حوار مع المفكر والكاتب العراقي الدكتور كاظم حبيب (1/2)

حاوره صبيح الحمداني: نرحب بالدكتور كاظم حبيب، احد الوجوه البارزة في الحركة السياسية والفكرية العراقية، في لقائنا معه ليحدثنا عن بحوثه الفكرية وتأريخه السياسي الذي يمكن أن نتلمس من خلاله، وبحق، بعض من ملامح تأريخ العراق السياسي في العقود الستة الأخيرة.

* نرجو أن تحدثنا أولا عن البداية، كيف كانت الظروف السياسية والحياتية التي رافقت مرحلة النشوء المبكرة ؟ ما هو دور العائلة والمحيط الاجتماعي في توجهاتك الفكرية والسياسية... ومن ثم العمل لاحقا في صفوف المعارضة اليسارية؟
- شكراً جزيلاً لك صديقي العزيز وشكراً لموقع إيلاف على الإنترنيت في المبادرة بتنظيم هذا اللقاء والحوار.
كان عام 1948 بداية تفتح مداركي لأعي جزئياً ما يدور حولي من أحداث سياسية. لقد كانت سنة وثبة كانون الثاني ضد وزارة صالح جبر التي كانت تريد فرض معاهدة بورتسموث في مقابل إلغاء معاهدة 1930 والتي رفضت من قبل الشعب وقواه السياسية حينذاك. في حينها خرجت مظاهرات في مدينة كربلاء مساندة ومؤيدة لأهداف مظاهرات بغداد وبقية المدن العراقية. كنت لتوي قد غادرت المدرسة في طريقي إلى البيت عندما صادفت المظاهرة على مقربة من صحن الحسين فسرت مع المتظاهرين أهتف معهم بذات الشعارات ولكن دون أن أعي مضمونها جيداً. كان عمري حينذاك 13 سنة. ومنها بدأت أولى علاقاتي بالسياسة حيث بدأ ت قريبة لي كانت تدرس في كلية الملكة عالية في بغداد تتحدث لي عن الوضع في بغداد وعن سقوط معاهدة بورتسموث وعن الأوضاع السياسية عموماً. وبعد عامين تقريباً ارتبطت بتنظيمات اتحاد الطلبة وساهمت بتوزيع بياناته وبعد عام منذ لك التاريخ بدأت صلتي بالحزب الشيوعي العراقي، كان ذلك في عام 1951 وعبر نفس القريبة التي كانت تجلب البيانات الحزبية من بغداد. كانت مدينة كربلاء تتميز بسمتين بارزتين هما: محدودية المحيط الذي يمكن أن يتحرك فيه الشباب من جهة، وكثرة الزوار الذين يأمونها لزيارة مرقدي الأمام الحسين وأخيه العباس ولدي علي بن أبي طالب من جهة ثانية. وكلا العاملين كانا يدفعان الشباب إلى التفكير بالظروف المحيطة بهذه المدينة، أحدهما يدفع إلى التمرد على الجو المحافظ والخانق والمشحون دوماً بالحزن والبكاء والرافض للمسرة والأفراح، والثاني يفسح في المجال اللقاء بأناس من جنسيات وقوميات وأفكار متنوعة تسمح بالاحتكاك والاغتناء بالآخرين، خاصة وأن مناهضين للحكم كانوا يشاركون باستمرار في مواكب العزاء الحسينية. لم تكن عائلتي سياسية، رغم أن والدي كان من المشاركين في ثورة العشرين وكان يساهم في صنع العتاد (الطلقات) للثوار. لقد كان الفراغ بالنسبة للشباب مملاً بل قل قاتلاً، وكان البعض يندفع نحو الرياضة والبعض الآخر صوب أحجار الدومنه والنرد، والبعض الثالث صوب الطيارات الورقية، وكثرة منا كانت تتجه صوب السياسة، رغم أننا كنا ما نزال في عمر الصبا.

* كيف تعرفت على الفكر الماركسي، هل جرى من خلال حلقات ثقافية أو سياسية، أم من خلال الجهد الذاتي و الإطلاع على بعض الأدبيات الماركسية؟
- حين ارتبطت بالحزب الشيوعي العراقي كان عمري حينذاك 16 سنة. ومعها بدأت أتسلم الصحافة الحزبية وبعض الروايات والقصص التقدمية والكتب الماركسية. كنت ألتهم الكتب التي تقع بين يدي. كنت أذهب إلى مكتبة المدينة لأحصل على الكتب الديمقراطية والتقدمية منها،أو من أصدقاء لي. قرأت في حينها بعض قصص مكسيم غوركي، ومنها الأم، روايات دستويفسكي وتشيخوف وغوغول وروايات جورج أمادوا وكتاب هيوارد فاست عن الحرب الأهلية في الولايات المتحدة وديفيد جست عن المادية، إضافة إلى البؤساء وقصة مدينتين والعديد من الروايات والكتب لعدد غير قليل من الكتاب الفرنسيين والبريطانيين. وقد درست بعناية كتاب المادية الجدلية للكاتب البريطاني دافيد جيست الذي استشهد في الحرب الأهلية في أسبانيا وكان ما يزال شاباً. وقرأت لخالد محمد خالد وبعض الكتاب المصريين والكاتب اللبناني جورج حنا. كما قرأنا كتابات فهد وماوتسي تونك وبعض كتابات لينين وستالين وأجزاء من رأس المال ترجمها الكاتب المصري راشد البراوي وبعض كتابات إنجلز والبيان الشيوعي ترجمة خالد بكداش... الخ. كان الجهد الأساسي في المطالعة والتثقيف شخصي، إذ لم تكن لدينا مستويات ثقافية جيدة قادرة على تثقيفنا. بدأ العمل الخليوي بعد انتفاضة تشرين الثاني عام 1952 حيث تسنى لي وعبر عفوية كاملة أن اقود تلك المظاهرة في مدينة كربلاء، إذ انطلقنا من ثانوية كربلاء صوب المدينة. وسقط لنا شهداء في تلك المظاهرة مما استوجب الإسراع إلى تفريقها وإنقاذ الناس من رصاص الشرطة. كان أسمي ضمن المطلوبين للاعتقال لولا تدخل السيد هاشم الخطيب، إمام جامع السنة في المدينة، كما كان موظفاً محترماً وأب لعدة أبناء من أصدقائي المقربين. لقد أطلقت تلك المظاهرات شرارة النضال في دم الشباب الكربلائي، وكنت أحدهم. كنت مليئاً حماسة وثقة بقدرة الشعب على تحقيق النصر ضد الحكومات الرجعية. لقد كان النضال في تلك الفترة يتركز حول مسائل أساسية أهمها تشكيل حكومة وطنية وإطلاق الحريات الديمقراطية وعدم الدخول في الأحلاف العسكرية وإنهاء معاهدة 1930 والمشاركة في إيرادات النفط المصدر وإيجاد العمل للعاطلين. كما ارتبط نضالنا الوطني بالنضال من أجل السلام العالمي وضد الحروب والسلاح النووي. وكان الاتحاد السوفييتي يثير في مخيلتنا الكثير من الأحلام الجميلة في حياة حرة كريمة وعدالة اجتماعية. وكان الشعراء الكبار محمد مهدي الجواهري وبدرشاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وكاظم السماوي يثيرون فينا الحماسة والحيوية، كما كنا معجبين بقصيدة محمد صالح بحر العلوم "أين حقي".

