرامية إلى جعل quot;الحلمquot; يتشكك في صفاء quot;الوعيquot;، واعتماد دولوز quot;الفنquot; كطريقة لدحض quot;التمثيلquot;، وايلاد فوكو اعتبارًا quot;للمنبوذquot; من حيث تهديده المستمر لوحدة الدولة السعيدة.
فقد انخرط فوكو في تعرية مؤسسات الحضارة الغربية بشكل أركيولوجي - Archeologie عميق، كمؤسسة المصح العقلي والسجن والمدرسة والجامعة، وسائر المؤسسات البورجوازية التي تهدف إلى تدجين الناس وتطويعهم فكريًا وجسديًا؛ أي أن منهجه الاركيولوجي مكنه من الكشف عن quot;الآخرquot; المقموع من خلال تعرية آليات القمع.
وفي كتاب quot;الكلمات والأشياءquot; - Les Mots Les choses الصادر عام 1966، أثبت فوكو أن العلوم الإنسانية هي التي خلعت المشروعية على النظام الحديث مثلما أن الفكر الديني المسيحي كان يخلع المشروعية على quot;قمعيةquot; النظام القديم. وهكذا حاول الكشف عن أنه في كل حقبة تاريخية هناك خلفيات هي الأساس الذي تبنى عليه المعرفة، والبحث عن مجمل هذه الخلفيات يشكل quot;القبلية التاريخيةquot;.
ترتب على ذلك أن هناك نظامًا خفيًا وراء الظواهر هو الذي يشكل الشرط الحقيقي الذي بدونه لا يمكن أن يكون هناك خطاب حول الأشياء يعكس حقيقتها أو بالأحرى يعترف به كخطاب مطابق للحقيقة.quot;
أما التفكيك Deconstruction - عند دريدا فقد أضاء بعدًا جديدًا، أكثر عمقًا وأبعد أثرًا، وهو أن أية بنية تنظم تجربتنا - أدبية أم سيكولوجية أم اجتماعية أم سياسية أم دينية - إنما تتشكل وتنمو وتستمر من خلال عملية quot;إقصاءquot;. ففي عملية خلق شيء ما سيكون حتميًا إغفال شيء آخر. وهذه البنى الاقصائية، قابلة أن تصير quot;قمعيةquot;، وهو قمع تترتب عليه quot;آثارquot;.
وكما سبق ونبهنا quot;سيجموند فرويدquot; إلى العلاقة بين القمع والتخفي، يؤكد دريدا على أن ما يقمع لا يختفي لكنه يعود دائمًا كي يزلزل كل البناء القائم، مهما كانت درجة الاستقرار التي يبدو عليها.
لقد فهم دريدا جيدًا، كجزائري يهودي يعيش في فرنسا، وعاصر معظم التحولات العالمية الكبرى في القرن العشرين، خطر المعتقدات الأيديولوجيات التي تقسم العالم إلى نقيضين تامين: اليمين واليسار، الغرب والشرق، الخير والشر، وأظهر أن هذه البنى القمعية [الدوجماطيقية] التي انبثقت مباشرة من داخل الميتافيزيقا الغربية، تهدد بالعودة دائمًا، مصحوبة بتأثيرات مدمرة. ومن ثم صارع من أجل إيجاد سبل للتغلب على الأنماط التي تقصي الاختلافات، وكل ما هو quot;آخرquot;.
ولذلك يمكن القول بأن التفكيك - Deconstruction ينطوي على بعد ثوري أو انقلابي، وهو ما أزعج بالفعل المحافظين في أوربا وأمريكا على السواء.