في حين فشل الاحتلال الاميركي للعراق، بكل قوامه وأسلحته، في اعتقال أو قتل أبو مصعب الزرقاوي، المرة تلو الأخرى، وآخرها في إطار حملته المسماة بـ "الستار الفولاذي"، نجح الزرقاوي في المقابل، والمرة تلو الأخرى، في تسديد ضرباته الدموية والقاسية ضد قوات الاحتلال الاميركية وحلفائها، مخلفاً وراءه في كل مرة عشرات القتلى والجرحى، ليس فقط داخل العراق، إنما حيث تسنح له الفرصة في توجيه ضرباته. وإذا ادعت مجموعة "القاعدة" مسؤوليتها عن العملية الاخيرة في العاصمة الاردنية عمان التي اودت بحياة ما يزيد عن سبعين قتيلاً، فضلاً عن مئات الجرحى والدمار الكبير الذي أصاب موقع الجريمة، فإن هذا الادعاء لا يلغي أبداً مشاركة أبو مصعب الزرقاوي وجماعته في المجزرة الدموية العنيفة التي جعلت العالم يتنبه من جديد، الى ان ذراع ما تسميه واشنطن بـ "الارهاب" طويلة وقاسية جداً وقادرة بسهولة على توزيع عملياتها في أي مكان في العالم، وخصوصاً في الدول المجاورة للعراق.
وعلى غرار ما يحصل دائماً، أدان العالم مثل هذه العمليات الوحشية التي ترفضها الأديان والحضارات، غير أن الإدانة وكما حالها دائماً، لا تكفي لمواجهة مثل هذه العمليات التي جعلت من بلاد الرافدين مسرحاً لها، متوعدة المرة تلوة الاخرى بتصعيد ضرباتها "حتى خروج قوات الاحتلال الاميركية من البلاد"، وطالما ان هذا الامر لن يحصل في المدى القريب، كما تؤكد الإدارة الاميركية، فإن تداعيات ما يجري في العراق لا بد وان ينعكس سلباً، بكل اخطاره وتحدياته على الدول المجاورة. وما حصل في عمان يشكل بداية الانفجار الواسع في المنطقة، وكذلك الحال في محافظة الأنبار العراقية على الحدود السورية، حيث تستمر حملة "الستار الفولاذي" الاميركية في مطاردة جماعة الزرقاوي، التي أدت حتى الآن الى تشريد 200 ألف شخص، حسبما صرّح الشيخ خلف العلاوي الامين العام لمجلس الحوار الوطني العراقي.
وسط هذه الأجواء الدموية والمربكة، تحركت جامعة الدول العربية في مبادرة خاصة للمصالحة الوطنية العراقية يقوم بها الدبلوماسي المخضرم احمد بن حلة الامين العام المساعد للجامعة العربية الذي يزور العراق للمرة الرابعة منذ سقوط نظام صدام حسين، وللمرة الثانية خلال الشهر الحالي، تحضيراً لمؤتمر المصالحة الوطنية في القاهرة بحضور جميع ممثلي الطيف السياسي العراقي.
حسناً فعلت جامعة الدول العربية ولو جاءت مبادرتها متأخرة، لتكشف هذه المرة المفارقة الواضحة بين الهدم الاميركي، من خلال قسوة عسكرية عنيفة لا تفرّق بين المدنيين وما تسميه واشنطن بـ"الجماعات الارهابية" وبين البناء السياسي الذي قررت جامعة الدول العربية تحمل مسؤولياته بتكليف من وزراء خارجية مجلس المتابعة الخاصة بالعراق.