* هكذا كانت فعلا الحالة السياسية والاجتماعية في العراق آنذاك، المحبطة لأجيال متعاقبة من الشباب وفي نفس الوقت مثيرة لهم...... الانخراط في العمل السياسي المعارض في العهد الملكي، والتعرض للاضطهاد والملاحقة، ومن ثم الاعتقال والإبعاد.... نود سماع التفاصيل؟
- أصبحت مرشحاً ثم عضوا في الحزب الشيوعي العراقي وأصبحت في وقت مبكر مسؤولاً عن التنظيم الطلابي وعن خلية نسائية صغيرة. لم تكن لدينا حينذاك قيادة حزبية بل كان هناك مسؤول حزبي يتصل به الآخرون بصورة فردية، وأنا منهم، ولكننا كنا ننظم خلايا للأعضاء والمرشحين. كان واحدنا يقوم بمجموعة من الأعمال. فنحن نعمل في صفوف الطلبة وبين النساء ومع العمال والفلاحين والكسبة، وكنا نكتب بيانات اتحاد الطلبة ونوزعها ونلصقها على الجدران وندرس في المدرسة أيضاً، كما كنا نجمع التواقيع على مذكرات أنصار السلام. وهذه الحيوية وكثرة الحركة، وهي جزء من حيوية الشباب وضعف يقظته، جلبت انتباه الشرطة السرية المبثوثة في المدينة، إضافة إلى الوكلاء. ولهذا أصبحنا مراقبين ثم جرى اعتقالي وتقديمي إلى المحاكمة بحجة التشرد، المادة 78 و79 من قانون العقوبات البغدادي في وقت كانت لي عائلة وبيتاً ومدرسة وأباً معروفاً في المدينة. قدمت إلى المحاكمة في عام 1955، ومعي الصديق جاسم حلوائي (أبو شروق). وقد اتفقنا مع مسؤول التنظيم أن نهتف ضد المحاكم والحكومة إن أصدر الحاكم حكماً بالحبس ضدنا. وصدر الحكم بالحبس ستة شهور مع إيقاف التنفيذ. ولم يسمع رفيقي جاسم "إيقاف التنفيذ" بسبب صمم في أذنه، فبدأ بالهتاف وبدأت الشرطة تضربه في وسط المحكمة، مما دفعني إلى الدفاع عنه والهتاف معه ضد حكم نوري السعيد والمحكمة والاستعمار، وتلقيت منهم الضربات أيضاً. نفذ فينا الحكم رأساً ونقلنا إلى سجن الحلة حيث كان المجرم المعروف عبد الجبار فهمي مديراً لسجن الحلة. ثم توالت الأمور فأرسلت إلى معسكر الشعيبة كجندي ثم حكم على بسبب إهانة المحكمة ودفعنا الغرامة، ثم دفع والدي بدل الخدمة النقدي وسرحت من الجيش وذهبت إلى بغداد لمواصلة العمل الحزبي. وبعد عدة شهور اعتقلت في بيت حزبي ومعي الفنان الملحن والعازف عبد الأمير صالح الصراف في عقد النصارى ببغداد وحكم علينا بالحبس والإبعاد حيث أفرج عني في نهاية مايس عام 1958، وكان علي أن أحضر محاكمة أخرى بسبب اعتراف حزام عيال مسئولنا الحزبي في كربلاء بعد اعتقاله في بغداد في عام 1958 في مطبعة جبهة الاتحاد الوطني. إلا أن ثورة تموز أنقذتنا جميعاً من سجن جديد مؤكد. لقد كان الإبعاد بالنسبة لي فترة دراسة ذاتية وتثقيف وإطلاع أفضل على تاريخ وأحوال العراق كنا في الإبعاد نصدر مجلة داخلية ننشر فيها المقالات المتنوعة وكان الصحفي الموصلي خليل عبد العزيز رئيس تحريرها. فكتبت مقالاً في حينها تحت عنوان ملاحظات حول كتاب "أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث" للكاتب والعسكري البريطاني ستيفنسن همسلي لونكريك. فحكم علي وعلى آخرين بالجبس لمدة شهرين قضيناها في سجن بعقوبة، وكان مدير السجن المجرم المعروف علي زين العابدين. وفي السجن التقيت بعدد كبير من المناضلين، ومنهم الشاعر الكردي المبدع والراحل عبد الله گوران، وقد وضعت في الانفرادي وقضيت أياماً مع السجين الشيوعي اليهودي يعقوب المصري، الذي أجبر على تغيير اسمه ودينه في أعقاب ثورة تموز ليبقى في العراق، وسمي عادل المصري، وكان في عام 1946 سكرتير عصبة مكافحة الصهيونية.

