كثيرا ما نري الأشياء علي غير حقيقتها ndash; كما قال برجسون ndash; لاننا نكتفي بقراءة العنوان فقط.. فأدوات العنف تطورت تقنيا الي درجة لم يعد من الممكن معها القول بان ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية، أو تبرر استخدامها حاليا. وخطأ معظم المحاولات السابقة التي تناولت مسألة العنف _ حسب quot; حنة أرندت quot; - انها ماثلت بين العنف وبين السلطة. كما جاء في كتابها الرائد ( في العنف )، وهو عنوان يحمل أدعاء مبررا، كما في حال العراق اليوم.
تقول أرندت: quot;ان واحدا من أكثر التمييزات وضوحا بين السلطة والعنف يكمن في ان السلطة قد ارتكزت علي الدوام الي العدد، اما العنف فانه الي حد ما يكون قادرا علي تدبير أمره مستغنيا عن العدد، لانه يستند الي الأدواتquot; (أدوات القمع والقتل والتدمير).
ولم يحدث أبدا لحكومة وطدت سلطتها علي أساس أدوات العنف وحدها، أن وجدت. فحتي الحاكم الديكتاتوري الشمولي، الذي يعتمد علي ممارسة التعذيب كوسيلة أساسية للحكم، يحتاج الي أسس للسلطة كالبوليس السري وشبكة المخبرين الملحقين به.
ولان العنف بطبيعته أدواتي، وهو ككل وسيلة، يظل علي الدوام بحاجة الي تبرير يأتيه من طرف آخر، لا يمكنه أبدا ان يكون في جوهر أي شئ 0 أما السلطة فأنها لا تحتاج الي تبرير، أنطلاقا من كونها لا تقبل أي فصل عن وجود الجماعات السياسية نفسه، وماتحتاج اليه السلطة بالفعل إنما هو المشروعية.
كما ان المشروعية، حين تجابه تحديا، تسند نفسها في التوجه الي الماضي، اما التبرير فانه يرتبط بغائية تصله مباشرة بالمستقبل. معني ذلك ان العنف قد يبرر، لكنه أبدا لن يحوز علي مشروعية. والحال ان التبرير سيبدو أقل مصداقية، بمقدار ما تبدو الأهداف المستقبلية المتوخاة، بعيدة في الزمن.
وتشير أرندت الي ان المستوي الراهن للعلوم السياسية، لايسمح لعلم المصطلح ان يميز بين كلمات أساسية مثل: سلطة وقدرة وقوة وسيطرة، وأخيرا quot;عنفquot;. وهي جميعا تحيلنا إلي ظواهر تتمايز وتختلف بعضها عن بعض، ومن الصعب عليها ان توجد ان لم يكن هذا التمايز قائما.
سؤال العنف هو quot; سؤال quot; من يحكم من؟.. فالسلطة والقدرة والقوة والتسلط والعنف: كلها ليست سوي كلمات تشير الي الوسائل التي يحكم بها الانسان الانسان. لقد اعتبرت مترادفات لان لها نفس الوظيفة. وفقط بعد ان يكف المرء عن حصر الشؤون العامة بقضية السيطرة سيمكن ان تظهر، أو تعود للظهور السمات الأصلية لمشكلات الانسان، ستعود للظهور في تنوعها الأصيل. هذه السمات عددتها علي النحو التالي:
السلطة: تعني قدرة الانسان ليس فقط علي الفعل، بل علي الفعل المتناسق. السلطة لا تكون أبدا خاصية فردية، بل انها تعود الي مجموعة، وتظل موجودة طالما ظلت المجموعة بعضها مع بعض.
وحين نقول عن شخص ما انه quot;في السلطةquot; فاننا في الحقيقة نشير الي انه قد سلط من قبل عدد من الناس لكي يفعل باسمهم. وفي اللحظة التي تختفي فيها الجماعة التي نبعت السلطة عنها ( يقول اللآتين ndash; potestas in populo ، أي من دون شعب أو جماعة لا تكون سلطة ) ستختفي quot;سلطة المتسلط quot; بدورها quot;.
القدرة: تعني هذه الكلمة شيئا بالمفرد، كينونة فرد، ان قدرة الفرد الأكثر قدرة، يمكنها أن تنهزم دائما من قبل الكثرة، التي قد تتآلف في الغالب لمجرد أن تدمر صاحب القدرة وتحديدا بسبب استقلاليته الخاصة.
