مما لاشك فيه أن الممثل هو العنصر الأكثر أهمية من كل العناصر الآخرى التي تُشكل مكونات العرض المسرحي على الخشبة؛ إذ هو المترجم للغة المسرح والمجسد للأفكار والعلامات ؛ بل قد قد يكون المحفز الأول للمدارك الجمالية بالعرض المسرحي والذي لا تقوم للعرض قائمة إلا من خلاله. رغم أن الكثير من الطروحات المسرحية لحديثة سعت إلى تهميش دوره على الخشبة، لكنه بقي مهيمنا والعنصر الأهم مسرحيا. لكن بما أن المسرح الحديث اتجه إتجاها آخر منتقلا من مسرح نص إلى مسرح حركة، فقد أدى ذلك إلى تقلص مساحة الإبداع بالنسبة للممثل وحضوره البهي على الخشبة، وأصبح آداة بيد المخرج، إلا أنه ورغم هيمنة المخرج وسلطته على الممثل فقد أنخفضت كل الأسهم و الرايات وارتفعت راية الممثل لتخفق من جديد كي يفرض حضوره بالعرض، فquot; ضمن التوجه لتنظير المسرح في الغرب، عاد الممثل ليصبح اساس العرض، فقد أُعتبر مؤديا خلاقا يمارس طقسا يصل به الى حالة النشوة او التوحد او الوجد، وانسانا يعيش المسرح كتجربة حياتية ومسرحية بآن واحد، بحيث صار التدريب هدفه الاساسي وليس العرض quot; هذا ما تقوله ماري الياس وحنان قصاب في المعجم المسرحي. وهذا ايضا ما يراه آرتو في quot;ممثل مسرح القسوة quot;او بمعنى آخر ما ينشده لممثل مسرح القسوة ؛ جسده ولياقته البدنية هي أساس تواصله وتأثيره على المتلقي، لأنه يعتبر الممثل وسيطاً في الطقوس المسرحية. ولعل هذا الحضور القوي للممثل هو الذي جعله العنصر الوحيد من العناصر المسرحية الذي لايمكن الإستغناء عنه.
إن كل انسان هو ممثل بالحياة بشكل عام، لكن لو طلبنا منه ان يمثل حالة معينة يؤديها يوميا بشكل عفوي ويقدمها لنا على الخشبة، سنراه يستخدم أفعالا اخرى لاتنتمي الى نفس الافعال التي يستخدمها بيومياته، لأنه على الخشبه سيفقد العفوية ويبالغ بأفعاله وبالتالي سيتحول إلى غيره فيخسر المصداقية التي كان يتمتع بها وهو في الشارع.
لكن الممثل الباحث يعمل العكس تماما ؛ يبحث عن أشياء حياتية يؤديها شخص/ شخوص ما بالشارع لينقلها بدوره للشخصية التي يتقمصها ويذوب بها على الخشبة، كي يكون صادقا بإدائه ومقنعا لنا كمتلقين.
إنه يدخل في مرحلة بحث مستمر عن حالات سلوكية مختلفة من خلال مراقبته للأشخاص وتحركاتهم وردود أفعالهم ؛ يأخذ الذي يستفز مخيلته من كل مشاهداته، ويضعه في مختبره العملي، البروفات الجماعية مع فريق العمل او البروفة الشخصية. ويظل يجرب كل يوم حالة اقتنصها من الشارع حتى يصل إلى الشكل الخارجي للشخصية ( الشكل الفيزيائي)، ومن ثم ياتي إلى المرحلة المهمة وهي البحث عن التقلبات النفسية للشخصية : سلوكها، طباعها، قوتها و ضعفها...الخ، وهذا يستنبطه من خلال قراءته العميقة للنص والغوص في ( جوانيات) الشخصية.