* لقد تعرفت شخصيا على السيد عادل المصري، وكان يعكس فعلا صفات وأخلاق المناضلين من أجيال الأربعينيات والخمسينيات الثورية والنقية، ننتقل ألان إلى المرحلة اللاحقة وهي سقوط النظام الملكي بعد ثورة 14 تموز عام 1958 وتأثير ذلك على الحركة السياسية في العراق وفي المنطقة، وتأثيرها المباشر عليك؟
- عشية ثورة 14 تموز كنت جالساً مع أصدقاء لي من أبناء السيد هاشم الخطيب، منهم منذر وقحطان وغسان، في مقهى في شارع أبو نواس نحتسي البيرة المبردة. وكان الحديث يدور عن الوضع السياسي وعن مصاعب النضال وصعوبات إسقاط الحكومة العراقية والمخاطر التي تحيط بالمناضلين والعاملين في السياسة وكان جو التشاؤم يسيطر على الأصدقاء، وكنت أتحدث بعكس الاتجاه. تركنا المقهى في حوالي الساعة الثانية عشر ليلاً، وفي الصباح الباكر كان إعلان الثورة. كان حدثاً هائلاً في نفوس كل الشعب، ولكن بشكل خاص في نفوس أولئك الذين ذاقوا مرارة التعذيب والسجن والحرمان من النظام الملكي الرجعي. لقد كانت ثورة وطنية وديمقراطية ذات أهداف أساسية منها تعزيز الاستقلال والسيادة الوطنية وضمان الحريات الديمقراطية وإنجاز إصلاح زراعي ديمقراطي والشروع بالتنمية الوطنية والتصنيع ومعالجة مشكلة البطالة المنتشرة، وتحرير المرأة والمجتمع من السياسات الرجعية ومكافحة الفساد الوظيفي، وإقامة علاقات تضامن وحسن حوار وعلاقات متوازنة مع العالم الخارجي. وكان للثورة في العراق تأثير كبير وأنعشت النضال الوطني ولكنها في الوقت نفسه حركت القوى الرجعية في المنطقة كلها لمقاومتها وإفشالها بسبب رفضها للأحلاف العسكرية وخروج العراق من حلف السنتو وإنهاء العمل بمعاهدة 1930 930 وخروجه من المنطقة الإسترلينية وإصدار قانون الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية، الذي أعاد للمرأة بعض حقوقها المشروعة وبدأت بممارسة علاقات أفضل مع الشعب الكردي وحقوقه المشروعة، إضافة إلى إقامة علاقات جديدة وطيبة مع الاتحاد السوفييتي ...الخ. لم يكن الفعل العسكري يوم 14 تموز 1958 سوى انتفاضة عسكرية مناهضة للنظام الملكي، إلا أن الشعب حاول أن يحولها إلى ثورة من خلال ضغطه المتواصل لتجذيرها بإجراءات وسياسات جديدة أكثر عمقاً وديمقراطية.
* هذا صحيح ولكنها لم تكن على شاكلة الانقلابات العسكرية، كما كان يحدث في سوريا مثلا، لقد تأسس، ولأول مرة في تأريخ العراق، نظام جمهوري وقدم برامج سياسية ذات ملامح ديمقراطية وانتهج سياسة اقتصادية لصالح الطبقة المتوسطة والفقيرة.
- ولكن الثورة لم تستمر طويلاً، إذ سرعان ما انتكست. لم عجز المجتمع عن تحقيق الثورة. والثورة لا تعني انتفاضة وحسب، بل تعني من حيث المبدأ تغيير علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع وتطوير القوى المنتجة المادية والبشرية، وهو الذي تعرقل ولم يتحقق. إذ تضافرت ضد الجمهورية الجديدة مجموعة من العوامل لتدفع بها إلى الهاوية. كانت الثورة بشكل عام سلمية في ما عدا بعض التجاوزات غير المشروعة والمخلة التي وقعت على العائلة المالكة وعلى بعض المسؤولين مثل نوري السعيد وابنه صباح. وحسب علمي من النادر أن تفجرت انتفاضة عسكرية وشعبية من هذا الوزن دون أن تسيل الكثير من الدماء. إلا أن نجاح الانتفاضة العسكرية السريع وتأييد الشعب الواسع لها ساعد على استبعاد وقوع ضحايا كثيرة وعلى التزام الناس بالقانون ونداءات الثوار بالهدوء. علينا أن لا ننسى بأن المظالم كانت كبيرة والضحايا غير قليلة، تلك التي تسبب بها النظام الملكي، ولهذا كانت الرغبة عارمة لدى بسطاء الناس في الانتقام من أقطاب الحكم السابق وخاصة عبد الإله ونوري السعيد. ومع ذلك كان يفترض أن لا يحصل ما حصل من قتل وسحل في الشوارع. لكم أن تقارنوا بين ثورة تموز 1958 وبين ما حصل في أعقاب سقوط نظام الاستبداد في التاسع من نيسان 2003.