ومن طبيعة الجماعة وسلطتها أن تقف ضد الاستقلال، الذي هو خاصية القدرة الفردية..
القوة: ليست رديفا للعنف، وانما يتعين حفظها، في اللغة الاصطلاحية لquot; قوي الطبيعة quot;.. (قوة الاشياء )، أي لتعريف الطاقة الناتجة عن الحركات الطبيعية أو الاجتماعية.
العنف: يتميز بطابعه الادواتي. انه من الناحية الظاهرية قريب من القدرة، بالنظر الي أدوات العنف، كما هو حال بقية الادوات، انما صممت واستخدمت بهدف مضاعفة طبيعة القدرة حتي تستطيع ان تحل محلها، في آخر مراحل تطورها.
واذا كان التوالف بين العنف والسلطة يبدو عاديا، الا انه يصعب العثور عليهما في شكلهما الاكثر صفاء... أي الاكثر تطرفا. لكن هذا لايعني أبدا ان التسلط والسلطة والعنف هم شئ واحد. فالسلطة والعنف يتعارضان: فحين يحكم احدهما الآخر حكما مطلقا يكون الآخر غائبا. العنف يظهر حين تكون السلطة مهددة، واذا ترك علي سجيته سينتهي الأمر باختفاء السلطة.
وتخطو أرندت بأشكالية الجدل عند كل من هيجل وماركس خطوة أبعد، فاذا كانت قدرة quot; النقض quot; الجدلية والتي بفضلها يحدث للتعارضات، بدلا من أن تدمر بعضها بعضا، أن تتطور واحدتها بالعلاقة مع الأخري، انطلاقا من واقع ان التناقضات ترجح كفة التطور بدلا من ان تلغيه. فان هذه التصورات أصبحت شديدة الخطورة الآن لأن العنف لا يمكن أبدا أن يتحدر عن نقيضه، الذي هو السلطة، وانه لكي نفهم العنف في حقيقته، ان نتفحص جذوره وطبيعته.والخلاصة التي يمكن الخروج بها هي، خطأ التفكير باللآعنف بوصفه نقيض العنف. وان الحديث عن سلطة لاعنفية هراء لامعني له. ذلك ان بامكان العنف ان يدمر السلطة لكنه عاجز عن خلقها.
وتنبع خطورة العنف من كونه يتجاوز كل الوسائل الأخرى ويصبح الوسيلة الوحيدة التي تسيطر على السلوك الحركي ومن ثم يستنفذ العنف الغاية ويحتويها ليصبح هو الهدف الأول والأخير. الأخطر من ذلك هو ذلك التحول الدرامي الذي يمكن أن يحققه العنف عندما يعجز كوسيلة أساسية عن الوصول للغاية المنشودة حيث تتحوّل بالتدريج أدوات العنف إلى غايات أساسية للتدمير الذاتي والخارجي فتفقد الجماعة كل قدرة على إعادة التوازن الداخلي والحفاظ على التماسك وبالتالي تفقد سلطتها الداخلية وشرعيتها الشعبية.
لذلك لا يستطيع العنف إلا أن يحقق نتائج وقتية يتوهّم فيها أصحاب العنف أنهم يحقّقون كل طموحاتهم، ولكن عندما يكتشفون أنهم لا يحقّقون شيئاً تسيطر عليهم حالات اليأس والاحباط والجمود والانعزال الأكثر. فطبيعة العنف وتشكيلته الذاتية تحمل في بذورها الانفعالية والسعي السريع لانجاز شيء ما قد يتجاوز السنن التاريخية التي يجب اجتيازها عبر مراحل طويلة وبعقلانية.
واذا كانت ممارسة العنف مثل كل فعل آخر من شأنها أن تغير العالم، لكن التبدّل الأكثر رجحاناً سيكون تبدلاً في إتجاه عالم أكثر عنفاً.
من هنا فان الذين يجابهون العنف بالسلطة وحدها سرعان ما يجدون أنفسهم في مواجهة، ليس مع البشر، وانما مع الآلات التي تتزايد لا أنسانيتها وفعاليتها التدميرية، بالتناسب مع المسافة التي تفصل بين المتجابهين. ان بامكان العنف ان يدمر السلطة دائما. ولكن ليس بامكان العنف أن يصبح سلطة أبدا .

كاتب المقال أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس