عدنان احمد مزوري: لعلّ من المفرح أن نرى الأشياء الجميلة وسط ركام الحرب وخلال الفوضى، خاصةً عندما تكون تلك الأشياء نابعةً من الفن، فالفن يظلّ النبع الذي لا يمكن الاستغناء عنه حتى في أصعب الظروف، وإذا ما تعمّقنا أكثر في هذا المجال سنجد الرقص الذي هو أحد أرقى أنواع الفنون بما يمثّله من لغة عالمية تشترك فيها كل شعوب العالم، عبر تجسيده لجميع المشاعر الإنسانية من حب وخوف وحزن ومحاكاة للطبيعة و(استدعاء) المطر والخصب والولادة وغير ذلك ممّا يرتبط بحياة الإنسان.
وعندما نتحدّث عن فن الرقص فإنّ حديثنا سوف يتشعّب أيضاً لما لهذا الفن من جوانب متعدّدة منها الرقص الإيمائي الذي يسمّى( البانتومايم)، وهو مجموعة حركات بالجسد يعبّر من خلالها الراقص عن فكرة أو نصّ أو حالة معيّنة بهدف إيصالها إلى المتلقّي وهذا النوع من الرقص يعدّ أكاديمياً بحتاً حتّى صار بمثابة المسرح الحديث لا كما يدّعي البعض بأنّه تهريج!!
وفي الموصل وفي ظلّ ظروف قاسية للغاية يجد هذا الرقص متنفّساً له بشكل مفاجىء من خلال الراقص الشاب الموهوب مهنّد هوّاز الذي تحدّى واقعاً أليماً يعيشه البلد بل يمكننا القول بأنّه يسبح عكس التيّار عندما أقدم على خوض هذا المجال مجازفاً بحياته وبدون مبالغة حيث هناك من يتربّص بالفن والفنّانين وهذا ما يحسب لفناننا الشاب فلا بدّ من المغامرة في كثير من الأحيان من أجل الوصول إلى المبتغى..
وقد كنت محظوظاً عندما شاهدت مهنّداً وهو يشهر على المسرح في عدّة مناسبات وفي كلّ مرّة كانت تتملّكني الدهشة ممّا أرى من إبداع في تطويع الجسد لتأدية حركات صعبة للتعويض عن حوارات أو كلام وهنا تكمن الصعوبة وينطلق الإبداع،وقد قلتها لمهنّد ذات مرّة بأنّه يرسم بالحركات ما يرسمه الشعراء بالكلمات..
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا الفنّان الشفّاف يملك قدرات اكتسبها عبر تجارب غنيّة لعلّ أهمّها ضمن الفرقة القومية للفنون الشعبية وما لها من تاريخ عريق وتتلمذه على أيدي أساتذة الرقص الشعبي في العراق منهم: الفنّانة المعروفة هناء عبد الله والأستاذ فؤاد ذنّون وكذلك تجربته في تدريب والإشراف على فرقة الفنون الشعبية التابعة لنقابة الفنّانين في الموصل، كلّ ذلك أعطاه زخماً إبداعياً وظّفه لأداء لوحات وأعمال- يصمّمها بنفسه- ولّدت انطباعاً قويّاً بأهمية الرقص الإيمائي منها: مشاركته المتميّزة بدور راقص المعبد في مسرحية( السيد وخادمه) لنقابة فنّاني الموصل وكان كطائر يحلّق في فضاء المسرح معبّراً عن الحلم الأبدي للإنسان في الحرية والانعتاق ولم يكن مهنّد أقل ّ إبداعاً في مسرحية( رائحة الحكايات) عندما حمل كرة ترمز إلى عالمنا المضطرب محاولاً أن يحميه من الخراب والدمار والحروب وأن يعيد إليه توازن كرة العالم وهي على قرني ثور!!
وأخيراً تسنّى لي أن أشاهد هذا( المهنّد) في تأبين المخرج الراحل عوني كرومي عبر لوحة( بغداد الحزينة) وهو يختزل حزن العراق في إيماءات رقيقة ومؤثّرة للغاية دلّلت على إمكانية عالية في التحليق بالجسد إلى عوالم أخرى إلاّ أنّها لا تبتعد عن واقعنا المرّ، وهكذا يواصل مهنّد رحلته بهدوء ليفاجئنا في كلّ مرّة بإبداع آخر يضيف له الكثير بينما نصاب نحن بالدهشة..!!
- آخر تحديث :
التعليقات