* تحول الحزب الشيوعي العراقي بعد ثورة 14 تموز إلى حزب جماهيري كبير، وأصبح دوره مؤثرا في الحياة السياسية في العراق، وأثار ذلك حفيظة الرجعية والأحزاب القومية في العراق والأنظمة العربية إضافة إلى الغرب، ما هو تقييمكم لدور الحزب في هذه المرحلة ؟ وهل استوعب الحزب ظروف المرحلة الدقيقة وتعامل بنضج ووعي سياسي معها؟
- ما تقوله صحيحاً. فقد أصبح الحزب الشيوعي يحتل موقعاً مميزاً في الأوساط الشعبية وفي الحياة السياسية، ولكنه كان مبعداً عن المشاركة بالسلطة السياسية، رغم مشاركته الحيوية في جبهة الاتحاد الوطني وفي النشاط العسكري لتنظيمات الضباط والجنود التابعة للحزب الشيوعي العراقي، ورغم مشاركته في دعم نجاح الانتفاضة ولي في ما أقوله شواهد كثيرة. لقد أوجدت هذه الحالة فجوة واسعة بين مسؤولية الحزب في الشارع وقدرته الواسعة في التأثير فيه، وبين غيابه عن المستوى الرسمي، مما دفع بالشيوعيين إلى التعويض عن هذا النقص من خلال الشارع. ولم يكن هذا الموقف سليماً، إذ قاد إلى بروز فجوة وصراع بين قاسم وقيادة الحزب الشيوعي. ولكن المشكلة لم تقف عند هذه النقطة، رغم أهميتها، بل تجاوزتها إلى السياسة التي مارستها القوى القومية والبعثية في العراق وحكومة عبد الناصر والحكومة السورية في التآمر على حكومة عبد الكريم قاسم، حين طرحت شعار الوحدة مع مصر وسوريا، في حين كانت القوى الأخرى لا ترى صواب ذلك ورفعت شعار الاتحاد الفيدرالي، الذي رفعه الحزب وأيدته الكثير من القوى الأخرى. وهكذا نشب الصراع بين الشيوعيين وقوى ديمقراطية أخرى وبين القوميين والبعثيين وبعض القوى الرجعية. ثم تفجرت ثورة أيلول 1961 الكردية ضد سياسات عبد الكريم قاسم إزاء حقوق الشعب الكردي، ودور القوميين في تعميق الخلاف بين قاسم والملا مصطفى البارزاني. يضاف إلى ذلك تلك القرارات التي اتخذها قاسم ضد المصالح البريطانية في العراق وضد شركات النفط الاحتكارية حين استعاد 99،5% من الأراضي العراقية التي كانت تحت تصرف الحكومة وبدأ بتأسيس شركة نفط وطنية لاستخراج وتصدير واستخدام النفط الخام في العراق ثم مطالبته غير المشروعة بالكويت باعتبارها جزءاً من العراق وهدد باستخدام القوة لتحقيق ذلك، مما جعلها تعمل لقلب نظام الحكم وتجد الدعم والتحالف مع القوى المناهضة له في الداخل من متضررين من الإصلاح الزراعي وغيرهم.

* دكتور كاظم، نحن لا ننسى بأن قيادة عبد الكريم قاسم فوجئت بردة فعل من قبل القوى القومية والإسلامية غير متوقعة وخاصة حالة العداء المكشوفة والشعارات السياسية والمطلبية التي رفعتها... البعيدة عن واقع وظروف المرحلة السياسية والاجتماعية التي كان يمر بها العراق آنذاك، بالإضافة إلى الصراع السياسي الذي احتدم بين كافة القوى السياسية والذي أدى إلى عرقلة نمو وتطور الوضع السياسي ومن ثم إلى انتكاس الثورة وتراجعها!
- حقا لقد كانت سياسات الأحزاب العراقية كلها في حينها طفولية، أو صبيانية متشنجة، بين يسارية ويمينية، ولكن أسوأ تلك السياسات كانت تلك التي مارستها القوى القومية والبعثية وبعض قوى الإسلام السياسي الشيعية التي كرهت قاسم لأنه أصدر قانون الأحوال الشخصية، حيث منحت المرأة بعضاً قليلاً من حقوقها، وتأسس لأول مرة الحزب الفاطمي المناهض للحكم الديمقراطي. وفي هذه الفترة برز نشاط سياسي لأحزاب سياسية إسلامية سنية أيضاً التقت من حيث الجوهر بنفس المواقف الشيعية، ولكنه كانت تزيد عليها باتهام قاسم بالشعوبية تماشياً مع اتهامات القوميين لحكومة قاسم وللشيوعيين. لقد شارك الحزب الشيوعي في الدفاع عن الثورة ونجاحها وعن الجمهورية، ولكنه غالى في دوره وفي مطالبه، وتصور بأنه الوحيد الذي يدافع عن الجمهورية. خاصة وأن الوضع وطبيعة المرحلة لم تكن تتحمل أكثر مما تحقق في حينها. لم يكن موقف قيادة الحزب الشيوعي موحداً إزاء الوضع السياسي، مما جعل الأمر صعباً. وارتكب الحزب بعض الأخطاء منها مثلاً إصراره على تظاهرة أنصار السلام في الموصل التي فجرت الأوضاع هناك، أو انجراره في أحداث كركوك دون رغبة القيادة، أو الشعارات التي رفعها والتي عمقت الخلافات مع قاسم. أعتقد بأن الحزب كان يسعى إلى تطوير الثورة الوطنية إلى ابعد من حدودها الوطنية والديمقراطية، ولهذا لم يكن تفكير قادة في الحزب وفي القوات المسلحة صائباً حين طرح احتمال قيام تنظيم الحزب الشيوعي العراقي في الجيش بحركة ضد الوضع حينذاك بحجة إنقاذ الجمهورية، إذ كان الحزب يمتلك تنظيماً قوياً، إذ كان من المتوقع أن تنتهي العملية إلى كارثة لا محالة، رغم أن العكس قاد هو الآخر إلى كارثة 1963. أكملت دراسة عن هذه الفترة المهمة من تاريخ العراق وسيصدر ضمن مجموعة الكتب الجديدة التي أسميتها "لمحات من عراق القرن العشرين" وتقع في سبعة أجزاء. والجمهورية الأولى تشكل محور الكتاب الرابع فيها وقد أنجزت منها حتى الآن خمسة أجزاء.