يذكر جوزيف شايكين في كتابه المهم (حضور الممثل) بإن حضور الممثل أهم من الشخصية التي يمثلها، تحيلنا جملته هذه الى الكثير من الاشياء البراقة عند الممثل على الخشبة، وهي تعتمد أولا وأخيرا على موهبته وليس الشخص الذي يؤدي دورا على الخشبة لأن الفرق كبير بين الممثل والمؤدي.
الممثل هو ذلك الساحر الجميل، الذي يمسك بنا بكل قوة ويوجه مشاعرنا وأحاسيسنا الى حيث تكون اتجاه رياحه الإبداعية، ويسحرنا بلحظات تجليه وتألقه على الخشبية، لاننا نراه الشخصية نفسها ونعيشها معه بكل تقلباتها النفسية، وبخلافه المؤدي الذي يؤدي وظيفة على الخشبة وهنا اعني بروتينية عمله وشغله التمثيلي، نراه ممثلا كلائشيا، يرينا الجاهز من الافعال وردود الافعال والمبالغة فيها.
اذاً ليس المهم حجم الشخصية التي يجسدها الممثل، بل المهم هو الإشعاع الذي يصلنا كمتفرجين من هذا الممثل، حضوره، ثباته، إدائه، سحره، تحليقه بفضاء العرض، علاقته مع كل الإشياء المحيطة به من شخصيات و ديكور، إصغائه إلى الموسيقى التصورية وكيفية تعامله معها، إحساسه بزي الشخصية التي يمثلها بحيث ليس جسده الشخصي من يبلس هذا الزي، بل جسد الشخصية، كل هذه المعطيات او الالتماعات هي التي تجذبنا إليه.
حضوره المدهش على الخشبة حتى لو انه لاينطق بكلمة واحدة ويكون دوره صامتا على طول زمن العرض، فإذا لم يكن ممثلا ساحرا فمن المستحيل أن نلمس شغله التمثيلي ونميزه عن غيره من الممثليين.
في مسرحية (سور الصين- لماكس فريش)، هناك شخصية صامتة على طول العرض، وهي شخصية (منكو) الأخرس، التي بنى ماكس فريش كل توترات النص من خلال شخصيته، شخصية غنية بابعادها السايكولوجية والنفسية، وكذلك غنية وقوية بحضورها رغم انها صامتة، هذه الشخصية ليس من السهولة ان يمثلها ممثل مؤدي، بلا موهبة ولا سحر على الخشبة، يحتاج لها ممثل خطير (يتحدث) لغات عديدة من خلال فعله الصامت على الخشبة، لغة العيون، لغة الفعل ورد الفعل، لغة الإشارة، والأهم من كل هذا لغة الحضور، تكون كل هذه اللغات هي بديل موضوعي للغة المنطوقة.

حضور الممثل، هو القوة الحقيقية التي تستمدها الشخصية من الممثل على الخشبة وليس العكس.

هناك الكثير من الممثلين أدوا شخصيات مسرحية مهمة على الخشبة لكنهم كانوا هزيلين بإدائهم لتلك الشخصيات، لأنهم اتكأوا على الأرث التاريخي والجماهيري لتلك الشخصيات، كانوا ممثلين بلا حضور، كلائشيون يؤدون وظائف مسرحية، لانهم لايمتلكون سحر حضور الممثل.
إن أي شخص عادي يستطيع ان يقرأ مقاطع شعرية ( مسرحية) على الخشبة، لكنه لا يستطيع ان يحس بها، لايستطيع ان يصنع لها تاريخ مفترض يجعله كأرضية يغوص من خلالها الى العوالم الباطنية للشخصية.
فيخلق لها اضداد وأصدقاء ودائرة علاقات وهمية مع أموات وأحياء، ويضع لهم اسماء وهمية او حقيقية ويبدأ بمحاورتهم وتأنيبهم على اخطائهم ومعاتبتهم وايضا يبرر لهم تصرفاته إزاء التأريخ الذي افترضه معهم، حتى يخلق لنسفه دوافعه الخاصة للفعل ورد الفعل على الخشبة.