إن هذه المفارقة بتناقضاتها الصارخة، تسلط ضوءاً ساطعاً على احتمالات تطورات الاوضاع العراقية، التي فاقت في دمويتها وعنفها كل التوقعات، بما في ذلك توقعات وحسابات الادارة الاميركية نفسها. فمن جهة تتصاعد عمليات الهدم والتدمير العسكرية الاميركية التي بدأت منذ احتلال العراق، ومن جهة اخرى تقدم الجامعة العربية على مبادرة جاءت متأخرة، وفي هذا التناقض ما بين الحل العسكري والسياسي تتمثل في حقيقة الأمر صورة الصراع والاختلاف بين وجهتي النظر الاساسيتين بشأن حل الازمة العراقية، والتي ترى أولاهما ان الحل العسكري هو الامثل والوحيد للقضاء على الزرقاوي وجماعته، وذلك استناداً الى الايديولوجية السائدة حالياً في اروقة الادارة الاميركية وما تسميه بالحملة الدولية ضد الارهاب، والثانية، تؤمن بإمكانية الحل السياسي والمفضي الى تفاهم شامل يضع البلاد على طريق الاستقرار.
غير أن الطرفين وكما أكدت الاحداث والتطورات لا يمكن لاي منهما منفرداً تحقيق الاستقرار المطلوب دون الالتزام بشروط محددة تحقق الحل الشامل يحرر العراق من قوات الاحتلال، كما يحررها من الارهاب وذيوله. وفي مقدم هذه الشروط:
1 ـ فك الاشتباك بين المقاومة الوطنية العراقية والمجموعات الارهابية التي تسربت الى البلاد وفاقت بعمليات موازية لعمليات المقاومة، ربما تحت نظر وسماع قوات الاحتلال نفسها، وإعلان حالة من الشفافية الاعلامية حول ما يجري في العراق والالتزام بهذه الشفافية المفقودة من جانب القوات الاميركية.. خصوصاً وان حالة من البلبلة تسود الرأي العام العالمي الذي بات لا يعلم بالضبط من الذي يقوم بمثل هذه العمليات، بل ان البعض يتشكك عما تورده واشنطن عن تنظيم "القاعدة" في العراق، وأكثر، هناك شك يكبر حول شخصية الزرقاوي، وإذا كانت شخصية حقيقية بالفعل. وتكاد الشكوك نفسها تتكرر حول ما يجري حالياً على الحدود العراقية السورية في اطار حملة "الستار الفولاذي" وعدد ضحاياها، وهذا كله ادى الى حالة التباس وضبابية، لا تسمح حتى للاميركيين بانتهاج طريق يؤدي الى استقرار العراق.
2 ـ المشاركة الايجابية لدول الجوار في تنفيذ الخطط الهادفة لحل الازمة العراقية، مع التأكيد على ان هذا الالتزام يأتي في مصالح هذه الدول، خصوصاً وان استقرار العراق هو جزء لا يتجزأ من استقرار وأمن هذه الدول.
3 ـ اعتراف الإدارة الاميركية بفشل سياساتها في العراق شرط ضروري، خصوصاً بعد ثبوت هذا الفشل ووضوحه للجميع. ويتوقف على ذلك منطقياً، أعلان واشنطن عن جدول زمني واضح حول انسحاب قواتها من العراق، وإعطاء كل الصلاحيات والمسؤوليات لابناء الشعب العراقي.
4 ـ وهو الشرط الأهم، التوجه الصادق من جانب أطياف الشعب العراقي نحو الحل المبني على إجماع ووحدة وطنية ترتفع فوق الحسابات الطائفية والحزبية، وتضع في اعتبارها مهمة عاجلة تتمثل في إنقاذ العراق من السقوط المروع في دوامة دموية من التمزق والخلافات.
لكن المشكلة تستمر قائمة بين اسلوبين. ذلك أن هذه الشروط التي قد تكون مقبولة في اعتبار السياسيين والدبلوماسيين العرب، تبدو بعيدة جداً، اقله حتى هذه اللحظة، عن ذهن وتصور صانعي القرار في الادارة الاميركية، خصوصاً ان هذه الادارة تتطلع إلى ما هو أبعد من العراق، إلى الشرق
الأوسط بكامله.