* بعد سقوط النظام الجمهوري الأول في الانقلاب الدموي الذي قادته الأحزاب القومية وعلى رأسها حزب البعث العراقي في 8 شباط عام 1963 وانتهاج قادته سياسة تدميرية ضد القوى اليسارية والديمقراطية على صعيد الداخل وضد المعسكر الاشتراكي على صعيد الخارج، نود أن تسلط الأضواء عليه و تأثيرها على الحزب الشيوعي وعليك شخصيا؟
- لقد تجمعت عوامل كثيرة أثمرت ذلك الوليد اللقيط، انقلاب 8 شباط 1963 ضد حكومة عبد الكريم قاسم وسقوط عبد الكريم ومجموعة من قادة ثورة تموز مضرجين بدمائهم بعد أن قرر الانقلابيين قتلهم في محطة إذاعة وتلفزيون بغداد وعرض صورهم على الملأ. كما غاصوا بدم الشعب وسقط المئات من المناضلين قتلى وزج بالآلاف من المناضلين بالسجون ومن مختلف القوى والأحزاب الديمقراطية ولكن بشكل خاص من قادة وأعضاء ومؤازري ومؤيدي الحزب الشيوعي العراقي.
لقد تعاونت القوى القومية والبعثية مع القوى الرجعية والإقطاعيين والكومبرادور المحلي ومع بعض القوى الإسلامية السياسية إضافة إلى تأييد قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني للعمل الانقلابي المناهض لحكومة عبد الكريم قاسم، بسبب الحرب التي شنها الجيش بأمر من قاسم ضد الحركة الكردية المسلحة التي كان يقودها الملا مصطفى البارزاني. وكانت شركات النفط الاحتكارية والدول الرأسمالية المتقدمة تقف كلها إلى جانب المناهضين لحكومة قاسم وتريد الخلاص منها. وفي المقابل ساهم عبد الكريم قاسم في إضعاف جبهته الداخلية والقوى المؤيدة له لأسباب كثيرة وبعثر القوى العسكرية التي كان يهمها الحفاظ على جمهورية 14 تموز. لقد حصل الانقلاب وقام الحزب الشيوعي يدافع عن الجمهورية، ولكن دون أن يحصل على دعم من قاسم بتسليمه السلاح مما ساهم في نجاح الانقلاب. وكان المفروض في تلك الفترة، خاصة وأن الحزب لم يكن مستعداً للقتال أن لا يزج بقواه في معركة بدت خاسرة بعد أن رفض قاسم بالقطع إعطاء الأسلحة للمدافعين عن النظام الجمهوري وحكومة قاسم.

*هل تقصد أن عدم زج قوى الحزب في المعركة ضد الانقلابيين كان يمكن أن يجنبه الهجوم الشرس والتصفيات الدموية التي تعرض لها إثناء الانقلاب وبعده، وخاصة بعد صدور بيان رقم 13 السيئ الصيت!!
- لقد فقد الحزب الشيوعي العراقي أعداداً غفيرة من المناضلين بين شهداء ومغيبين ومعتقلين ومشردين وهاربين صوب جبال كردستان. لقد كانت الضربة قاسية جداً.. جداً خاصة وأنها التهمت عدداً كبيراً من أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية وكوادر المناطق والمحليات والكوادر العاملة في منظمات الشبيبة والطلبة والمرأة والسلام والعمال والفلاحين... الخ. وكان عداء البعث للحزب الشيوعي العراقي شرساً والعواقب كانت وخيمة على الحزب الشيوعي لفترة غير قصيرة. لقد سقطت ثورة تموز بفعل أخطاء قادتها والأحزاب السياسية التي تميزت بالطفولة السياسية والذاتية وضعف الوعي السياسي والاجتماعي وبسبب شوفينية وقصر نظر وتعطيل عمل العقل لدى القوى القومية، وهو ما تمارسه اليوم في العراق أيضاً.

* بعد سقوط النظام الدموي الأول للبعث في تشرين الثاني/نوفمبرعام 1963، إثر انقلاب قاده عبد السلام عارف، انخرطت في العمل من أجل إعادة بناء منظمات الحزب التي دمرت، نود أن تحدثنا عن هذه الفترة التاريخية العصيبة من تاريخ العراق؟
- كنت في الدراسة الجامعية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية عندما سقطت الجمهورية الأولى وعندما سقطت الجمهورية الدموية الثانية التي قادها البعث والقوميون، ثم أسقطت على أيدي الحليف القومي الناصري. بعد أن أنهيت دراستي الجامعية والماجستير سجلت على الدكتوراه وعدت إلى الوطن بصورة سرية. عملت في تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي منذ النصف الثاني من عام 1964 وكنت مسؤولاً عن خط المثقفين، وكان السياسي والمهندس المعروف إبراهيم علاوي عضواً فيها، إضافة إلى مسؤوليتي عن خط الكرادة في التنظيم المحلي. وفي عام 1965 كان الصديق والشهيد الدكتور صباح الدرة عضوا في تنظيم لجنة المثقفين وكان يقود لجنة الصحفيين وفيها كان الصديقين فخري كريم وفائق بطي. التحقت بتنظيم بغداد وأصبحت عضواً في المنطقة وانتخبت لمكتبها وتسلمت مسؤوليات جديدة. كنت أعيش مختفياً في بيت أخي الراحل الدكتور مهدي حبيب، وأعمل ليل نهار للتنظيم وأجد فرصة لتجميع المعلومات لكتابة الدكتوراه وأستعين بأخي لتوفير الكتب من المكتبة الوطنية ببغداد. لقد استشهد العديد من رفاق قيادة المنطقة ومنهم محمد الخضري وعبد الأمير سعيد و شاكر محمود، وكانت معنا الدكتورة نزيهة الدليمي ومهدي عبد الكريم وعبد الأمير عباس (أبو شلال)....
لقد كان العمل كثيفاً. ثم تسلمت إضافة إلى ذلك تنظيم الطلبة الحزبي والإشراف على التنظيم الاتحادي. وفي حينها شكل الحزب خطاً خاصاً سمي باسم خط حسين يمهد لعمل عسكري ضد السلطة. كنت مسؤولاً عن هذا الخط في صفوف الطلاب. وكانت تعمل معنا كوكبة من الطالبات والطلبة الشيوعيين. وقد أنجزت التنظيمات الكثير من العمل التحضيري، إلا أن البعث هو الذي نفذ الانقلاب العسكري في القصر ضد عبد الرحمن عارف.
في العمل الحزبي كانت تحصل الكثير من المفاجئات الطريفة. كنت مرة أقف قرب كنيسة الأرمن قرب ساحة الطيران في بغداد بانتظار تسلم عضو في لجنة تنظيم البتاويين لاستلامه وربطه بالتنظيم. كنت أرتدي بدلة جديدة وربطة عنق. جاء بعد تأخر 10 دقائق شخص يشد وسطه بوزرة (إزار) ويجر بيديه دراجة هوائية ثم توقف عند الموقع نفسه وأخرج إشارة الاتصال المتفق عليها في ورقة الترحيل. تحدثت إليه فكان هو الرفيق المقصود. سألته: ولكن لماذا يا رفيقي بالوزرة؟ قال أنا مدلكچي بالحمام ولم استطع الخلاص من الزبون، إذ كان يريد المزيد من التدليك. وها أنت ترى حالي. مشينا قليلاً ووجدت المنظر غير معقول أفندي بربطة عنق ومهندم تماماً ورفي عار في ما عدا الإزار ويجر دراجة يسيران جنباً على جنب، فلا يمكن إلا أن يكونا من الشيوعيين. رجوته أن يعود إلى العمل قبل أن يفتضح أمرنا واتفقنا على موعد جديد. كان ذلك صيف عام 1965.