الممثل الباحث هو ما نعنيه وننشده، هو الذي يعمل كل هذا من أجل ديمومة سحره وحضوره على الخشبة، الممثل الذي تقلقه اسئلتة الشخصية ومحاورها وسلوكها، الممثل الباحث لا يتوقف عند الجملة التي كتبها المؤلف، بل يذهب الى أبعد من ذلك كثيرا، الى ما تخفيه الجملة من مغزى ويحول الكلمة إلى منظومة علاماتية كاملة يبثها بالعرض المسرحي، باعتباره حاملا للعلامات ومفرجها ايضا، يبحث عن الدوافع الحقيقية لما وراء الكلمة، يفترض تأريخا مزيفا لها، وبالتالي يكون هو اول من يصدق بهذا التاريخ ويتبناه ويدافع عنه، كأنه تاريخه الشخصي، اذا وصل الممثل لهذه النتيجة حتما سيفتح مغاليق الحوار، وينثرها إبداعا ساحرا على الخشبة،اليس هو أخيرا ساحر؟
(ليس هناك دور كبير او دور صغير، بل يوجد ممثل كبير وممثل صغير) هذا ما يقوله ستانسلافسكي، ونحن نتفق معه تماما بذلك، الممثل هذا الساحر الجميل، الباحث عن عوالم فانطازية، ويحلم بها ويكلمها بحلمه، يهدف من كل هذا الوصول الى حالة التجلي على الخشبة، والوصول الى حالة من التوحد بينه وبين الشخصية التي يجسدها.
لكن هذا الممثل (الباحث) وكل جهده البحثي على الشخصية، بدون مخرج واع ٍ متمكن من آدواته، مخرج لا يستفز المخيلة، لم تقلقه شخصيات عمله، هذا الممثل لا يحقق شيئا ويبقى بدوامة اللغة، ولعبة الألفاظ، يبقى أسير النص الأدبي وبالتالي يتحول الى آلة معطلة على الخشبة والسبب المخرج الذي عطل أهم آداة من آدواته المسرحية ( باعتبار ان الممثل هو احد ادوات العرض المسرحي)، إذاً المخرج قد يكون أحد الأسباب بتعطيل فعالية الممثل، فهو احد العوامل المحفزة لمخيلة الممثل التي تساعده بتفجير طاقته على الخشبة.
ُيقال دائما أن المخرج/الممثل، يقدم ممثلين رائعين وسحرة بعرضه المسرحي، بإعتباره ممثلا رائعا قبل ان يكون مخرجا رائعا، وهذا الرأي يحمل من الصواب الكثير كون الممثل /المخرج يعرف جيدا كيف يتعامل مع الشخصية وكذلك يعرف جيدا كيف يتعامل مع الممثل، ولكن هذا يحمل ايضا من الخطأ الكثير لأن ليس كل المخرجيين هم بالضرورة ممثليين جيدين، ولكن هؤلاء المخرجيين قدموا ممثلين رائعين جدا بأعمالهم وحصل ممثليهم على جوائز مهمة، والعكس أيضا صحيح.
لكننا نرى بأن الشيء الأكثر أهمية من هذيين الرأيين، هو وعي المخرج،نضجه، تعامله مع الممثل لا بإعتباره جزءا مكملا لمنظومة العرض الجمالية، بل يعمل معه على الشغل التمثيلي داخل الشخصية، أي يعمل مع الممثل على كل جزئيات الشخصية، يراقب بعين عالية الحساسية لتطور اداء الممثل بالتمارين، لا ان يتركه وسط أمواج تتلاطم به بدون منقذ حريف، حتى لو كان ماهرا بالسباحة. لان الممثل مهما كان مبدعا ومتألقا يحتاج الى من يشذب له شغله التمثيلي على الخشبة.
الممثل الجيد بدون مخرج مبدع يكون اشبه بسيزيف كامو وهو يدفع صخرته الى الاعلى وتعود اليه مرة اخرى.

هولندة

[email protected]