الجو بارد.. الغيم حجب القمر والنجوم.. الليل ابتلع أشجار الغاف (1).. والرغبة باقية.. متقدة في قلوبنا.. بمواصلة المشي.. واجتياز هذه المنطقة الموحشة.. حيث يوجد بمحاذاتها شارع ترابي.. فساحة فضاء.. فمنازل مزودة بالكهرباء.. وشوارعها معبدة.. لكن للوصول إلى مبتغانا.. نحتاج نحو ساعة من المسير المتواصل.
وطوال مشينا.. ما توقفنا.. ما فكرنا بالعودة.. سيطر quot;فيناquot; كبرياء الإصرار، باجتياز منطقة اشجار الغاف.. التي طالما حذر منها.. بعض كبار السن في قريتنا.. من دخولها في آناء الليل.. ومضينا في طريقنا.. لا نلتفت الى بعضنا.. لا يكلم أحدنا أحدا.. رغم التوجس من المكان.. رغم سريان الخوف في دمائي.. تملكه قلبي.. حشرجته في أنفاسي.. وخوفي نتيجة كثرة تفكيري.. من ظهور مفاجئ.. لثعبان مثلا أو حتى جان، ومع ذلك.. لم أقل ما أشعر به.. quot;هما ليسا أفضل مني.. قلتها بصوت عال في نفسي، وقلت أيضا.. أنا متيقن، ان نفس هذه الاحاسيس، التي تتملكني الآن، تسيطر عليهما، لكن.. ربما هي تربيتنا الشرقية.. الرجل لا يبكي.. لا يخاف.. لا يهاب الموت.. لا يقبل من شريكته في الحياة أبداء رأي.. ولا أبنائه الاعتراض على قول.. كل الحقوق للرجل.. جميع الواجبات على الاخرين ملزمةquot;.
وقف احد صديقيّ.. ثبت توجيه الضوء الخافت.. الصادر من جهازه الخلوي.. على حبيبات صغيرة.. وجهنا ضوء جهازينا الخلويين مثله.. تشجعنا بالاقتراب بحذر تجاهها.. زاد التماع بؤرها نتيجة انعكاس ضوء أجهزة هواتفنا الخلوية عليها.. ساءلت نفسي.. quot;أتكون حبات الماس سقطت من يد حرامي، أو تخلص منها سارقها؟ quot;.. تأملناها.. اتضح لنا جليا، ان هذه الحبيبات الصغيرة.. ما هي إلا عيون.. حولها رؤوس دجاج.. مفصولة عن أجسادها.. مائلة الى الزرقة.. تنبعث منها روائح كريهه.. مثقوبة في جميع جوانبها.. يظهر منها دماء.. جف سائلها.. وديدان بيضاء حلزونية.. تطل برأسها من الثقوب، ثم تدخل من جديد
قال أحدنا:
- ترى من جاء بها إلى هنا؟
قلت:
- من فصل رؤوسها عن أجسادها؟
لاحظنا.. راقبنا غير مصدقين.. دحرجة العيون في اتجاهات عشوائية.. تحرك الرؤوس دائريا.. وقف الدجاج..
قالت إحداهن:
- انتم البشر لا تستحقون الحياة
قالت أخرى
- لوثتم الجو والبحر
اكملت أخرى:
- عبثتم بالارض
واتمت أخرى:
- وضعتمونا في بيوت زجاجية، لنكبر بسرعة، ونبيض أكثر
نظرت دجاجة سمينة الى الأخريات، قالت بصوت عال:
- الموت للبشر
رددن وراءها:
- الموت للبشر.. الموت للبشر
ركض أحدنا.. جرينا وراءه.. ركض خلفنا اجسادها.. تتدلى اعناقها على صدورها.. تتبعها رؤسها، متكئة في قفزها على اعناقها.. ووراءها عيونها.. سقط احدنا.. لم نتوقف له.. صدمتُ جذع شجرة.. صرخت.. استغثت.. لم يأتني أيٌّ منهما.. نهضت وهرولت أعرج.. رأيت صديقيّ واقفين.. وصلت إليهما.. ما عدنا قادرين على الجري.. حجزنا تشابك أغصان أشجار الغاف.. ظللنا نصرخ ونستغيث ونبكي.. نظرنا وراءنا.. على إثر سمعنا أصواتهن.. يرددن غاضبات.. quot;الموت للبشر.. الموت للبشر..quot;
وقفن أمامنا.. رفعت واحدة منهن جناحيها إلى أعلى.. سكتت الدجاجات.. سمعنا صوتا آخر وراءنا.. التفتنا.. رأينا أشجار الغاف.. تعيد اغصانها إليها، قالت إحداهن
- اذهبوا لبيوتكم..اخرجوا من ارضنا.. هيا.. اغربوا عن وجوهنا.. نحن أشجار الغاف.. لن نعاملكم بالمثل.. لأننا لسنا مثلكم.. ولن نكون أبدا.. نقتل لمجرد القتل.
ساءها ما سمعته منها الدجاجة، قاطعتها:
- أما نحن.. فلن نغفر لهم خطاياهم.. سننتقم.. للحيوانات.. للنباتات.. لكل من يعيش على الأرض.. quot;التفت نحونا وعنقها يتدلى على صدرها، أكملتquot;.. لا نريدكم تحيون معنا.. أتعلمون لماذا؟.. لأننا مللنا عبثكم.. سئمنا جبروتكم.. ولذا سنبقى نصيبكم بأنفلونزا الطيور، حتى لا نبقي واحدا منكم حيا
نادت الدجاجة السمينة بهن:
- الموت للبشر..
رددت الدجاجات وراءها:
- الموت للبشر.. الموت للبشر..
جرينا جزعين مرة أخرى.. سمعنا تضاحك الدجاج علينا.. استدارت الأغصان نحونا.. نظرنا اليها ونحن نعدو.. وما شعرنا بالجري، إلا عندما أقتربنا من بيت أحدنا.. حينها هدأ روعنا.. نظفنا ملابسنا ونحن نتضاحك مما رأينا، ومن الخوف الذي اصابنا ثم بعد حين.. تملكتنا الرغبة في الانتقام.. تعاهدنا بالعودة في نهار اليوم التالي.. نحمل في أيدينا أسلحتنا.. نحرق الدجاج، وننحر الاشجار.
الدوحة
www.jamalfayez.com
التعليقات