* إنها فعلا ذكريات ممتعة..... عاد حزب البعث العراقي إلى السلطة في انقلاب من داخل القصر الجمهوري عام 1968، وبدأ تاريخ حقبة سياسية طبعت التاريخ الحديث للعراق طيلة ما يقارب ثلاثة عقود ونيف، كيف استقبلت عودة البعثيين للسلطة ودعوتهم للحزب الشيوعي العراقي من اجل التعاون والعمال المشترك؟
- كنت مناهضاً لأي شكل من أشكال العمل المشترك مع حزب البعث اليميني. ولكن نظمنا بعض الفعاليات مع جماعة البعث اليساري مثلاً فعالية في الذكرى الأولى لنكسة حزيران عام 1967. لقد اصطدمت مع العديد من الرفاق حين كنت مسؤولاً عن لجنة المثقفين قبل انقلاب 68 في مواقفي ضد البعث بشكل عام. وعندما وقع الانقلاب الثاني للبعث كنت عضواً في لجنة ومكتب منطقة بغداد للحزب الشيوعي. كنا جميعاً متشائمين جداً من مجيء البعث. أراد المكتب السياسي للحزب أن يصدر بياناً حول الوضع، فأرسل مسودته إلى المنطقة لنبدي رأينا فيه. توزعت قيادة المنطقة على اتجاهين: الاتجاه الأول حبذ البيان واعتبره مناسباً، ورفضه الاتجاه الثاني وقدم مجموعة من التعديلات لتغيير فحوى البيان ووجهته. كانت الدكتورة نزيهة وحسين سلطان وآخرين مع البيان، وكان مهدي عبد الكريم، سكرتير المنظمة، ومحمد الخضري وأنا وبعض الرفاق الآخرين، نشكل الأكثرية، ضد البيان بصيغته التي كتب فيها. صدر البيان في 29/7/1968 بتعديلات مفيدة، ولكن لم يفقد طابع المرونة النسبية فيه. ومع مرور الوقت تغيرت مواقفنا واتجهنا صوب المطالبة بالتحسينات على سياسة البعث. وفي أكتوبر 1968 نظم الحزب تظاهرة في ساحة السباع احتفالاً بثورة أكتوبر وكنت أحد المسؤولين عنها لأنها حصلت في إطار منطقة بغداد. وقد وجه البعثيون للمجتمعين جندهم وتوجهوا بالنار ضد المتظاهرين لتفريقها. وبدا واضحاً بأن البعثيين لم يتغيروا، وهم نفس المجموعة التي قتلت قادة الحزب الشيوعي ورفاقه ومؤيديه وغيرهم من الديمقراطيين في انقلاب شباط عام 1963. في أعقاب عقد مؤتمر الحزب الثاني في عام 1970 وجه حزب البعث ضربة شرسة ضد تنظيمات الحزب الشيوعي في بغداد وأجبر جمهرة كبيرة على الاختفاء، وبقي القليل من الكادر في بغداد يعمل بصورة مناسبة لتحقيق الارتباط بالتنظيمات، رغم أن الحزب كان مرناً في مواقفه الصادرة عن المؤتمر. كنت في حينها مدرساً في الجامعة المستنصرية وبقيت أعمل مع آخرين ومنهم نوري عبد الرزاق ومكرم الطالباني وبشرى برتو كوجوه علنية.
كانت قاعدة الحزب ترفض البعث وترفض التعاون معه. إلا أن جزءاً مهماً من اللجنة المركزية بدأ يميل إلى التعاون بعد ضربة 1970/1971، خاصة وأن الاتحاد السوفييتي قد تدخل لإطلاق سراح بعض المعتقلين من العاملين في الخط العسكري ومنهم ثابت حبيب العاني، ومجموعة من الرفاق العسكريين الذين فرض عليهم التوقيع على بيان خاص بموافقة الحزب، والدفع باتجاه التعاون. وفرض على الحزب عدم العمل في الجيش. مع التطورات التي جرت في أعقاب مؤامرة ناظم كزار رأي الكثير من الشيوعيين ضرورة التعاون لدفع البلاد بالاتجاه الأفضل، وكنت منهم، رغم تحفظاتي السابقة والشديدة على حزب البعث. لم نستمع إلى رأي القاعدة، وكنا مخطئين حقاً. أدركت مخاطر البعث ووجهته بشكل واضح في أعقاب الحوار الذي جرى بيني وبين صدام حسين في أيلول/سبتمبر عام 1976 ودام حوالي الساعتين. وتجلى ذلك في التقرير الذي كتبته للحزب أولاً وفي التقرير الذي أعدته اللجنة الاقتصادية التي كنت مسؤولاً عنها إلى الحزب في أوائل عام 1977 حيث أشرنا على الوجهة الخطرة التي يسير فيها البعث والمخاطر التي ستواجه الحزب والحركة الوطنية. إلا أن الوقت كما كان يبدو قد فات، إذ أن الحزب كان انكشف بالكامل لقوى الأمن الداخلي. وكان في مقدور البعث ضرب الحزب ضربات موجعة في كل لحظة.

*يبدو من حديثك، ومعرفتنا كذلك، بأن قيادة الحزب لم تعر رأي القاعدة وحس الجماهير الاهتمام الكافي، بعبارة أخرى فقدان الديمقراطية الداخلية وتشديد المركزية وربما التعالي على رأي الجماهير....... دخل الحزب الشيوعي العراقي عام 1973 مع حزب البعث في جبهة عمل مشتركة، أثيرت حولها الكثير من الجدل حول جدواها والشروط القاسية التي قبل الحزب بها، والتي قوبلت بامتعاض واعتراض قاعدة واسعة من داخل الحزب ومن أوساط الشعب العراقي، نرجو أن تحدثنا، باعتبارك أحد قادة الحزب آنذاك، عن دور الحزب الشيوعي السوفييتي في الضغط على قادة الحزب الشيوعي العراقي من أجل الدخول في هذه الجبهة والمسيرة الشائكة التي رافقتها؟
- كنت عضواً في اللجنة الحزبية المسؤولة التي تدرس تفاصيل التحالف وتقدم المقترحات إلى لجنة الحوار المباشر مع حزب البعث. كان الرفيق زكي خيري يقود اللجنة الأولى، في حين كان الرفيق عزيز محمد يقود اللجنة الثانية. وكانت الوجهة هي التحالف مع البعث، وكانت اللجنة متفقة على ذلك، ولكنها كانت تسعى إلى تقليص الشروط المخلة. إلا أن القبول بالتحالف مع البعث وقبول شرط عدم العمل في الجيش قد أسقطا قدرة الحزب على الحوار المستقل والمساومة مع البعث لتقليص الشروط. كان الخلل الجوهري يكمن في موافقتنا، وأنا منهم، على التحالف مع البعث أساساً، تبعه خلل أخر ناتج عنه هو القبول بقيادة البعث للجبهة وهو في الحكم، واعتبار انقلاب 17 تموز 1968 ثورة.
لم أتحاور مع السوفييت في تلك الفترة ولا بعدها لا على المستوى الحزبي أو الحكومي، لهذا لا أدري كيف كانت تجري الأمور، إذ كنت لتوي (1972) قد رشحت للجنة المركزية. لهذا لا تسمح لي معلوماتي البت في مدى ضغط السوفييت على قيادة الحزب للتحالف مع البعث، خاصة وأن السوفييت كانوا يسعون إلى الحصول على قواعد عسكرية في العراق في مقابل تزويد العراق بالسلاح وعقد معاهدة الصداقة، وكان عامر عبد الله في حينها هو الوسيط المعروف. وكان هذا الواقع يغري السوفييت بالضغط المباشر وغير المباشر على الحزب لقبول التحالف بأي ثمن. كما أن ثلاثة عوامل لعبت دورها في التأثير على موقف الحزب للتحالف مع حزب البعث، وهي:
1) عقد اتفاقية الصداقة العراقية السوفييتية في ربيع عام 1972.
2) تأميم النفط الخام بعد ذلك مباشرة، رغم نصيحة السوفييت بعدم التأميم.
3) محاولة انقلاب ناظم گزار وفشلها وغلق قصر النهاية.
لقد كان التحالف، كما أرى وربما يرى غيري غير ذلك، خطأً تاريخياً ارتكبناه، وأنا منهم) في حينها وما زال الحزب الشيوعي العراقي يدفع ثمنه، كما يدفع الشعب ثمنه غالياً. وفي الوقت الذي ابتعدت القوى السياسية الأخرى عن حزب البعث اقتربنا نحن في حينها منه. وفي هذا خلل كبير أيضاً، إذ سمحنا للبعث، شئنا ذلك أم أبينا، بممارسة سياسة فرق تسد والتحالف مع حزب معين لضرب آخر وهلم جرا. لقد أهملنا رأي الشعب ورأي قوى المعارضة الأخرى والقوى الكردية التي بدأت في حينها صراعاً جديداً وحاداً مع حزب البعث انتهى بكارثة 1975، وكانت العاقبة سيئة جداً للمجتمع العراقي.

*كان قادة الحزب الشيوعي العراقي يقومون بزيارات دورية للاتحاد السوفييتي من أجل المشاورة مع قادة الحزب الشيوعي السوفيتي وكنت احد هؤلاء القادة، نرجو أن تحدثنا عن انطباعك عنهم وعن دورهم في التأثير على سياسة الحزب الشيوعي العراقي؟
-. لم أكن في أي مرة من المرات ضمن أي وفد حزبي دخل في حوار مع السوفييت حول أي من القضايا المشار إليها. لقد زرت الاتحاد السوفييتي عندما كنت عضواً في هيئة تحرير مجلة قضايا السلم والاشتراكية. لهذا لا أستطيع الحديث عن هذا الموضوع حقاً، إذ لا يحتمل مثل هذا الأمر أي اجتهاد بل يحتاج إلى وقائع ثابتة حول الموضوع. وأشير إلى أن الوفود التي كانت تسافر، كانت تطرح نتائج زياراتها بشكل عام وليس بالتفصيل وبعد فترة بعيدة من عودتها عموماً

* باعتبارك احد الخبراء الاقتصاديين المعروفين في العراق، وكنت أستاذا لمادة الاقتصاد في الجامعة المستنصرية، كما كنت احد الموظفين الكبار في الدولة العراقية وقدمت العديد من البحوث الاقتصادية، وكانت هناك محاولة جادة من قبلك لتوجيه الاقتصاد والموارد المالية الكبيرة وجهة اقتصادية عقلانية تخدم النمو الاقتصادي والسكاني في العراق، جوبهت هذه المحاولات بالرفض من قبل قادة الحكم وخاصة صدام حسين، كلنا نتذكر الندوات الواسعة التي أقيمت حول ما يسمى" زيادة الإنتاج" المثيرة للجدل والتي كان يقودها صدام حسين شخصيا ومشاركتك فيها، نرجو أن تحدثنا عنها؟
- كنت احد الاقتصاديين العراقيين وكنت مسؤولاً عن اللجنة الاقتصادية الحزبية مع مجموعة من بين خيرة اقتصاديي العراق حينذاك، ومنهم الدكتور جعفررعبد الغني والدكتور صباح الدرة والدكتور غانم حمدون والدكتور موفق فتوحي... وكنا نقدم الدراسات للحزب بأمل الاستفادة منها في تقارير اللجنة المركزية أو في رسم سياسة الحزب.
قدم الحزب في ضوء دراساتنا الكثير من المقترحات لتغيير الوضع الاقتصادي، ولكننا كنا نسبح ضد تيار البعث المصمم على سياسة معينة، وعندما صدر قرار تنفيذ سياسة التنمية الانفجارية عن المؤتمر القطري الثامن لحزب البعث في نهاية عام 1974 كتبت ضده وطرحت وجهة نظري بصراحة في أكثر من مناسبة، كما ناقشت صدام حسين بذلك في أحد الفعاليات الاقتصادية في جمعية الاقتصاديين العراقيين. وعقدت لقاءً مع الدكتور فخري قدوري لمعرفة تصوراته وتقديم تصوراتي عن التنمية الانفجارية، وكان في حينها رئيس مكتب الشؤون الاقتصادية في مجلس قيادة الثورة ودام الاجتماع عدة ساعات، أدركت فيها أنهم سائرون على طريق درب الصد ما رد ولن ينفع الحديث لتغيير السياسة الاقتصادية والاجتماعية، إذ أن أموال النفط التي كانت تتساقط على رؤوس البعثيين مثل زخات المطر أعمت بصيرتهم وبصرهم في آن واحد وركبوا رؤوسهم وساروا على نهج مميت. ومع ذلك فقد كتبت الكثير وناقشت الكثير حتى ألقي القبض علي من جانب حزب البعث، بسبب نشري مقال في جريدة طريق الشعب تحت عنوان القوانين الاقتصادية الموضوعية والسياسة الاقتصادية، التي انتقدت فيها بقوة سياسة البعث وعواقبها على الاقتصاد الوطني وتصادمها مع القوانين الاقتصادية الموضوعية، إضافة على شني حملة علنية واسعة ضد قتل بين 32 -34 شيوعياً وديمقراطياً بحجة كونهم كانوا يعملون في القوات المسلحة. وكانت الحصيلة اعتقالي وتعذيبي وإحالتي على التقاعد بدون راتب تقاعدي مع إنزالي درجتين وظيفيتين وتقديمي إلى محكمة الثورة بتهمة إهانة الثورة وقيادتها. لقد اعتقلت وعذبت في مديرية الأمن العامة، ولكنهم خسأوا الأوباش إذ عجزوا عن انتزاع أي شيء مني. لقد كنت على حافة الموت عندما فحصني الطبيب البعثي وهمس بأذني" الحمد لله على سلامتك دكتور كنت على وشك الموت"، ولا أدري إن كان رجال الأمن قد أخبروه باسمي بعد جولة التعذيب الشرسة حين أغمي عليً تماماً، أو أنه كان يعرفني قبل ذاك.
لقد درّست في الجامعة المستنصرية، وكنت واضحاً في المادة التي أقدمها وكانت نقدية لسياسات البعث من الناحيتين النظرية الفقيرة والعملية السيئة، وكان البعثيون يشعرون بالحرج من محاضراتي، ولكني كنت أقدم الوقائع وأحللها لهم. وجاء نقلي إلى المجلس الزراعي الأعلى مفاجئاً لي ولم ارفضه ووافقت قيادة الحزب عليه، ولكني كنت أدرك بأن لا مجال للعمل في الجامعة، إذ كان التضييق قد بدأ واضحاً. وفي المجلس اصطدمت بحقيقة أن المقترحات التي أتقدم بها كانت ترفض دون استثناء، إذ أنهم كانوا يعملون على قاعدة "تريد أرنب أخذ أرنب، تريد غزال أخذ أرنب".
لقد كان النظام البعثي قد سقط قبل ذاك بكثير في مستنقع الاستبداد والفساد الوظيفي على نطاق واسع ابتداءً من القيادة القومية ومروراً بالقيادة القطرية والوزراء وكبار العاملين في أجهزة الدولة والمؤسسات ومنشآت القطاع العام. ولم يكن ميسوراً التصدي لهذه الجيفة النتنة. وكان على رأس الحرامية صدام حسين وإفراد عائلته والبعض من أبناء عشيرته والمحيطين به.
لم تكن للبعث الحاكم سياسة اقتصادية، بل كانت لدى الدولة موارد مالية كبيرة يراد صرفها كيفما اتفق. ولكن كانت لديهم سياسة مرسومة للتسلح بمختلف أشكال السلاح وإقامة ترسانة ضخمة وحديثة، وكان الهدف منها:
1) تصفية الحركة الكردية ومطالب الشعب الكردي ومعها تصفية كل القوى السياسية التي تقف بوجه سياسة البعث.
2) امتلاك القدرة العسكرية لمواجهة إيران في زمن الشاه أو فيما بعد أيضاً.
3) محاولة تحقيق الوحدة بين العراق ودول الخليج وسوريا من خلال القوة المخيفة التي كان يسعى النظام إلى امتلاكها وتحت قيادة صدام حسين.
4) لقد كان صدام حسين يسعى إلى امتلاك السلاح النووي والأسلحة الكيماوية والبايولوجية منذ فترة مبكرة من هيمنته على الحكم. وقد كتبت مقالاً بهذا الصدد أشرت على تلك الجهود وإلى القوى والدول التي تدعمه على هذا الطريق ونشر في حينها في مجلة قضايا السلم والاشتراكية.

يتبع